"ان السياسة ليست خبرة تقنية بمعاجمها المعقدة أو تأسيساتها الإستراتيجية ،بل تتبدى قبل كل شيء في التنوع البشري والألسني والرؤيوي .الفضاء العمومي بشبكاته الاجتماعية ،الواقعية منها والافتراضية ،هو مستقبل الفعل السياسي ومستقبل الحرية،لأنه يتعدى النخبوية نحو الإنسان العادي ؛أي نحو العموم من الناس ،الذين كانوا بالأمس القريب مجرد حشود ،أو جماهير بالمعنى السلبي والأيديولوجي .أما اليوم ،وبفضل التطور في الحقوق العالمية والمعلوماتية والفضاءات الافتراضية ،فان الفعل السياسي من شأنه أن يتعمم ويتعولم ،يتأنسن ويتحرر." د محمد شوقي الزين في"سؤال الحرية في التفكير الفلسفي والسياسي عند حنه أرندت. مجلة الأزمنة الحديثة ع:5 صيف2012 في الليلة الظلماء يفتقد البدر في الوقت الذي احتلت فيه حركة العشرين فبراير نهايات أسابيعنا،لشهور؛وطالبت بإسقاط الفساد فقط؛اذ لم تكن تعلم أن من أسمائه العفاريت،الأشباح والتماسيح. في تلكم الأوقات العصيبة والحبلى ؛بدون معرفة أحد بما ستضعه أُولات الأحمالِ ،من بنات الدهر –أو قلْ الزمن المغربي- تهاوت كواكبُ سياسيينا ،في ليل بهيم ،مُرعد ومُبرق، لف الخريطة العربية كلها. "يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا..."في تلكم الأوقات كانت الدولة-ولا أقول النظام فقط ،أو المخزن- بحاجة ماسة الى رجالها للإصغاء الى نبض هذا الشعب الذي قرر أن يعلن،بعد طول إضمار، أنه يريد. كانت بحاجة الى ساسة في مستوى اللحظة ،ينزلون إلى الحارات العليا والسفلى ،ويلفون في الشوارع الخلفية، التي لا تصلها شمس الحقوق. أين هم أصحاب البدل الداكنة ،والسيارات الفاخرة واللغة الخشبية؟ أين من أوغلوا في مُتَعِ الدولة ؛وحَفَّظوها لأجيال من أبنائهم وأحفادهم ؟ اذا استثنينا بنكيران الذي أدلى،في كل حارات الوطن ، برصيده من الريع الديني ،وبرصيده السياسي، وحنكته في في التواصل؛وأخيرا بلسانه الحافي الذي يحيط بكل البلاغة الشعبية . اذا استثنينا هذا الرجل ؛ومن الجبهة المقابلة رجال القومة واليسار المعارض؛فان البقية أصابها الشلل والعَيُّ؛فلا هي تساند ولا هي تعارض . "امض أنت وربك فقاتلا ......" ورغم النتائج التي حققها بنكيران؛متقمصا دور الناصح للدولة، والمهتم بمطالب الفبرايريين، فان الشريحة العريضة من الشباب الفقير، لم تكن تسمعه لأنها كانت بعيدة حتى عن مطالب الحراك؛وهي مطالب أبناء الطبقة الوسطى غالبا. حتى الخروج الى الشارع للتظاهر السلمي كان ترفا لا تحلم به هذه الطبقة الفقيرة التي لم تكن- ولا تزال- تتوقع من الدولة غير العنف. درس الرصيف: انتبهت الدولة إلى هذا الاحتياطي الشعبي الضخم والخطير ،الذي لم يتواصل بعد مع الحراك؛فقررت أن تلعب ورقة السقوط الرمزي بفتح الفضاء العمومي، في كل المدن أمام كل أشكال التجارة الرصيفية. ونتذكر جميعا كيف احتلت جحافل الشباب حتى أرقى الشوارع ؛بل وأغلقت حتى بعض الطرق أمام حركة السير ؛على مرأى ومسمع من رجال الأمن . ولن أنسى أبدا مناظر سريالية لا شك أن كل واحد من القراء لاحظ مثلها: *شارع كبير في الدارالبيضاء، احتل الباعة كيلومترات من طوله ،وثلثين من عرضه.بقي الثلث للسيارات تتدبر أمرها كما اتفق للسائقين ؛في غياب تام لشرطة المرور.(الشارع الكبير المفضي الى طريق ابن سليمان). *عربة خضر يجرها حمار تمر بمحاذاة المدخل الرسمي لولاية وجدة؛ولولا بقية هيبة لنادى على بضاعته وحرس العمالة ينظرون. *في طريق مراكش،التجارية، بوجدة ،أوقف عدد من الباعة دراجاتهم في باب الصيدلية،حتى صعب الولوج إليها ؛ولما خرج الصيدلي محتجا أحاطوا به بعيون تقدح شررا ،ففضل السلامة صاغرا ؛وخاطبني منفسا عن غضبه: أبمثل هذا سيسقطون الفساد؟ لقد كانت فعلا أياما عصيبة عاشها المواطنون والتجار ؛الى درجة تسرب معها الخوف الى النفوس، من استمرار هذه الفوضى العارمة في الشارع العام. حتى هؤلاء الذين فكت الدولة عقالهم ليمارسوا ما يشاؤون من تجارة حيث يشاؤون؛ توهموا أن الفوضى المؤقتة ستصبح دائمة، ولهذا تمسكوا ،يوما بعد يوم،بالمساحات التي احتلوها ؛بل منهم من أحاط زاويته بصفائح وأخشاب وبلاستيك. هذه مجرد أمثلة على السقوط الرمزي – الى حين- الذي مارسته الدولة في إطار عزل الفبرايريين عن العمق الشعبي .ولم تكن العودة الى النظام بالأمر الهين . لو تأتى للدولة سياسيون –حتى الوزراء منهم- يقبل بهم الحراك محاورين، لما اضطرت إلى تعطيل القوانين المنظمة للفضاء العمومي ,و للتجارة؛مما يظهر الدولة بمظهر الضعف والتذبذب . حينما صمت الساسة؛أو قل جبنوا أمام شارع يستعد للنزال ،وفضائيات شرهة، نزل خطاب تعديل الدستور بردا وسلاما . من وضعية الشلل والانتظار تحركت الساحة السياسية صوب الفعل المستشرف للمستقبل. ميلاد سياسة القرب: رغم دروس قادة الحركة الوطنية في القرب النضالي ؛و بعض وزراء فجر الاستقلال الذين لم ينسوا الحضور الوازن للشعب في مقاومة المستعمر ،فان المسار العنيف الذي سلكه قادة يساريون ؛وكذا هيمنة الهاجس الأمني على تدبير الدولة ؛ مما جعل مكانة المواطنين ،في هرم الدولة،تعود القهقرى. بدل وضعية الدولة الخادمة، صار المواطن هو الخادم لها؛ ليس له ما يعصمه من شطط السلطة. حتى قضاء ابسط المآرب الإدارية-خصوصا لدى أجهزة التحكم- لم يعد يسيرا ؛رغم كونه لا يكلف شيئا . بدل قرب الدولة من المواطن صار هو الذي يتقرب منها فشاعت الرشوة تدريجيا . سيستمر هذا الوضع عشرات السنين ,حتى بدا وكأنه قدر المغاربة الذي ليس لهم الا أن يتعايشوا معه صاغرين.كان الإعلان الملكي عن مشروعه الإصلاحي الكبير ؛القائم على ثلاث دعامات :المفهوم الجديد للسلطة ،التنمية البشرية وإحلال المجتمع المدني مكان الصدارة؛إيذانا بالانتقال الى الملكية المواطنة المنفتحة على المواطنين حيثما كانوا .لقد استحق محمد السادس لقب ملك الفقراء ؛وهو أيضا ،في نظري، الملك الواقف على العرش ،وليس الجالس. هذه الروح الملكية الوثابة التي تلمسها حيثما رحلت عبر الوطن ،والتي يفتخر بها المغاربة ،ويفرحون وهم يستضيفونها، في كل الجهات، لم تواكبها روح حزبية مماثلة؛تتقمص عنفوان اللحظة ،وتمتزج بالشعب حتى خارج الحملات الانتخابية، التي قلما تفوح من خطبها الحقيقة. إن الأقدار التي جادت بالربيع العربي ،جادت أيضا بفضيحة هذه الأحزاب ،الموغلة في التعالي والريع بكل أشكاله ؛حتى تذكر الناس نكبة البرامكة أيام الرشيد ،وتمنوا أن تصيب بعض الأحزاب ؛خصوصا التي جعلت الوظائف السامية للدولة وقفا على العشيرة والأتباع ؛دون خجل . وحلت النكبة فعلا: بدءا بحزب الاستقلال الذي انتهى به الأمر الى نسيان أصوله الشعبية ؛بل امتص وهجها ،وأسلمها للنسيان لا يتذكرها الا حينما تلزمه الانتخابات بأن يبرهن على أن المغرب فعلا له لا لغيره. انه الحزب الوحيد ,ربما في العالم،الذي يتم التنصيص في قانونه الأساسي ،على أسماء محددة تحتكر مجلس الرئاسة. وتنتقل ثقافة الاحتكار هذه من مجلس الرئاسة الى الحقائب الوزارية ،حيث يتم تدويرها في محيط عائلي ضيق. بعد كل نضاله ضد المستعمر الذي اكسبه شعبية وشرعية تاريخية انتهت قيادته ،وهي تترأس الحكومة،الى شلل تام أصاب أطرافها ،وهي ترى جحافل معدودة من الشباب- بنظام وانتظام- تنزل الى الشارع ؛ولا مطلب لها عدا إسقاط الفساد. كل الماضي المشرق ذهب مع الريح . لم تعد قيادة الحزب العتيد مؤهلة لغير السقوط ؛وقد أسقطها أحد أبناء حارتنا المغربية . ومهما تكن دواعيه - أو من يقف وراءه ،من رموز الحزب أو من خارجه- فقد أنجز عملا من أعمال هرقل العظيمة. ان البرقية الملكية ،الموجهة لشباط,حرصت على إبراز سياسة القرب لديه ،والثناء عليها ؛وقد فهم التزكية ،ولعله لن يحيد عن هذا التوجيه. ولا أراه سيولي الأدبار حينما ترعد السماء وتبرق ،وتسيل بأعناق الشباب الشوارع اذا خيبت هذه الحكومة انتظاراتهم ؛ولا أراها إلا ماضية صوب هذا المصير. ومارس الاتحاد الاشتراكي "الهاراكيري" الياباني، على غرار فرسان الساموراي ،حينما يرون أن لهم "الصدر دون العالمين أو القبر". لم يكن للحزب موقف واضح من الحراك.حزب القوات الشعبية ترهبه بعض الكتائب الشعبية السلمية ؛حينما قررت أن تستجيب لدروسه السابقة في النضال وتنزل إلى الشارع. بدا ساسته وكأن على رؤوسهم الطير ؛وبهتوا وهم يستمعون الى خطاب التاسع من مارس ،وهو يأتي بأكثر مما دونوه من اقتراحات محتشمة ،لم تجد طريقها- حذر الغضب ،جراء إعلان القرب من المواطنين-- إلا الى أرشيف كبيرهم. مهما تكن وجهة سيوف المغاربة فان قلوبهم –ذات زمن – كانت دائما مع الاتحاد الاشتراكي. في ليلة المواجهة بين المتنافسين على الكتابة الأولى كان قلبي مع الزايدي لحنكته ،ونزاهته ،وصدقه وأهمية ما صرح به كبرنامج عمل ؛لكن الابن الثاني لحارتنا قرر –على غرار شباط- أن اللحظة لحظته من أجل "الاختيار الثوري"-من الثورة وليس الثور- الذي سيعيد الحزب الى الحارات السفلى حيث نشأ؛وحيث ترسخت مشروعيته.ونتمنى ألا يخرج من هذه الحارات حتى لو أرادت الصناديق؛لأن تأطير القرب أهم من الاستوزار.وقد تمنى الحسن الثاني –لو كان له الاختيار- أن يكون ناشطا في جماعة محلية. وعندنا في الحارة المغربية ثالث ورابع وخامس ...فعلى من الدور؟ مطلوب ساسة للقرب لإدارة المرحلة. وكما كان عبد المون بن علي يقول: "وما ترد صدور الخيل بالكتب". [email protected] Ramdane3.ahlablog.com