بانتخاب الأستاذ ادريس لشكر كاتبا أول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يسدل الستار على فصل جديد من فصول التجاذب السياسي الداخلي في الحزب الذي كان مثار تحليلات متعددة تدور أغلبها حول المرشح المحتمل لتولي قيادة حزب معارض فقد بعضا من حضوره النوعي على الساحة السياسية بعد أكثر من عقد في التدبير الحكومي قيادة ومشاركة. في القراءات السياسية لحياة الأحزاب يتم قياس الأداء بمدى القدرة على احترام التعددية الفكرية وسط التنظيم السياسي وتمثل روح الديمقراطية الداخلية التي تتيح تجديد النخب وتشبيب القيادات وبعث روح جديدة في كل مرحلة من حياة أحزاب تتجدد هيكليا بمؤتمرات عادية واستثنائية، ولقد نجح الحزب نسبيا في ذلك باختيار كاتب أول له باقتراع واضح ومقبول من قبل المؤتمرين الذين صوتوا على اللائحة التنظيمية بعد مناقشة مستفيضة، لكن السؤال المطروح هو أنه في ظل الظرفية التي انعقد فيها المؤتمر ما هي مميزات هذه المحطة التنظيمية المفصلية في حياة كل حزب؟، وما أهم مميزات المؤتمر الأخير؟ ما هي تحدياته الداخلية والخارجية؟. مميزات المؤتمر الأخير يمكن القول إن المحطة التنظيمية الأخيرة للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تميزت بكون: _ المؤتمر الذي نظم ببوزنيقة من 14 إلى 16 دجنبر الجاري، يعد أول مؤتمر بعد رجوع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لممارسة المعارضة، وسنوات من العمل الحكومي قيادة ومشاركة، في ظل حراك عربي أفضى إلى تغييرات جوهرية في المغرب بعد الخطاب الملكي ليوم 9 مارس 2011 والذي كان بداية إصلاحات سياسية ودستورية هامة كان من نتائجها صعود حزب ذو مرجعية إسلامية إلى الحكم بعدما كان سنين عدة يمارس المعارضة الشرسة ضد خصومه السياسيين وخاصة الاتحاد الاشتراكي الذي رفض المشاركة معه في حكومة ما بعد الدستور الجديد. _ مؤتمر الاتحاد الاشتراكي انعقد وسط غياب كبير لرموز الحزب الذين حضرت أسماؤهم كتاريخ لا ينسى، وغابوا لأسباب سياسية ولمواقف اتخذوها مخالفة للتوجه الحالي لقيادة الحزب في تدبير شؤون الاتحاد ومنهم علي بوعبيد ومحمد الاشعري والعربي عجول. - انعقد المؤتمر وسط خلافات داخلية أظهرتها الممارسة السياسية لمختلف مرشحي الدور الأول للكتابة الأولى للحزب، وكذا تجميد العمل في الحزب مثل حالة الثلاثي المنادي بالديمقراطية والنقاش الفكري والمجمد لعمله في المكتب السياسي. - تم تنظيم المؤتمر بأفق تنظيمي محض، وتنافس سياسي وتنظيمي حول قيادته من قبل قياديين أعلنوا ترشيحهم قبل مدة من انعقاده خلافا للسابق حيث كان يتم التوافق حول مرشح معين أو انتظار المؤتمر لمعرفة المرشحين المحتلمين، أي أنه في المحطة الحالية تمت معرفة المرشحين مسبقا بعد أن تم إغلاق اللائحة وفق المقرر التنظيمي الصادر في هذا الشأن. - المؤتمر هو الذي انتخب الكاتب الأول للحزب خلافا للتجارب السابقة التي كان فيها الكاتب الأول ينتخب من قبل المكتب السياسي المنتخب بدوره من قبل اللجنة الإدارية التي هي نتاج عمل المؤتمر. - نظمت هذه المحطة التنظيمية في ظل اعتراف