فكِّر أن تفتح محلبة، أو تفرش ملابس داخلية على الأرض وتصرخ في وجه المارة لينتبهوا لما تعرضه للبيع، وانس كلّيا أن تصبح صحفيا في بلد متخلّف. بعد عودتي من الهجرة واشتغالي بالصحافة في المغرب، تعثّرت بأشياء غامضة في طريقي، واكتشفت فظائع لا تخطر على بال، فالإعلام يخفي بدوره صناديقه السوداء، وهو حقل إن اضطررت إلى قطعه ستحتاج إلى خبير في إزالة الألغام خوف أن تتفجّر، في أي وقت، تحت قدميك. اذهب إلى أي كشك جرائد، وحاول أن تتأمّل كل تلك الخردة من العناوين، هل تتخيّل أن تعثر على الحقيقة تحت كل ذلك الركام الورقي الشامل؟ ما هي صورتنا عن الصحفيين، وماذا بمقدورهم أن يفعلوا؟ هل ننتظر منهم أن يصوّروا الواقع بآلات البولارويد الفوتوغرافية، أم أن أقصى ما يمكن أن ينجزوه أن يصوّروا رزقهم؟! قبل زحف الاحتجاجات الشبابية في الشارع العربي تحت يافطة ما يسمى "بالربيع الديمقراطي"، عاش الإعلام بالمغرب خبطة استباقية، كانت إحدى مؤشراتها الأولى إقفال مكتب قناة "الجزيرة"، وانتهت بعَوْكشَة الزميل رشيد نيني. كل بؤر التوتّر التي ستجلب صداع الرأس سيتمّ الإجهاز عليها بإحكام، فالصحفيون مزعجون، ويحشرون مناخيرهم في الطنجرات الفاسدة، في حين ثمة خارطة طريق مرسومة مسبقا ومن سيخرج عنها، سيكون مخالفا لشعار "الاستثناء المغربي"، حتى أن الجهود المبذولة في السنوات الأخيرة في إطار "الحوار الوطني للإعلام والمجتمع"، ذهبت سدى، وعندما دُعيت مؤخرا للمساهمة في ملتقى "الإعلام البديل" الذي نظمته جمعية "جسور"، التقيت جمال الدين الناجي، وسألته بحسن نية " أين وصل "الحمار الوطني للإعلام"، فضحكنا لفلتة لساني، لكن الرجل، بكل صراحة، كان نشطا بكل عنفوان شباب السبعينيات، وأصادفه في كل الندوات الجادة والرصينة حول الإعلام، وهو من الرجال الأكفاء القلائل المنفتحين على نظريات التواصل والإعلام الجديد في العالم، لكن أين هو الآن؟ لا ندري إن كان تعيينه مديرا عاما للاتصال السمعي البصري، سيفيد مؤسسة "الهاكا" ومشهدنا الإعلامي، أم أن المنصب هو مجرد قماط سيكتِّف حركية الرجل ليركن للزاوية. بعد صعود حكومة بنكيران، كنا نعتقد أن ثمة أشياء ستتململ، لكن العربة المدفوعة إياها من الخلف، سيتمّ جرّها إلى مستنقع منفلت تنقّ فيه الضفادع المزعجة كل يوم، وهو "الصحافة الإلكتريكية"، ولن يكون مفاجئا ما يتعرّض له بعض الصحفيين كل يوم من تنكيل، يشبه تماما ما يحدث في مصر الآن، من محاولة التضييق على كل صحفي يزعج الرئيس الإخواني محمد مرسي وحكومته. الصحفيون ليسوا ملائكة، بكل تأكيد، وأخطاؤهم لا تعدّ ولا تحصى، حتى في دولة صناعة الإعلام كبريطانيا، التي رأينا مردوخها يردخ رأس ميثاق الصحافة الأخلاقي مع الحائط. أيضا، الصحفيون ليسوا مجبرين أن يكونوا أصوات معارضة، بل إنه في ظل هيمنة التحكّم في المعلومة والرأي، يصبح دورهم كمراقبين للمجتمع غير حيادي، ويسقطون في الشدّ والجذب مع الرأي الأحادي للسلطة التي لا تفهم أنها كلما تخلّصت من عقدة النقد، كلما تفادت أن تطير أغطية طنجرات الضغط لتلصق بالسقف. الصحافة قفص زجاجي نتحرّك داخله، يمكّننا من رؤية العالم، لكن للأسف نتوهّم أننا نصل إليه أو نقربه. [email protected]