لربما تشاءم أو تطير الإعلام الرسمي في المغرب نعيَ صاحب " الخلافة و الملك" الرجل الذي نغَّص على القصر اِستقراره زمنا (1974- 2012) ، فبلغ المغاربة نعيه من دولة قطر في المشرق في غفلة من أتباعه في ربوع الوطن ، كما توالت قنوات عالمية في بث الخبر الفاجع ولو على وجه السرعة ، تُنبأ العالم أن ثمة رجلا ملتحي في تاريخ المغرب الحديث، تجرأ علنا فأسدى النصح لحاكمه في زمن قطع الرؤوس و بتر النفوس قد أفل نجمه، هذا في إعلام المشارقة و الغرب. أما إعلامنا، فهو كما صرّح وزير التشغيل و التكوين المهني عبد الواحد سهيل في حكومة بن كيران الراهنة لقناة نسمة، أنه رأى محمد الخامس في القمر و هو ابن سبع سنين، حتى لا يُنعت بالحمق بين ممن رأوه ساعتها، لكن عندما سئل عن عبد السلام ياسين إكتفى بالقول: " لا أعرفه "!!!!. ( وزير يرى محمد الخامس في القمر ولا يعرف عبد السلام ياسين في الأرض). ولاعجب، فلا يعرف أهل الفضل إلا أهله، وحسبنا الله و نعم الوكيل في إعلام أحول ينقل الخبر على هواه،راجين من العلي القدير أن ينير بصيرة هذا الملك الخلوق، و يشد عضده ببطانة تعينه على الحق، و تلزمه اِتباعه لما فيه خير البلاد والعباد. في البدء، أراه لزاما القول بعدم إنتمائي لجماعة العدل و الإحسان، لا من قريب و لا من بعيد. هذا، و ليس ثمة في الإنتماء جريمة البثة. غير أنني لا أحب أن أحسب كاتبا بإسم الجماعة أو بالنيابة عنها لتعاطفي ، إلا أنني أكنّ للرجل الشيء الكثيرمن الإحترام و التقدير، مثمنا حفيظته المعرفية الثائرة و كذا قلمه السيّال منذ أن قرأت له ، والمشرف أنه لم ينزاح عن إصراره قيد أنملة في الجهر بالحق على حد قوله إلى أن اِلتحق الناصح بالمنصوح. وهذا ما جعلني أجلُّ الرجل رغم تحفظي عن كثير من أفكاره على قدر فهمي المتواضع ،كمفهوم "المُلك و الملكية" خاصة في زمننا، و التي أراها كما يراها البعض، صمام أمان لوحدة المغرب و لحمة شعبه في زمن تسونامي الثورات العربية، الذي أفرز شرائح مجتمية قبلية و لغوية ذات توجهات إنفصالية مدعومة داخل المجتمع المغربي كانت بالأمس القريب شبه فاعلة، بل شبه موجودة حتى. ملكية رآها عبد السلام ياسين(رحمه الله) ربيبة الملك العاض الجبري ، يجب أن تمحى وتسبدل بالأجدر والأحق ، و أراها كما يراها غيري ضرورة حتمية شريطة أن تضحى هذا الملكية، ملكية عصرية خالصة عادلة، تسود بالإحتواء ولا تحكم بالقرار، تحتوي الكل وتشرف على المصالح العليا للبلاد و وحدتها الترابية، من طنجة إلى الڭويرة ونحن جند خلفها لن نحيد. وهنا لا نسترضع دروسا في الوطنية من أحد، فنحن أبناء شهداء المقاومة وجيش التحرير و إن ضيع التاريخ ذكر رجال الله، هم عند الله لا و لن يضيعوا، وليس في الذود عن الوطن والمَلك الخدوم لوطنه، المصلح الصالح إن وجد ، مقابل مادي ولو عدل الكون ثقلا. ولا على وحدة الوطن واِستقراره مزايدات، حتى لا ننعت بالخونة، فنحن شريحة مجتمعية تبغي إنسجام الملك مع الشعب ، إنسجامعا يواكب العصر، عاجل لا آجل لخدمة الشعب والنهوض بالوطن، أما الملكية فهي ضرورة حتمية لإستقرار هذا البلد في زمن التكتلات العرقية و اللغوية و الترابية، كيفما كان هذا المَلك، فهو ضرورة. هذا، ويسجل للشيخ الناصح تركة مشاع شاسعة المساحة ،ألوف الأتباع في كل جهات المغرب، ولا ريب، فهي الجماعة