الجميع قيادة وقاعدة، بالأزمة التنظيمية التي يعيشها الحزب ومنها الأرضية التوجيهية للمؤتمر التي أشارت إلى أن الحزب يعرف أزمة تنظيمية غير مسبوقة بسبب سوء تدبير الحزب خلال مشاركته في الحكومات السابقة. - اجتمع المؤتمرون في غياب شبه كلي لانتقاد التجربة الماضية لتدبير عبد الواحد الراضي لفترة انتدابه كاتبا أول للحزب الذي نظمت في عهده انتخابات جماعية وتشريعية وأخرى لرؤساء الجهات أطاحت بالحزب في العديد من الدوائر التي كانت تحسب له. ويبدو أن الجميع في الاتحاد الاشتراكي يعتبر مرحلة عبد الواحد الراضي انتقالية قاد فيها الحزب للحفاظ على وحدته. - انعقد في ظل ترهل في التشبث بالأخلاقيات النضالية وهو ما ظهر في الشعارات التي رفعت ضد عبد الإله ابن كيران رئيس الحكومة لأن النضالية الأساسية تحتم احترام الضيف ولو كان خصما، لأنه حضر بناء على دعوة من الحزب، فلا يعقل أن تتم دعوة شخص لعرس نضالي ثم يتم اتهامه في قضايا خلافية، مع العلم أن أدبيات النضال السياسي تحتم على المناضل الحقيقي أن يتصرف وفق للسياق والموقف الخاص للحزب وليس بناء على رأي شخصي لطائفة. التنظيم لا يغني عن الفكر يبدو أن الأفق التنظيمي للحزب هو الذي حتم على أشغاله أن لا تتصف بالغنى وتقديم الأطروحات المتميزة حول مآل المعارضة الحالية، وكيفية تصريف المواقف بناء على الوضع الجديد الذي يجعل الممارسة السياسية مختلفة عن السابق من حيث نوعية الخطاب والبحث عن صيغ للتواصل الجماهيري التي تحقق الغايات المثلى لحزب فقد من عمقه الشعبي الشيء الكثير. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الحزب التي لا تهيمن فيها النقاشات الفكرية والثقافية والإيديولوجية على أشغاله والتي تؤسس لأرضية شاملة لحزب في مرحلة دقيقة من عمره السياسي، خاصة مع الاستنزاف التنظيمي الذي عرفه بعد انشقاقات عدة، ففي المؤتمر الاستثنائي نوقشت أوراق مؤسسة لعهد جديد، وفي المحطات التنظيمية التي بعده خاصة المؤتمر السادس قدمت أوراق جيدة كان لها وقع على مسار الحزب. كما أن المؤتمر الثامن تضمن أوراق هامة من ضمنها ورقة الأرضية السياسية والمؤسسية التي قدمت تقييما لما بعد المؤتمر الاستثنائي والذي أفضى إلى اعتماد معارضة مغايرة لما كانت عليه قبله، وذلك بعد ترسيخ الهوية الاتحادية، أي أن المعارضة اتخذت شكلا متميزا، حيث قالت الورقة "لكن كان من الضروري، بعد هذا التميز وبعد ترسيخ الهوية الاتحادية، إعطاء مضمون ايجابي واقعي وملموس لهذه الهوية، إن على مستوى التنظير أو على مستويات الخط السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي. وهو ما حاولت مقررات المؤتمر الاستثنائي، خاصة التقرير الإيديولوجي القيام به". نتساءل هل أفضى المؤتمر الأخير إلى ترسيخ هوية اتحادية جديدة بعد الدخول في معارضة تختلف عن السبعينيات من القرن الماضي؟