بعيدا عن الجدل الايديولوجي الذي أثير حول هدم مزارات دينية ورسوم بدائية، ومن منطلق الملاحظة الميدانية التي عاينت أثار الهدم في اكثر من محل بعيدة وموغلة في المغرب العميق، تعتبر ان لهذه الممارسة دلالة عميقة وايديولوجيا بالمفهوم الانثروبولوجي للكلمة مستترة إنه اعلان عن وجود تدين تعبر عن نفسه في التخوم الاجتماعية ففي ما مواجهة اعتبره هذه التيارات " تدينا مغربيا"تتبنى هذه الاخيرة إستراتيجية هجومية موزعة بين ثلاث مراحل: التركيز على هذا "عدم أصالة السند الفقهي" الذي يبرره في مرحلة أولى، ثم وضع الممارسين لمجموع طقوسه أمام فراغ عقدي مرحلة ثانية، ثم بث المعتقدات الصحيحة" على شكل إجابات متسقة تشبع الحاجة التي يتركه عملية عزلهذا التدين عن مطلقه المرجعي إن أشد ما تذمه هذه التيارات هو التعلق بالأولياء، ورفضها للزيارات للأضرحة والمواسم والطرق الصوفية، ومختلف المفاهيم المرتبطة بها، وبهذا تضيف السلفية عنصرا اجتماعيا على الطعن في الثقافة التقليدية، فعلاوة على الطعن في الأنظمة الرمزية التي تكون المجتمع، تلغي أيضا للتمثلات التي تؤطر المعيش الاجتماعي للناس. لتعيد تشكيلها بما يتوافق مع معتقدها السلفي العام، وما ينتج عنه من ممارسات . وبغض النظر عن التبرير الديني الذي تستند إليه هذا الهجوم على الطقوس البدعية ، فإن له أثار سوسيولوجية وهي التقليص من قدر العبادات إلى حدودها الدنيا التي تتطلبه التعاليم الدينية(تقشف في عبادة احسن من اجتهاد في بدعة). ومن ذلك يمكن اعتبار السلفية نزعة عبادية تقشفية وحركة احتجاج على التطويرات المحدثة قي مجال العبادة. فالتعظيم الشرعي للعبادة لا يتطلب لدى هؤلاء سوى التصديق بما اخبر عنه في الشرع، وطاعته فيما أمر، والابتعاد عما نهى عنه وزجر. أما المغالاة في ذلك التعظيم فهو عين البدعة، لأن المطلوب من المكلفين هو الوقوف عند العبادات الواردة في القرآن والسنة وليس الزيادة في مقدارها أو ابتداع عبادات جديدة .. وبشأن بعض العبادات ذات النزعة الزهدية ، فيقع التأكيد على شرعيتها بدون إعطاء الزهد الذي تنطوي عليه قيمة ذاتية كما تفعل الاتجاهات الصوفية، فالإعراض عن الملذات الذي يقتضيه الصيام التطوعي لا يهيء سوى لكسب الخيرات الأخروية، كما أن الانعزال الوقتي الذي تتضمنه بعض العبادات مثل الاعتكاف يعتبر من وسائل التهذيب الشخصي. لذلك تؤكد السلفية ان تطبيق هذه العبادات التطوعية في الحدود الشرعية البحتة، هو الكفيل بإعطائها هذا البعد الديني الشرعي والحيلولة دون أن تكون موضوعا للتأويلات المنحرفة . وكمثال عن طرق تعامل هؤلاء بهذا المنطق مع "التدين المغربي" وبعيدا عن اللغط الاعلامي المثار مؤخرا حول "انتهاك علامات دينية بالأطلس المتوسط والحوز" سنركز الحديث على موقفهم من ثلاث عبادات: الدعاء والذكر و الصلاة عن النبي. على خلفية أن هذه العبادات من أكثر الممارسات التعبدية لا تقنينا، ذلك أن التعاليم الدينية لا تربطهما بسلوكيات معينة يجب أن تتمظهر بها. إذ يمكن أن تؤتي هذه العبادات أكلها حتى مع عدم انضباط القائم بها بالوجبات الشرعية الأخرى، وحتى مع عدم التفاني في عبادة الله. وهذه الدرجة من المرونة هي التي تجعلها أكثر العبادات تعرضا لتكون ممارسة بدعية بحسب التصور السلفي. فبداية، وخلافا لطريقتهم المعتادة في إثبات صحة تصوراتهم الدينية، وهي البحث عن المقتضيات النصية التي ترد في المسألة المتحدث بشأنها، يبدأ هؤلاء بانتقاد الطرق التي تجرى بها هذه العبادات. فبالنسبة للدعاء، يتم صيغ الدعاء التقليدية ومن أبرزها الدعاء الجماعي، فقد جرى التقليد