الوحيدة المحظورة رسميا في دولة "الحق والقانون" ،ذات القاعدة الشعبية المهمة . وإنها لقاعدة وازنة بالفعل، لما لها من ثقل في ترجيح كفة الواقع السياسي الراهن، لاسيما في زمن الربيع العربي المستمر. قاعدة شعبية سلاحها ما أعرب عنه الشيخ بالحرف في آخر ظهور له في يليوز 2011 " نحن لا نعارض الملك، نعارض المُلك العاض أصلا". كما أن للرجل ثروة علمية فكرية ذات حساسية مفرطة، لطالما كانت تتحاشها دوراللطباعة قبل دور النشر. كتبٌ ما فتأت تنشر حتى تُقبر، هذا و لم يفتر عديد المكتبات بالتورم عن بيع هكذا كتب، ليس لأنها زهيدة المداخيل على العكس ، بل لكونها قابلة للإشتعال ليس إلا. ولذلك بقيت بعيدة عن متناول الأطفال، فلا يقرأها إلا من بلغ الرشد نبوغا وشجاعة، أو شارف على لفظ الشهادتين حتى لا تقبض روحه خلف القضبان بدون محاكمة تقارب الإنصاف، وهذا واقع لا ينبغي إنكاره في وطن الحريات العامة. في حين أن أحد مؤلفات الرجل تدرّس في بعض الجامعات الغربية، ولو على شكل مرجع مهم في التنظير السياسي الإسلامي الجدير بالدراسة و البحث كمؤلفه "الإسلام بين الدعوة و الدولة" ، " الإسلاميون و الحكم"، " الإسلام والحداثة" " الإسلام والقومية العلمانية".... و لعل شرارة غضبة القصر على "المريد المتمرد" - عن نهج الزاوية القادرية القائم على السمع و الطاعة بالكلية لولي الأمر- ظهرت مع رسالته المفتوحة " الإسلام أو الطوفان" في رجب 1974 الموجهة للحسن الثاني رحمه الله. و التي تعتبر سابقة " خطيرة" في تاريخ الزوايا بالمغرب، أو بالأحرى نقطة تحول بميل مائة وعشرون درجة عن النهج التقليدي للزاوية البودشيشية بالخصوص تجاه الملوك العلويين. ولا عجب، فلطالما نُعتَ " بعبد السلام الشريعة" بين قيدومي مريدي الزاوية أيام الحاج العباس،و التي لم تسلم هي الأخرى من إنتقاد الرجل في أمور عديدة ، كأخذه على القوم التهاون في أداء بعض الفرائض كما صرح في بعض الأشرطة المسجلة بعجوة لسانه صوتا وصورة. غدا عبد السلام ياسين، المريد " المتمرد" الوحيد الأوحد من تلامذة الحاج العباس، حينما خاطب الملك الراحل بلسان الناصح الجريء، تتخله نبرة تقريع تخف حينا و تشتد أحيانا، في رسالته المفرنسة تلك، و بلهجة ما عهدها الحسن الثاني رحمه الله حتى من ذوي القربى أو الصاحب بالجنب، كالمستشارالملكي المرحوم عبد الهادي بو طالب، الذي طالبه الحسن الثاني بالتوبة عندما قال له هذا الأخير "عاملني معاملة أبيك" فأقاله الملك كما جاء في شهادته في برنامج " شاهد على العصر". و قد أشيع في الظل ساعتها، أن تلك الرسالة المفتوحة للملك وصية الحاج العباس التي سرّها لعبد السلام قبل رحيله و أمَّنه عليها حتى يبلغها لسيدي حمزة، الذي تردد في توقيعها طبقا لما أورد البعض.فآثر عبد السلام الجهرعلى الصمت حينها، فكان نصيبه أخف ممن سبقوه نصحا. وإليك مآل بعض النُصَّاح في تاريخ الإسلام ، فكثير هم الذين كتبوا وصاياهم قبل الجهر بالنصح، ومن لم يقتل منهم يكون له السوط الرفيق ، إلا من أسدل ربك عليه عنايته. فذاك جزاء عبد الله بن المسيب شيخ فقهاء زمانه مع حكام بني مروان ضرب بالسوط و ألزم بيته جبرا ،و ذاك طاووس اليماني ناصح هشام بن عبد الملك، و أبو حازم ناصح سليمان بن عبد الملك ، و الإمام الأوزاعي ناصح عبد الله ، و الإمام أبو حنيفة