، بالطبع الجواب سيكون بالنفي لأن الحزب خرج بهياكل وكاتب أول جديد بدون إطار مرجعي جديد ومتجدد يحاول طرح سؤال هوية الحزب النضالية بعد خروجه مجددا إلى المعارضة التي بطبيعة الحال تختلف جذريا عن سابقتها لكون تغيرات كبيرة طرأت على المغرب وعلى مشهده السياسي والحزبي. والنتيجة أن الحزب يعيش أزمة هوية لا يستهان بها في المرحلة الحالية، وبالتالي سيؤثر ذلك عليه حيث لن يلعب في المستقبل دورا مؤثرا في المشهد السياسي الوطني الذي يحتاج إلى تنظيم سياسي قوي بمعارضة فكرية تقدم اقتراحات هامة للسير بالعمل التدبيري للشأن العام الوطني، ويتجلى ذلك في جزء منه في البرلمان بغرفتيه حيث لا نشاهد أداء متميزا واستثنائيا لفريق سياسي مختلف جذريا وفكريا عن الفريق المهيمن على الحكومة الحالية. جل قصاصات الأنباء والأخبار الواردة حول مجريات المؤتمر لا تحمل وجود نقاشات فكرية، مع هيمنة للآراء والنزاعات التنظيمية التي لا بد منها في كل مؤتمر ولكن لا تكون على حساب التجاذب الفكري الذي يجدد في الرؤى وفي سؤال الوجود في حقل سياسي يتغير بسرعة ما يحتم على أكبر حزب سياسي إعادة النظر في منهجه وتحقيق المصالحة مع الإنتاج الفكري والثقافي وتكوين نخبة مثقفة. سيادة النقاش الانتخابي رغم أن الاتحاد لم يسقط في الاستبداد أو الاتفاق المسبق لقياداته على مرشح وحيد فإنه انغمس بشكل كلي في السياق الانتخابي الداخلي ولم يترك فرصة مواتية للنقاشات الأخرى على أهمية المجال التنظيمي الذي يعتبر جزءا من جدول أعمال محطة المؤتمر في كل الأحزاب. النقاش الانتخابي سبقته نقاشات عدة حول الاستقلالية في القرار السياسي للحزب وحامت شكوك حول تدخل خارجي، وهو وضع لم يسبق للاتحاد أن عانى منه طوال مساره، بل إن الآخر الخارجي لم يكن يتجرأ على التدخل ولو بكلمة واحدة لأن الحزب محصن إلى درجة قصوى من الاستقلالية التي صلبت عوده ليكون مناضلا ناجحا في اتخاذ مواقفه السياسية الحاسمة في مراحل كان الاتحاد جزءا من النضال الديمقراطي الوطني. لقد سيطرت الروح التنظيمية على الفكرية وتحول الحزب من محضن فكري ينتج ويبدع إلى آلة تنظيمية يحاول كل فرد أن يقدم لنفسه موقعا متقدما، وهنا يكمن سر بروز أشخاص يترشحون لكل المواقع التنظيمية، وهي إشارة دالة على النزعة التنظيمية للمؤتمر هو أن الكاتب الأول الجديد لا يتميز بطروحات فكرية فريدة تختلف عن المرشحين الآخرين الذين يتقاربون من حيث الطرح السياسي والتنظيمي، ونجح في استمالة الناخبين المؤتمرين بفعل ديناميته التنظيمية المعروف بها والتي أهلته لكي يكون مقنعا تنظيميا بسياسة القرب التي انتهجها منذ سنوات، حيث يتميز عنهم جميعا بأنه آلة تنظيمية رهيبة داخل الحزب، لا يكتفي بالتواصل عبر الاعلام بل يجوب كل الاقاليم والفروع، وله جرأة في التعبير عن آرائه بدبلوماسية تارة، وبعنف تارة أخرى، ويعمل على استقطاب الكل بقربه منهم باعتباره أحد قادة الاتحاد الحاليين. وحينما يكون هناك نزاع أو خلاف في فرع معين حول مسألة معينة دائما يتطوع ادريس لشكر أو يتم اقتراحه لمعالجة المشكل، وهناك يقوم باستقطاب الجميع في صفه، ما أهله ليكون الأقرب إلى كل الفروع التي حصد فيها نسبا مهمة في التصويت خلال الدورين الأول والثاني من انتخاب الكاتب الأول. المسألة التنظيمية برزت أيضا من خلال مسألتين، الأولى طرح الموضوع من قبل المرشحين الأربعة أنفسهم