قرأت مؤخرا مقالا بعنوان : "الإعجاز العلمي في القرآن، تعويض نفسي عن نهضة مجهضة" كنت أحسبه مفيدا ولكن سرعان ما خاب ظني، فما وجدته كان تعبيرا عن موقف سياسي من مسألة الفصلُ فيها لأهل العلم (من المسلمين وغير المسلمين)، وقد قالوا كلمتهم، لذلك لم يجدْ صاحب المقال إلا أن يتجاهل العقل والمنطق ويلجأ لاستعمال أسلوب يكشف عن سوء تفكير وتقدير (شتم مجّاني وتعميم غير علمي وجهل واضح بالموضوع).. ونحن ودون أن نقع في فخ هذا الأسلوب المرفوض، نسأل من هي الجهة المستهدفة بهذا الأسلوب؟ هل هم العلماء والمفكرون والباحثون في المجال العلمي والأساتذة الجامعيون مثلا ؟ قطعا، ليس هذا هو الأسلوب الأمثل لإقناع هؤلاء.. وعليه، رأينا أن نردّ بما يُرضي أهل العلم أوّلا وأخيرا، ونترك المجال مفتوحا لأصحاب الرأي إن هم أرادوا الانضمام إلى الجمع، والتزاما بقوله تعالى: « ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » (النحل:125) لماذا الحكمة؟ لأنها أعلى درجات العقل، فبالحكمة نضع الأشياء في مواضعها، وننزل الناس في منازلهم. لذلك وجدنا القرآن يَحُثنا على إعمال العقل للوصول إلى الحقيقة، لأن العقيدة لا تقوم على الظن « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا » (الحجرات: 15)، « إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ » (النجم: 23) ولا على التقليد الأعمى ولا على التسليم بالموروث « لا يكن أحدكم إِمَّعَة » إنما تقوم العقيدة السليمة على العلم والبرهان « فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ » (محمد: 19) ، « قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ » (البقرة: 111) تلك هي العلاقة بين الدّين والعلم والقول بأنه "منظور يخلط بشكل متهوّر بين مجالين لا يمكن الخلط بينهما لا منهجا ولا موضوعا" قولٌ مخالف للمنطق ولفطرة الله التي فطر الناس عليها.. ومخالفة الفطرة الإلهية إنما تعني الخروج عن السُّنَن والإخلال بالموازين الكونية، وذلك هو عين التهوّر، وبما أن حقائقَ العلم استقراءٌ لِقَوانين الكون التي أودعها الله في كتابه المنظور وقنَّنها بقوانين مظبوطة، وحقائقَ الدِّين نقْلٌ صحيحٌ عن الله، جاء بها رسوله محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.. فلا يمكن أبدًا أن يكون هناك تناقض بين الكتابين لأنهما ببساطة من نفس المصدر. فالحق لا يعارض الحق، واليقين لا يعارض اليقين، وصحيح المنقول لا يعارض صريح المعقول. فالكون محكوم بقوانين محكمة، والقرآن أُحْكِمت آياته مصداقا لقوله عز من قائل « كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ » (هود:1). في هذا السياق، نتساءل من المسؤول عن التخلف؟ هل الدين هو المسؤول أم عدم الأخذ بأسباب العلم ؟ والقرآن يُؤكّد لنا على الأخذ بأسباب العلم (راجع قصة ذي القرنين وكيف تعامل مع عنصر الحديد بدرجة عالية من المعرفة بخصائص المادة).. هذا مثال على أن التقصير ليس من الدّين بل من الذين لم يأخذوا بأسباب العلم. فاختلافنا الجوهري يكمن في أسباب هذا التخلف. فلماذا يُوجِّه صاحب المقال أصابع الاتّهام إلى أصحاب اللّحى بالضبط ؟ هل له حساب معهم ؟ من السهل أن ينهال المرء على الناس بوابل من الشتم والقذف.. ومن السهل أيضا أن يُنصِّب نفسه فوق الجميع فيتّهم هذا ويُجرّم ذاك.. ومن السهل كذلك أن يجلس المرء في حجرته أو مكتبه وينعت هذا وذاك بالتخلف (والتعويض عن سيكولوجية التخلف أمام تقدم الدول القوية التي تقود العالم)، إذ يمكن للآخرين أيضا أن يفعلوا نفس الشيء وينعتوا صاحب المقال بالترويح عن نفسه إخفاءً لجهله أمام الإنتاجات العلمية الحقيقية لعلماء العالم الغربي.. لكن لو سألناه ماذا أضاف لهذه الأمة كي تخرج من تخلفها وتنهض من سباتها، فماذا عساه يجيب؟ وهلاّ تتبع صاحب المقال ما قاله علماء غربيون وشرقيون متخصصون حول مصدر الحقائق العلمية الموجودة في القرآن؟ وكيف يُفسِّر تصريحات مجموعة من كبار علماء العلوم الكونية في مختلف التخصّصات، حول تطابق نتائجهم العلمية مع المعلومات الواردة في القرآن؟ لم ينزعج هؤلاء العلماء، وهم غير مسلمين، ولم يُخْفوا شعورَهم بالدّهشة حينما أُعْلِموا بأَنَّ ما توصّلوا إليه بعد البحث والدراسة قد أشار إليه القرآن الكريم إمّا تصريحاً وإما تلميحاً منذ أكثر من أربعة عشر قرنا. فماذا كانت النتيجة؟ أسلم بعضهم في حين أعلن البعض الآخر صراحة بأن محمّداً رسولُ الله وأن ما وَرَدَ في القرآن لا يمكن أبدًا أن يأتي من مصدر بشري، تلك شهاداتُهم معلومة ومسجّلة يُقيمون بها الحُجّة على أقوامهم : « قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » (الأحقاف – 46). وقد ذكر صاحب المقال في مُستهلّ كلامه أن العلماء من غير المسلمين هم القدوة في العلم والنظريات العلمية والعلماء المسلمون قد عرفوا ازدهارا نسبيا وكانوا يقومون ببعض التجارب.. أتمنى أن يكون صاحب المقال مُجرد جاهل لحقيقة الحضارة الإسلامية وليس له موقف منها.. ونحن ندعوه لتدارك هذا الجهل، ونُحيلُه على موقع "الإرث الإسلامي" Muslim heritage الذي يُوفّر معلومات مُهمّة حول الموضوع هذا المعرض، الذي دُشّن في 21 يناير 2010 بمبادرة طيّبة من أناس فضلاء أرادوا أن يبيّنوا للعالم إسهامات العلماء المسلمين في مجالات العلوم والمعارف والتي شهد لها المنصفون من أهل الغرب، يُبيِّن أن الرّيادة في العلوم الهندسية والطبية والاجتماعية والزراعية والصناعية كانت للعلماء المسلمين، ومنهم نُقلت الثورة المعلوماتية لأوروبا والتي كانت السبب الرئيس في حصول الثورة الصناعية التي أسَّست لعصر العلم والتقنيات العلمية الحالية (راجع كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" للمستشرقة الألمانية "زيغريد هونكه"). أما الزعم بأن العلماء المسلمين "لم يكونوا يفعلون ذلك انطلاقا من القرآن، بل انطلاقا من النظريات العلمية التي خلفها علماء وأطباء أمثال فيتاغورس وجالينوس وأبقراط وديمقريطس وبطليموس وغيرهم، وهذا ما أثبتوه في كتبهم وأبحاثهم"، وأنهم "لم يسبق لأحد منهم أن قال إنه اكتشف نظرية علمية ما من الدين، أو انطلق من قناعات أو نصوص دينية لكي يبحث في العلوم" فهو زعم باطل نَرُدّ عليه بمثال لا يختلف عليه اثنان: يتعلق الأمر بالعالم الجليل محمد بن موسى المعروف باسم الخوارزمي وهو غني عن التعريف، فمن يعرف الخوارزميات Algorithmes يعرف فضل هذا العالِم على البشرية جمعاء، ولعل صاحب المقال لا يعلم أن الخوارزمي وضع معادلاته الرياضية أساسا لحل مسائل الميراث وفقا لأحكام القرآن، وسرعان ما اكتشف الناس أن تلك المعادلات تمثل أداة قوية لحل المسائل المعقدة وأن لها تطبيقات هندسية وتقنية متعددة. وبهذه المناسبة، أُلْفِتُ انتباه القراء الفضلاء بأنه لولا جهود هذا العالم الفذ، لما استطاع صاحب المقال نشر مقاله عبر شبكة ألإنترنيت (لأنه ببساطة يستعمل جهاز حاسوب يستدعي كمّا هائلا من البرمجيات التي بدونها لا يمكن تشغيل الجهاز). فمن أين يا ترى استنبط الخوارزمي خوارزمياته؟ الجواب: من التدبر لكتاب الله.. « كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ » (ص – 29) فأمر التدبر مُوَجّهٌ لكل الناس كي يعلموا عظمة هذا الكتاب « وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ » (الحج - 54).. والتذكر والإيمان به سيكون أولي الألباب حصرًا أي لأصحاب العقول النيّرة من الذين لا تأخذهم العزّة بالإثم، ولا يُكابرون ولا يُعاندون أمام الحقائق القرآنية الدامغة. أما فيما يخص الفقرة التالية من المقال والتي ربما توحي ب "الإشفاق" على الدّين يقول الكاتب "كما أن من نتائج استغلال العلم لأغراض دينية أن قام عدد من المختصّين بنشر كتب لتفنيد تلك الإدعاءات عبر إبراز ما سموه "الأخطاء العلمية في القرآن"، و"الأخطاء الحسابية في القرآن" و"الأخطاء التاريخية في القرآن".. كنّا نتمنى لو أشار المقال إلى "خطأ" واحد "ينير" به أذهاننا.. يقول عز وجل: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا » (النساء – 82) وكأن الله بهذه الدعوة يضع كتابه للدراسة والتمحيص. في القرآن الكريم إشارات علمية واضحة (تفوق الألف آية) وفي بعض الأحيان قد تستوقفنا كلمة واحدة فيها إشارة علمية واضحة تُوَجّهنا نحو تجارب مخبرية قد تدوم لسنوات ليس لاستنباط الإعجاز، فهو تحصيل حاصل، وإنما لاكتشاف ظاهرة كونية مُعَيّنة، وهنا تكمن أهمية التدبر في القرآن. فعندما نتدبر القرآن، نجد أنفسنا أمام منظومة من الحروف والكلمات المترابطة بيانيا والمتماسكة بلاغيا والمُحْكمَة عدديا... ونكتشف الدّقة البالغة في انتقاء الكلمات الملائمة للمعنى فيتضح لنا عمق المصطلح وامتداده، ودقة الرقم وأهمية الرّسم لأننا في حضرة كتاب الله الذي لا تنقضي عجائبه ولا تفنى عبره و« لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ » (فُصّلت - 42). وعلى سبيل المثال، عندما قرأ باحثو الهيئة المغربية للإعجاز العلمي في القرآن والسُّنة قوله تعالى من سورة يوسف (الآية 47) «فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنْبُلِهِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ »، استوقفهم المصطلح وفهِموا حينذاك بأن هذه إشارة واضحة لكي يبحثوا في الموضوع ويستنبطوا الأحكام العلمية القطعية وليس الإفتراضية فنحن لا نقبل الفرضيات في تعليل النتائج العلمية.. ودام البحث 5 سنوات كانت نتائجه التطبيقية ذات أهمية حيث بَيَّنَتْ طريقةً فعّالةً في حفظ الحبوب.. ونُشِر البحث في مجلات علمية مختصة. فهل يَصِفُ صاحب المقال هذه التجربة بالتقاعس والسّطو على نتائج الباحثين الغربيين؟ وكذلك عندما يخبرنا الله في سورة "المؤمنون" (الآية 20) عن تلك الشجرة « وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِالدّهْنِ وَصِبْغٍ لّلاَكِلِيِنَ » فهي إشارة أخرى لذوي الاختصاص ودعوة للتدبر والبحث المضني والرصين بغرض استنباط الأحكام العلمية الدقيقة.. ونحن الآن في طور دراسة وتطوير عيِّنات من شجر الزيتون حسب نوعية الدُّهن وكمّياته في الزراعة داخل الأنابيب واستخراج عيِّنات تُقاوم بعض الأمراض عند ذات الشجرة. وقد وصف القرآن الكريم هذه الشجرة بالمباركة ونحسبها إشارة علمية للبحث في المجالات الطبية من تغذية وصناعة جمالية الخ.... أما عندما يتعلق الأمر بالطب النبوي، فهل يوجد باحث عاقل يمكنه البحث في أبوال الإبل من أجل إنتاج دواء مستخرج من تلك الأبوال إلا أن يكون قد انطلق من الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة، وهذه النتائج نُشِرت في مجلات علمية ذات مصداقية عالية.. وقد يطول بنا الحديث عن العلاج النبوي وما فيه من إعجاز علمي لا ينكره إلا جاهل. وقبل أن أختم، لا يفوتني التأكيد على أن الإعجاز العلمي كشف عن منهجية علمية قائمة بذاتها بَرَزَتْ بقوة خلال العقود الثلاثة الماضية، ولها تاريخها وضوابطها وفقهها وشروطها. ورغم أنه "يُزعِجُ" مُعارضيه الذين كلما نظمنا مؤتمرا أو عقدنا ندوة أو تحدثنا عن الموضوع إلا وخرجوا علينا بالسب والشتم والنقد السلبي.. والعجيب في الأمر هو أنهم يستعملون جميعا، أكاد أجزم، نفس المصطلحات وكأنما سُقوا من مصدر واحد.. يذكرون جميعا عبارة "لَيّ عُنُق الآية أو النصوص" .. هذا فيما يخص الكلمة، فماذا عن الرقم ؟ بالمناسبة نشير إلى أنه تمّ تنظيم ثلاثة مؤتمرات دولية خلال الخمس سنوات الفارطة حول الإعجاز العددي (الأول والثاني بالمغرب، والثالث بماليزيا .. وسيكون الرابع إن شاء الله باليابان أو الصين) في الوقت الذي كان فيه صاحب المقال "يتصيّد" الفرص لينقضَّ على "أصحاب اللحى" و"العربان".. فهل يتم كذلك لَيُّ عُنق الرقم أو العدد ؟ وهل حصل أن انتظر الباحثون في الرقم والعدد علماءَ الغرب ليُزوِّدوهم بالمعطيات التي سوف يبنون عليها فرضياتهم ؟ إن في القرآن الكريم نظاما عدديا مُبهرا عَلِمَهُ من عَلِمَه وجَهِله من جَهِله.. وعدم إدراك الشيء لا يعني عدم وجوده.. فنصيحتي لهؤلاء أن يتناولوا الموضوع بجدّية أكبر، لأن الله أعزَّنا بالإسلام ومن ابتغى العزَّة في غيره أذلَّهُ الله، ويتدبَّروا القرآن في مجال تخصّصاتهم عَساهُم ينتفِعون وينفَعون، لأننا جميعا سوف نُسأل يوم القيامة عن عِلمِنا ماذا فعلنا به.. فلنعمل به خيرا لأنفسنا ولهذه الأمة، أو لنصْمُتْ. * أستاذ التعليم العالي، كلية العلوم – الرباط رئيس الهيئة المغربية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة