لا زال ملف المعتقلين الإسلاميين (السلفيين تحديدا) يراوح مكانه في الساحة المغربية، بخلاف ما جرى في بقاع عربية وإسلامية أخرى، ولن تكون آخر مستجدات هذا الملف، الإعلان مؤخرا عن تأسيس هيأة "المراجعة والإدماج"، وتتبنى الهيأة، حسب الأرضية المُسطرة لبرنامجها، الدعوة إلى "نبذ التكفير والتخوين ومحاكمة النوايا من جميع الأطراف، حيث لا ولاء إلا لثوابت الأمة ودستور الدولة المغربية والقانون"، واعتماد "آلية الحوار كأسلوب وحيد لحل الخلافات العالقة في غياب أي تهديد للسلامة الوطنية والشخصية". تسعى الهيئة للتوسط بين المعتقلين الإسلاميين وصناع القرار: في الشق الخاص بصناع القرار، المشهد مُعقد للغاية، بحكم أننا نجد العديد من المتدخلين، ولا يوجد حتى حدود اللحظة (منتصف دجنبر 2012)، أي جواب صارم وصريح حول طبيعة المتحكمين في الملف، سوى أنهم محسوبون على بعض المؤسسات الأمنية، قبل مؤسسة الحكومة (في شخص وزارة العدل)، أو مؤسسات رسمية موازية، كالمجلس الوطني لحقوق الإنسان. في الشق الخاص بالمعتقلين الإسلاميين، نجد معتقلين سابقين، يتوزعون حاليا على الأقل فيما يتعلق بموضوع "المراجعات" على تيار عريض انخرط في مشروع "المراجعات"، مقابل رفض تيار آخر لهذا الخيار. وفي خانة المعتقلين السابقين، نُعاين، تشتتا وتباينا في المواقف، ما بين الصمت المطبق للشيخ عمر الشاذلي (المفرج عنه إلى جانب الشيخ محمد الفيزازي في 14 أبريل 2011)، وابتعاده عن قلاقل الساحة، في حين نعاين رغبة الشيخ محمد الفيزازي عن تأسيس حزب سياسي (حزب "العلم والعمل")، أو رفض الثلاثي الحسن الكتاني وعمر الحدوشي وعبد الوهاب رفيقي تأسيس حزب سياسي، مقابل الرهان على العمل الدعوي والجمعوي والعلمي، دون الحديث عن رفض أغلب هؤلاء، التوسط لدى صانعي القرار من أجل المساهمة في تسوية ملف المعتقلين السلفيين. نعتقد أن ملف المعتقلين الإسلاميين يندرج ضمن ملف أكبر ومعقد يحمل إسم "الملف السلفي" في المجال التداولي المغربي، وبالتالي، لا تخرج معالم تدبير هؤلاء المعتقلين عن معالم أكبر تهم ملف السلفية بشكل عام، في شقيها العلمي و"الجهادي"، وأيضا في شقها "المستقل"، ونقصد بذلك أعضاء "تيار" سلفي مغربي، لا ينتمي إلى أي فصيل موجود في الساحة، وإنما اعتنق المرجعية السلفية في العقيدة والمذهب، بعيدا عن مشروع الشيخ محمد بن عبد الرحمن المغراوي أو غيره. برأي عبد الفتاح الحيداوي، وهو معتقل إسلامي سابق، لن يخرج الحل المثل لتسوية ملف المعتقلين الإسلاميين عن حتمية لجوء الدولة إلى خيار الحوار مع الجميع، معتبرا أن مبادرات اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين، تندرج بشكل أو بآخر في خانة الدعوة إلى الحوار، عبر الوقفات الاحتجاجية التي تقوم بها بشكل سلمي ومسؤول وفي واضحة النهار أمام بعض مؤسسات الدولة (وزارة العدل، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، المحاكم..). نتذكر جيدا أن تسوية ملف ما اصطلح عليه إعلاميا ب"سنوات الرصاص"، تم عبر بوابة الحوار، وكذلك الحال مع العديد من الأزمات التي مَيّزت الساحة (إضراب السائقين في عز أزمة مشروع مدونة السير، على عهد وزير التجهيز السابق، كريم غلاب، التعامل مع قلاقل حركة 20 فبراير، وغيرها من المحطات)، وإذا كان الأمر كذلك، أي أن الحوار كان المخرج الأمثل لتسوية قضايا إنسانية وحقوقية واقتصادية بين صانعي القرار (أو المقربين من صانعي القرار)، وبين ممثلي قطاع النقل أو ضحايا "سنوات الرصاص".. فما الذي يحول دون أن يتكرر نفس السيناريو من أجل التسريع بتسوية ملف المعتقلين الإسلاميين؟ في السياق الإقليمي، مهم جدا استحضار النتائج المشجعة لتجارب ناجحة في تبني خيار الحوار في معرض تسوية ملف المعتقلين الإسلاميين من جهة، وأيضا، ملف التشدد/ التطرف الإسلامي، الذي ينهل من مرجعية سلفية، كما جرى على الخصوص في الحالة المصرية والسعودية. في الحالة المصرية، تميز هذا النموذج البارز بصدور مراجعات عن "الجماعة الإسلامية" وجماعة "الجهاد"، وتطورت الأمور إلى انخراط علماء وفقهاء وأقلام مشهود لها بالنزاهة من أجل التوسط في تسوية الملف، وهذا ما تم عمليا على أرض الواقع. في الحالة السعودية، عاينا إطلاق الدولة مشروع "السكينة"، وتقوم أهم معالمه على إعادة تأهيل أعضاء التيار السلفي المتشدد، وحسب آخر الإحصاءات اللصيقة بأداء وتفاعلات المشروع، ففي غضون عشر سنوات بعد إطلاق المشروع، تم إجراء ما يقارب 3250 حوارا مع ما اصطُلح عليهم ب"المنتمين إلى الفئة الضالة"، أو "المتعاطفين معهم في دول متفرقة"، وأفرزت تراجع العديد من هؤلاء عن مواقفهم الفقهية المتشددة، وتأكد للمراقبين والباحثين مدى النتائج الإيجابية التي جاءت بعد انخراط العلماء مع السجناء بوسائل أخرى لتعزيز الإصلاح والتوبة، وهكذا، اطلع الجميع على تنظيم مدراء السجون، بالتعاون مع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، محاضرات إسلامية ودروس حفظ القرآن؛ وقد تم الإفراج مبكرا عن عدد من السجناء بعد حفظ القرآن، وإضافة إلى نشاطات الرعاية والتوجيه في السجن، كما أوكل مسؤولو الأمن السعوديون إلى العلماء مهمة "الاستجواب الفكري" للمتشددين المشتبه فيهم خلال عمليات التحقيق، من خلال الانخراط معهم في الخلافات الفقهية. في السياق الدولي، معلوم أنه سياق ساهم في تعقيد تدبير الملف على الساحة المغربية، ونتذكر طبيعة التصريحات التي كانت تصدر عن المسؤولين في السفارة الأمريكية بالرباط، بُعيد اعتداءات نيويورك وواشنطن (11 شتنبر 2001)، واعتداءات الدارالبيضاء (16 ماي 2003)، والتي إلى جانب تفاعلات "المراهقة الفكرية" و"المراهقة السياسية" لبعض الرموز السلفية ساهمت في اعتقال المئات من السلفيين المغاربة، ممن لا علاقة لهم البتة بأحداث 16 ماي، وساهمت بالتالي في ارتكاب انتهاكات حقوقية، بشهادة ملك البلاد، كما جاء في حواره الشهير مع يومية "إل بايس" الإسبانية، والمؤرخ في 16 يناير 2005. لقد تراجع تأثير العامل الدولي بشكل كبير هنا في الساحة المغربية، كما تؤكد على ذلك مواقف السفارة الأمريكية دائما، سواء عبر إقرار ممثلين عنها (في لقاءات غير رسمية) بأن البيت الأبيض رفع يده عن التدخل في تدبير ملف المعتقلين الإسلاميين (لنتذكر تطورات وتفاعلات أداء البيت الأبيض مع الطيف الإخواني والسلفي في الساحة العربية، مع أحداث "الربيع العربي")، أو عبر دعوة مسؤولين في ذات السفارة لأعضاء في "اللجنة المشتركة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين" من أجل الجلوس على طاولة المفاوضات والانخراط في حالة من "التفكير الجماعي" من أجل المساهمة في طي الملف، بالتنسيق مع صناعي القرار، لولا أن الرفض كان رد أعضاء اللجنة، ليس فقط بسبب طبيعة السياسات الأمريكية اتجاه العديد من القضايا العربية والإسلامية، وبسبب موضوع معتقل غوانتانامو سيء الذكر، كما جاء في تصريحات بعض أعضاء اللجنة، ولكن على الخصوص، من أجل إبقاء تفاصيل تدبير الملف في الساحة المغربية الداخلية، دونما حاجة إلى الاستنجاد بالمسؤولين الأمريكيين: نحن إزاء رفض الاستنجاد بجهات أجنبية وازنة من أجل تسوية الملف، فيما يُعتبر سابقة إسلامية حركية في الساحة، لأن جميع أطياف التيار الإسلامي في الساحة المغربية، سبق لهم أن التقوا بمسؤولين في السفارة الأمريكية، ولا يتردد أي فاعل إسلامي حركي مغربي في تلبية دعوة السفارة الأمريكية (وما أكثر الامثلة في هذا الصدد، سواء تعلق الأمر بالإسلاميين المعترف بهم رسميا أم لا) باستثناء موقف التيار السلفي المجسد حاليا في "اللجنة المشترطة للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين". نحسبُ أن الكلمة المفتاح لتسوية هذا الملف الأمني والسياسي والحقوقي، لن تخرج عن خيار "الحوار"، ومن هنا أسباب نزول هذا البيان الداعي لحوار مفتوح ومسؤول بين جميع الأطراف التي يهمها أمر الملف؛ ونحسبُ أيضا أن تفاعلات الساحة المغربية (سياسيا واجتماعيا على الخصوص)، ومعها تفاعلات الساحة العربية (أمنيا وسياسيا)، تعجلان بفتح قنوات الحوار، ولا يهم صيغة هذه القنوات أو لائحة الأسماء المعنية بها، بقدر ما يهم اقتناع صانعي القرار بأهمية الانخراط العاجل في التأسيس لمشروع حوار مجتمعي مسؤول حول الملف السلفي بشكل عام وملف المعتقلين الإسلاميين بشكل خاص، خدمة لمصالح الوطن والمجتمع في آن، أي الاستقرار الذي يحلمُ البعض (في الداخل والخارج) بنسفه، وليست تسوية ملف المعتقلين الإسلاميين، سوى محطة مفصلية من محطات التصدي لأعداء الاستقرار في هذه الأرض الطيبة.