خلال برنامج "مباشرة معكم" على القناة الثانية، مما يعني هبوب رياح غير نظيفة على صفوف الحزب قد تجره إلى تبني مواقف لا تمت بهويته ولا بقناعات مناضليه، والثانية أن شيوع بداية تدخل الآخر انطلق قطاره مع تداعيات اختيار ادريس لشكر لتقلد منصب الوزير المكلف بالعلاقة مع البرلمان في حكومة عباس الفاسي الأخيرة، والتي أسالت مدادا كثيرا بسبب شبهة التعيين القادم من تدخل خارجي يريد للحزب أن يكون خصما شرسا للحزب المعارض الاقوى آنذاك (العدالة والتنمية) وادريس لشكر كان المرشح الاقوى للعب الدور كاملا. تحديات داخلية وخارجية يجمع الكل أن الحزب فقد بريقه السياسي لكونه لم يستطع الحفاظ على زخمه النضالي السابق ولهذا تطرح عليه تحديات داخلية وخارجية من ضمنها : - إعداد رؤية حقيقية لما يمكن العمل به مستقبلا على مستوى المعارضة البناءة التي تعمل على إنجاح التجربة الحكومية لكونها تأتي بعد الدستور الجديد، ولكي لا يحصل الفراغ الذي لا يحبذه المغاربة في اللحظة الراهنة. - إعادة تأسيس حزب يساري بمرجعية اشتراكية واقعية تستفيد من المستجدات رغم أنه من المستحيل أن ينجب الاتحاد الاشتراكي بقيادته الجديدة مفكرين من شاكلة عابد الجابري وعبد الله العروي وبلعربي العلوي والحبيب الفرقاني لأن النقاش الفكري غائب والنقاش التنظيمي حاضر والتراتبية الإدارية تهيمن على المشهد، إلا أن استرداد المخزون الفكري للاتحاد واسترجاع الروح الاقتراحية التي كانت لدى الاتحاد في مراحل تاريخية من العمل الحزبي المغربي تعد أولوية قصوى لدى القيادة الجديدة. - محو الصورة التي لدى المغاربة حول رئيس جديد لحزب معارض من أنه شعبوي وبراغماتي ويستعمل خطابا مدغدغا للمشاعر والعواطف بدل العقول. -الدخول بالحزب إلى عصر التحديث السياسي في العمل والتنظيم، وطرد مركب الخوف مثلا من الانتخاب الالكتروني لأنه معطى جديد في تحقيق الشفافية والديمقراطية الكاملة، مع ضرورة جعل المجلس الوطني برلمانا حقيقيا للحزب فيه يتم اتخاذ القرارات والمواقف السيادية والكبرى، انسجاما مع رؤيته في التدبير التنظيمي عبر القيادة الجماعية. - استرجاع المصداقية بعد الانتقادات الموجهة للحزب في تدبيره للشأن العام على اعتبار أنه يجر وراءه مشاركة حكومية لا يلمس المواطن قدرا كبيرا من تجلياتها رغم الدفاع المستميت لمسؤوليه على مرحلة قيادة الحكومة في عهد الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي والمشاركة في حكومتي ادريس جطو وعباس الفاسي. - العمل على توحيد صفوف الحزب في اتجاه جمع شتات المناضلين الذين غادروه بفعل التدبير السابق أو خوفا من المرحلة المقبلة بفعل ما علق في ذهنهم وما تكون لديهم من صورة حول كاتب أول يتصف بالشعبوية التي لا تعطي وزنا للفكر والثقافة والمتشبعة بالبراغماتية إلى أبعد حدود مع إتباع أسلوب مستقطب للمشاعر بدل العقول، وبالتأكيد فالأولية تعطى لإخراج الحزب من الوضع الذي يعيشه المتمثل في استحضار التاريخ ونسيان العمل المستقبلي، ووضع مؤهلاته تحت رحمة وقائع قديمة يعتز بها، رغم أن الجيل الحالي لا يعرف سوى ما هو واقعي ملموس.