النعمان في زمانه الذي قتل بالسم بعد الضرب و الإقامة الجبرية جراء الذود عن أهل البيت ، و الشهيد إبراهيم الصانع ناصح أبي مسلم الخرساني. وهذا إمام مذهب المغاربة إمام دار الهجرة ، المذهب المالكي إمامنا رضي الله عنه مالك بن أنس الذي أنكر على الحاكم بيعة الإكراه فجوزي العذاب، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة صاحب " الخراج" ناصح هارون الرشيد بمجافاة الظلم و الظلمة، أما قصة الإمام الجليل أحمد بن حنبل رضي الله عنه فقصة تعذيبه مشهورة عند القاصي والداني في مسألة " خلق القرآن" وما ذاقه وتجره من مررات العذاب ، بل أشد ما لاقى عندها، طعن علماء البلاط و فقهائه و هو يضرب بالسوط حتى الإغماء بين يدي المعتص. أما النّصاح في زمن الحجاج في عهد بني أمية، فقد دُبحوا من القفا بدل النحر، ومنهم علماء وفقهاء يعدلون الدنيا فكرا و فلسفة، و ما فعله الحجاج بالزبير رضي الله عنه أدهى و أمر، وذاك الإمام الغزالي ناصح لأمراء عصره وقد أفرد في ذلك كتابا ، و هذا الحافظ اِبن تيمية و قصته مع التتر قازان مشهورة ، و عبد القادر الجيلاني واعظ الأمراء و مبكي الخليفة ، وذاك تاج النصّاح العز بن عبد السلام صاحب الهيبة الجلية في النصح وقد كان يخاطب الحاكم ب"الإنسان" و قد أفرد الرافعي له في وحي القلم ما يظهر مكانة الرجل و شجاعته. ولهذا وذاك ، ظهر عبد السلام ياسين مستنا بمن سبقوه كما جاء بالحرف تصريحا لا تلمحيا في ديباجة رسالته تلك إلى من يهمه الأمر ، مناضلا بالكلمة الوازنة بدل الرشاش، وقد كان قد أعد لذلك رقبته سلفا ، بعد كتابة " الإسلام أو الطوفان" في ذلك الظرف الزمني الحساس من تاريخ المغرب الحديث ،الذي كان لم يتنفس الصعداء بعد من موجة اِنقلابات في سبعينات القرن الماضي، إنقلابات عصفت بأسس الملكية في المغرب، فهاج الوطن على إترها وماج بأركانه ،و الكل يعلم سنوات الرصاص و و الوضع العام الذي كان يعم المغرب ونظامه وقتئذ. وإنصافا للتاريخ، فالحسن الثاني بعد توليه حكم والده، بعيد الإستقلال. تعرض هذا الأخير ل38 محاولة اِغتيال كان آخرها محاولة الإنقلاب الفاشلة بالصخيرات 1971 تلته محاولة أخرى فاشلة لأوفقير سنة1972 و أخرى كشفها البصري للجنرال الدليمي سنة 1983 سبقتها مضاهرات الكوميرة 1981 و أحداث الريف المريرة . ولعل الحسن التاني كان يقول يومها لكل من بيت له بليل ( لم يضيع حكم العلويين مند سبعة قرون أو يزيد، ولن يضيع في عهدي بأي شكل من الأشكال، فانظروا غيري) رحمه الله. وما إن دخل الشيخ على الخط في النصح و الإرشاد لا الحراك المسلح ، حتى اِعتبر عنصرا إنقلابيا من نوع آخر يقض مضع الملك الراحل، فاعتبره شيخٌ جاء يدكي تهديد اِستقرار البلاد بعزفه على وتيرة الدين الحساسة في المجتمع المغربي ، وهو الملك الذي لم يسترح بعد من عواصف قاتلة ألمت بتركة الحكم ، و أوشكت على حرق الأخضر واليابس في ظرف كان قابلا للإنفجار، الشي الذي جعل الكثير يتعاطف مع الملك الراحل في قراراته المتخذة في ذاك الوقت،وإن اتسمت بالشدة أيام البصري في ضبط تمرد الرعية على الراعي لحفظ الوطن. راع ٍ، وجد نفسا مجبرا على صون تركة أجداده الثقيلة من التهديدات الداخلية، فضلا عن الخارجية منها للإبقاء على لحمة "الأرض و العرض". ومعلوم أن النظام في دلك العهد، لم يخشى من الشيخ بقدر خشيته ممن سبقوه، فكان بالإمكان محو ذكره بالمرة و إلصاق التهمة بواحد من ثلاثين مليون نسمة تقطن المغرب، لكن ربك قضى أمرا كان مفعولا، وهذه تُحسب للحسن الثاني رحمه الله في سعة صدره مع الشيخ، وإلا لكان ماسمع بعبد السلام ياسين أحد من العالمين منذ زمن بعيد، وباعتبارأن الشيخ إتخذ الكلمة في النصح بدل السلاح ولزم الوطن، خفف الله مانزل. ومذ ذاك ، و المرشد و أتباعه حبيسي السجون والمعتقلات التعسفية بعد أودع مشفى المجانين مدة ليست بالقصيرة، قبل أن يفرج عنه بقدرة قادر . ولا عجب ، فلا يقوى على نصح الحاكم في ذاك الظرف المتكهرب الذي تحصد في الأرواح، حقا إلا "مجنون". و رغم ذلك، ظل حبيس الإقامة الجبرية لسنين طوال، إلى أن رفع عنه الحصار في عهد هذا الملك الخلوق دام له العز و التمكين لما فيه خير البلاد و العباد الكل يعرف زاد الرجل التربوي وتنقله في سلك التربية و التعليم، وكذا مشربه الصوفي البودشيشي المنهل، مما جعله ذا قلم سيّال لا في العلوم السياسة التنظيرية للحكامة الجيدة، ولا في الحقل التربوي التهذيبي روحا و روحانية. فمعلوم عند العامة قبل الخاصة أن إرث الرجل المكتوب يربو عن الثلاثين مؤلفا بين كراسة و كتاب، عكف فيها الرجل على تسطير مفاهيمه لمجريات الوقائع و وجهات نظره العميقة في التمحيص و التحليل لإزالة الغبش عن كل شائك منها ، ولعل إرثه الشفوي أقرب للناس مما سطرت يداه ، مما تزخر به مكتباته المرأية على جداريات اليوتيوب وغيرها. يبقى الرجل ظاهرة تارخية بصمت تاريخ المغرب الحديث، كره من كره و أحب من أحب ، ظاهرة لن تتكرر كارزمتها الروحية و التربوية على الإطلاق وحتى في وجود وارث سرّ الشيخ، فالرجل "جبل رغم الإختلاف الفقهي" عند الفيزازي ، و" العالم كبير" و "المربي الجليل" عند القرضاوي الذي طالما أخذ على الرجل كثرة مبشراته. وقد شكل بالفعل رحيله و سيشكل فراغا روحيا جليا في جسد الجماعة ووزنها، و إن كابرت. فقد كان الراحل سر الحركة و الإنبعاث فيها كلما اِشتدت حملة الإعتقالات والمحاكمات التعسفية. إلا أن بُعدها الروحيي قطعا لن يغيب، فعليه نصاب الجماعة و قطب رحاها ، بل أخاله سيزداد تصاعدا في قادم الأزمان، حتى ولو خفت وتيرة الجماعة سياسيا أو تنظيميا في غياب صاحب كلمة السر. نعم، سيبقى المرشد المؤسس المنظر للخط التربوي البارز في المغرب، المناهض للفساد بإسم الدين قبل صحوة الأمة بسنين عجاف، بل قبل أن يطل ربيعنا العربي من قمقمه. لينال الشيخ بذلك قصب السبق جريا على من سبقوه ممن ضحوا من أجل إعلاء كلمة الحق . نعم، المرشد و المؤسس التربوي النافع، و ليس العقدي كما يفهم سعيد لكحل ، فعقيدة أهل السنة والجماعة ثابتة بالكلية ومعلومة عند كل مبتدئ - وهذا ينم عن جهل البعض بمفاهيم الدين-. فالرجل بودشيشي الطريقة ، مالكي المذهب، أشعري العقيدة و هو مذهب أهل السنة و الجماعة بالإجماع، و أحيل المستزيد على وصية الرجل الصوتية للوقوف على ما أسلفت فضلا عن عديد كتبه ،وأختم بقول أحمد الريسوني ( لا تستهينوا بقول العلماء ولا تستهينوا بتوالي المظاهرات فنتاجها يأتي في تراكمها حتى تبعث الروح في الجسد ثانية)، والسلام. رحم الله الفقيد ، وعظم الله أجر كل محب للخير داع للإصلاح. * أستاذ اللغة الإنجليزية ومترجم https://www.facebook.com/mohammedrhaz