يعد ملف المعطلين عموما والأطر العليا خصوصا من الملفات الشائكة والمستعصية على حكومة بنكيران، ويشكل استمرارية تلقائية للفشل التدبيري الحكومي السابق، ونتيجة طبيعية لقراء خاطئة لبنية الواقع المغربي. وهو ملف في الحقيقة أصبح خارج قدرة الحكومات المتعاقبة على السلطة التنفيذية، لأن حله يتطلب استراتيجية تدبيرية عقلانية تشرف عليها كل مؤسسات الدولة. نتذكر جميعا الخطابات الواعدة التي كان ينتجها حزب العدالة والتنمية قبل وصوله الى "السلطة"، والتي تركز على ملف التشغيل، وتنبذ طريقة تعامل الدولة مع هذا الملف، والقساوة التي يتلقاه أطر البلد في شوارع الرباط، وكانت الفكرة الأساس لهذا الخطاب هي غياب الحكامة والفعالية في طريقة تدبير هذا الملف، وطغيان الزبونية والمحسوبية والتوظيفات المشبوهة...هذا الخطاب الدفاعي جعلنا نتفاءل بخصوص إيجاد حلول مناسبة وجادة لهذه المعضلة، لكن بعد انتهاء موسم الانتخابات والوصول الى رئاسة الحكومة، تغيرت التقديرات وتكررت الخرجات الإعلامية لمسؤولي الحزب الحاكم التي تعكس سخافة وسطحية قراءتهم للواقع المغربي، وسذاجة تعاطيهم مع القضايا الاجتماعية التي تعد حقل التناقضات بامتياز، والتي تتطلب قراءة علمية بمعطيات دقيقة. فانقلبت معايير التقويم السياسي والاجتماعي لدى أعضاء الحزب، حيث أصبحوا يطلبون ود وصداقة وقرابة الأحزاب التي نعتوها بالأمس القريب بأشد النعوت، وسفهوا خطاباتها واتهموها باللاوطنية وبالتآمر على الشعب المغربي. وأصبح عدو البارحة إنسانا طيبا ولطيفا وكريما، وأضحى لسان حالهم يقول: "عفا الله عما سلف وكفى الله المؤمنين القتال". اتضح الآن أن المهرجانات الخطابية كانت تتوجه الى العواطف عبر استخدام وظيفي براغماتي للمخزون الديني العاطفي، وأن السيد بنكيران بلغته الشعبوية لم يكن سوى صوت يحسن مخاطبة العوام طلبا للوصول للسلطة، أما الأحلام المُجْنِحة التي رسمها لهم فقد ذهبت أدراج الرياح وتبخرت في السماء، وعليهم بالصلاة والدعاء لكي يستعيدوها، "فالرزق عند الله وليس عند رئيس الحكومة". إن إيجاد حلول بنيوية فعالة لمعضلة المعطلين تحتاج إلى بلورة استراتيجيات سياسية واقتصادية بعيدا عن السفسطة الخطابية الفارغة، وهذا يتطلب الإحاطة بعدة قضايا أهمها معرفة علمية بالقوانين السوسيولوجية التي تتحكم في بنية المجتمع، ومعرفة عالية بالفكر الاقتصادي السياسي، إضافة الى القدرة على تفعيل الخلاصات التطبيقية لتلك المعرفة. وهذه هي الخاصية المفقودة في الحكومة الحالية كما سابقاتها. تبين للمواطن المغربي المتتبع للشأن الداخلي أن "الحكومة الملتحية" لم تأتي إلا لتقف معاكسة لإرادته، و لتحافظ على نفس السيناريو السابق، وتدعم أركان الدولة كما أريد لها مسبقا. وخير مثال نقدمه لهذه السياسة التقليدية هو التعاطي الأحادي لمسؤولي العدالة والتنمية مع ملف الأطر العليا. لقد وجد السيد بنكيران في ملف المعطلين المجال المناسب لاستعراض العضلات والموهبة الكلامية الشعبوية التي تتبجح بتطبيق القانون واحترام تكافؤ الفرص، و تبنِّي مبدأ المباراة/الاختبار كخيار أوحد لولوج الوظيفة العمومية. ويأتي هذا بفعل فشله الذريع في القضايا السياسية والاقتصادية الكبرى : - ملف الكريمات بأعالي البحار ومقالع الرمال والتي لم تكن طريقة متابعته سوى خرجة مسرحية لإظهار الجدية في التعاطي مع ملفات الفساد المتراكمة منذ زمن. والفشل في طريقة معالجته والاكتفاء بالإعلان عن بعض الأسماء دون تعريف المواطن المغربي بحقيقة الاستغلال والنهب التي تشمل ثرواته الغنية. وكيفية المحاسبة القانونية للمستفيدين منها، وآليات تمكين المواطن الفقير من الاستفادة منها... - ملف TGV(القطار السريع) الذي عارضه بشدة بعض السياسيين الوهميين، ليتم فرضه على المغاربة تبعا لأجندات ترتبط بجهات عليا في البلد نعرفها جميعا، إرضاء للفرنسيين وتسهيلا للنهب عفوا الاستثمار الأجنبي بالمغرب كما يدعي رئيس الحكومة. - الفشل في فرض الضرائب على الأثرياء. - الفشل في تفعيل دفتر التحملات الخاص بالقطاع التلفزي. - الفشل في تقليص أجور الوزراء والبرلمانيين وكبار مسؤولي الدولة. ولتتم الزيادة في مرتباتهم من عرق جبين المغاربة المقهورين. لقد تغير الموقف بشكل كلي ولم يجد المعطلون من السيد رئيس الحكومة الإسلامي إلا الإرهاب العنيف، والمقاربة الأمنية التي كان ينتقدها بشدة عندما كان في كرسي المعارضة. وقد نسي أن هذا الإجراء قد يكون فتيلا لتهييج الشارع المغربي والتصعيد في أشكال احتجاج المعطلين. وبدل الاستمرار في الارتجالية وبيع الأوهام للأطر العليا والتلاعب بالقوانين ينبغي على السيد بنكيران أن يفعل المرسوم الوزاري رقم 2.11.100 الصادر في 4 جمادى الأولى 1432 (8 أبريل 2011). لأن قراءته للفصل 31 من الدستور وكذلك المادة 22 من قانون الوظيفة العمومية المعدل ليست قراءة موضوعية بقدر ما هي حق قانوني أريد بها باطل سياسيوي، لأن مفهوم المساواة والكفاءة لا تقابل المباراة بأي حال من الأحوال كما عبر عن ذلك الخبير الدستوري والسياسي محمد ضريف، وإنما تحدد الكفاءة والاستحقاق بالرتبة العلمية للشهادة المحصل عليها، وإلا فليعترف السيد الرئيس أمام الرأي العام بسخافة الجامعة المغربية وعدم مصداقية وقانونية مسالك الدراسة العليا بها ويكفينا تعب الجدل. ويعد المرسوم الوزاري السالف الذكر وثيقة قانونية تشمل كل حاملي الشواهد العليا لسنة 2011 وما قبلها تفعيلا لمبدأ المساواة الذي يؤكده الدستور الجديد، فكيف يستقيم قانونيا ومنطقيا أن تصدر الدولة قانونا شاملا يستفيد منه أزيد من 4300 شخص ويحرم منه الباقي مع وجود نفس المميزات والمعايير؟؟، وكيف يشتكي المسؤول الحكومي من عدم توفر مناصب الشغل وبين ليلة وضحاها يتم تشغيل هذا الكم الهائل من الأطر العليا دون أن يؤدي ذلك إلى أزمة في نظام المالية أو اكتضاض في القطاعات العمومية؟؟. وعلى الرغم من تفعيل القانون المالي الجديد( 2013) فإنه لا يؤدي إطلاقا إلى حرمان الأطر العليا من مكتسب المرسوم الوزاري طبقا للفصل السادس من الدستور الذي يوافق القانون الدولي والقاضي بعدم رجعية القوانين." ليس للقانون أثر رجعي". فكيف يتم إعمال هذا البند وتبنيه في قضايا محددة، ويتم بالمقابل التحايل عليه وتحريفه في قضية الأطر العليا المعطلة؟. وإذا كانت الحكومة قد اعتبرت هذا المرسوم وثيقة قانونية وقامت بتفعيل مقتضاياتها في لحظة زمنية معينة فالدستور يصرح بأن" القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة والجميع أشخاصا ذاتيين واعتباريين بما فيهم السلطات العمومية متساوون أمامه وملزمون بالامتثال إليه". أما إذا كان السيد بنكيران يعد الأمر غير هذا، فليعلن أمام الرأي العام وعملا بمقتضى النزاهة والشفافية، أن المرسوم كان آلية من آليات احتواء الدولة لحركة الشارع المغربي التي تزامنت مع الحراك الشعبي بشمال أفريقيا والشرق الأوسط، وليجعلنا نغير الوجهة من النقاش القانوني والدستوري الذي يتبجح به إلى العمل السياسوي الصرف الذي يحتفي بالتكتيك والمخادعة والنفاق؟؟. يملك كل واحد منا كامل الحرية في إعلان موقف متعاطف مع أي توجه سياسي بأي مرجعية كانت، ونحن هنا لا نحابي أي تيار سياسي في المغرب كما قد يتوهم البعض، لأننا على قناعة راسخة أنه لا يوجد بين القنافد أملس، والتجربة السياسية المغربية الحديثة تقدم ألف دليل وبرهان على الانتهازية والتفاهة والسياسيوية النفعية التي تعد أهم مميز للفعل السياسي بالمغرب. ونحن في تقويمنا للآخر ننطلق من بنية الخطابات وعلاقتها بالممارسة العملية، والظاهر لحد الساعة وبناء على تحليل سياسي غير متحيز أن حزب العدالة والتنمية "الحاكم" ليس إلا جوابا استراتيجيا متقدما للقضاء على حركة الشارع المغربي انطلاقا من العملية الاحتوائية الشاملة التي تتقنها الآلة السلطوية المخزنية، واستجابة لإرادة غربية تقضي بإعطاء الفرصة للإسلاميين للحكم على شرط الإبقاء على مصالحها الاستراتيجية، وهذا ما حدث ويحدث فعلا اليوم «موضة الاسلاميين". و يكفينا أن نقارن بين خطاب العدالة والتنمية قبل الوصول وبعد الوصول وسنخلص إلى نتائج أقل ما يقال عنها أنها تتميز بالتفاهة والجبن والانتهازية. والتسجيلات موجودة بالصوت والصورة وما أكثرها، والتصريحات على صفحات الجرائد وما أوفرها. والرميد آخر من كنا نراهن على وطنيته ونضاليته يصرح بأنه يدعم موقف بنكيران في تعنيفه للمعطلين بشوارع الرباط...؟ وبوليف أحد الوجوه البارزة في الحكومة الجديدة والمشرف على وزارة وقعت على المرسوم الوزاري لما أرغمه المعطلون على الحوار سألهم: من أنتم وماذا تريدون؟. وهلم جرا يا سادة. الذي يريد الاصلاح لا يتحالف مع الشيطان ويعادي الشعب... قال الشاعر: لا يلام الذئب في عدوانه إن يكن الراعي عدو الغنم. وعدو المغاربة (الرعايا) هو الحاكم المغربي(الراعي).