على قيام واحد من أفراد الجماعة بالدعاء بما يشاء من صيغ الدعاء المأثورة جهرا مع رفع اليدين تضرعا، قبل أن يختم بالصلاة والسلام على الرسول وقراءة الفاتحة، مع مسح الوجه بباطن الكفين تبركا وتفاؤلا. وخلافا لذلك، يعتبر السلفيون أن الدعاء عبادة توقيفية فلا يجوز الزيادة فيها ولا النقص، فهي قربة إلى الله يجب أن تؤدى كما علمها الرسول، والوقوف عند ما ورد عليه من صيغ الدعاء وأشكال تأديته (الدعاء الفردي- الدعاء بالهمس) أفضل تعبير عن محبته، أما الاستدراك عليه سواء بالزيادة أو النقصان فهو "من أخطر الأمور" كما ورد في ما صح من الحديث . وبالمثل تنتقد السلفية الذكر الجماعي أو ما يسمى ب " الحضرة" في القاموس الصوفي، على أساس أن التغني بالذكر أمر مبتدع ليس من عمل الرسول أو الصحابة، خصوصا ما يؤدي إليه هذا الطقس من تقديس لشيوخ الطرق وبيعة لهم. في حين أن "البيعة لا تكون إلا لإمام المسلمين وخليفتهم بشروطها التي سيذكرها الإمام مالك في النصوص المرفوعة إلى النبي، فلهذا فما يفعله بعض الدجاجلة الصوفية في الاحتيال على الجهال والغافلين من بيعة بالأوراد، فهو عمل شيطاني لا أصل له في الكتاب والسنة" . وبالنسبة للصلاة على النبي، تنتقد السلفية في البداية التعلق بالنبي القائم على مجرد التعاطف والذي لا دلالة له في السلوك ولا أثر له في المظهر، فمجرد التغني بحب النبي دعاء أو مدحا أو صلاة أو مناداة به في الشدائد والتوائب لا ينهض معيارا عن سنية الشخص، بل لا بد من الاقتداء به فكرا ومظهرا. وفي العمق، تريد هؤلاء عبر هذه الانتقاد قطع الطريق عن الممارسات التي من شأنها تقليص مفهوم السنة إلى الحدود التي يعني بها مجرد التعلق العاطفي بالنبي من دون إحياء لمجمل سنته. كما يجزم هؤلاء بعدم شرعية الإتيان بالسيادة عندما يذكر اسم النبي ( اللهم صل على سيدنا محمد) لأنها مخالفة لما ورد في السنة، في مخالفة تامة لمن يرى أن ذكر اسم النبي الشريف من غير سيادة مناف للتعظيم الواجب إزاءه، علاوة على ما فيه من "إساءة الأدب وقلة الحياء ما لا يخفى على كل ذي نور". كما تعارض السلفية بشدة كل أنواع الصلاة عن النبي بغير الصلاة المحمدية ( اللهم صل على محمد كما صليت..)، وهي الصيغة التي صلى بها النبي عن نفسه وصلى بها صحابته عنه، واضعين في صف البدعة معظم الصيغ التي تفنن المسلمون في وضعها، والتي تشكل في مجموعها تراثا أدبيا ودينيا غنيا ساهمت تراكمه الطوائف الصوفية على الخصوص.كما يبدع السلفيون كتابة (ص) أو(صلعم) مقرونة باسم النبي باعتبار ذلك ليس صلاة وإما هي بتر وتشويه للصلاة عليه صلى الله عليه وسلم . وفي ما يتعلق بصيغ المدح النبوي ، فينتقده السلفية انتقادا شديدا على خلفية أنه كان على الدوام مدخلا للعديد من "الأوهام والخرافات المضللة المخلة بالعقيدة الإسلامية خصوصا في باب الصفات". ولما كانت صيغ المدح والدعاء والذكر تجتمع عادة في نفس المتون، فان الكتب التي تحتويها تشكل مراجع خارجة عن الإسلام بالنسبة للسلفيين، لما فيها من "كفر وشرك وإلحاد مما تتقزز منه النفوس السليمة لسخافتها ونتانتها". وبغض النظر عن المستندات الدينية للمواقف السلفية تجاه الصيغ التي تؤدى بها هذه العبادات ( لسنا مؤهلين لاختبار مشروعيتها)، نلاحظ أن مبنى النقد هو ما تؤدي إليه تلك الصيغ من الزيادة في قدر العبادات المتطلبة شرعا، مما يقود إلى التعود على تحويل ما هو مستحب إلى واجب وإلى إتباع العرف وتقنينه، وغير ذلك مما تعتبره السلفية "مخالفة صريحة للشريعة الأصلية وإخلالا بعقيدة التوحيد". *المركز المغربي في العلوم الاجتماعية