على عادته منذ عام 1992 نظم اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا اللقاء السنوي لمسلمي فرنسا خلال الفترة من 8 إلى 11 من مايو 2008، ولكن هذه المرة وقبل أيام من انعقاده، تفجرت الأزمة داخل "المجلس الفرنسي للديانة المسلمة" وهي الهيئة الممثلة للمسلمين، والتي دفعها إلى الوجود رئيس فرنسا الحالي نيكولا ساركوزي عندما كان وزيرًا للداخلية عام 2003؛ فقد أعلن مدير مسجد باريس دليل أبو بكر مقاطعته للانتخابات المقبلة لمجلس إدارة هذه الهيئة التمثيلية (8 يونيو) التي تتكون من ستة كيانات تمثل اتجاهات مختلفة للتيار الإسلامي. "" ويستند قرار المقاطعة على اعتراض مسجد باريس ومسجد ليون على نظام الانتخاب المفروض منذ نشأة الهيئة نتيجة مساومات سياسية بين ساركوزي واتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا ( المنتمي إلى مدرسة الإخوان المسلمين). ويعتمد الاتحاد على اختيار عدد من المندوبين داخل المجالس الإقليمية ليقوموا بانتخاب التيار الذي يتولى رئاسة مجلس إدارة الهيئة على المستوى القومي، ويحدد عدد المندوبين نسبة إلى مساحة المساجد المبنية على مستوى كل إقليم ( كل1000 متر مكعب تعطي الحق في عشرة مندوبين(. عضوات في المجلس الفرنسي للديانة المسلمة ويأتي الإعلان عن هذه المقاطعة قبل أيام من انعقاد اللقاء السنوي لمسلمي فرنسا ليؤكد على هشاشة تكوين المجلس الفرنسي للديانة المسلمة، ويظهر كل إشكاليات السياسة والمال والأيديولوجيا التي تخترق التواجد الإسلامي في فرنسا وعلى جميع مستوياته التنظيمية وعبر تاريخه. من يمثل المسلمين في فرنسا؟ في دولة مثل فرنسا تؤرخ لتطور نظامها السياسي بتطور مؤسساتها الجمهورية وتحديث نظامها السياسي التمثيلي ليواكب مستجدات التكوين السكاني والفكري لمواطنيها، وذلك حماية لسلامة الأمن الاجتماعي، حرصت الحكومات المتتالية منذ تفجر الأزمة الأولى للحجاب في فرنسا عام 1989 والتي أعقبت أزمة الكاتب الإيراني سلمان رشدي عام 1988، على توفير حل مؤسسي لسؤال : من يتحدث باسم المسلمين في فرنسا؟ ووجدت الدولة الفرنسية نفسها أمام شبكة معقدة من علاقات القوى بين تيارات إسلامية منظمة بشكل غير رسمي منذ أوائل الستينيات وتتنافس فيما بينها على ضم المسلمين المهاجرين إلى صفوفها. فبالإضافة إلى الصراع الأيديولوجي لمجموعة منتمية للإخوان في مصر وآخرين للإسلاميين بسوريا وغيرهم لتركيا، كان هناك أيضًا البعد القومي في التنافس التنظيمي على القيادة بين النشطاء الإسلاميين من تونس والمغرب والجزائر على مختلف درجات انتمائهم الديني والأيديولوجي. وفرض ميدان التنافس هذا أكبر ثلاثة كيانات لتمثيل المسلمين في فرنسا وهي: الفدرالية القومية لمسلمي فرنسا بأغلبية مغربية، واتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا المنتمي لمدرسة الإخوان المسلمين في مصر لمؤسسيه من التيار الإسلامي التونسي والذي انتقلت رئاسته في الوقت الحالي للمغاربة، والمسجد الكبير بباريس لإدارته الجزائرية الموالية للحكومة بالجزائر، وتمثل الإسلام الليبرالي في نظر الحكومة الفرنسية. وبالتالي يعبر عن الإسلام الحكومي الذي يهدده اتحاد المنظمات الإسلامية في الفوز بالانتخابات هذه المرة نظرًا لشبه احتكار هذا الأخير لعدد المساجد المبنية حديثًا والتي استغلت معيار المساحة الكبيرة لترشيح عدد أكبر من المندوبين داخل اللجنة الناخبة لأعضاء المجلس الفرنسي للديانة المسلمة، مما يفرض الجدل من جديد حول عدالة وصحة معيار المساحة كنظام ترشيح والذي لا يعكس بالضرورة الحقيقة التمثيلية للمسلمين في فرنسا، ففي ظل عدم مشاركة جمهور المسلمين لانتخاب ممثليهم، فهو يعتبر تمثيلا للأقلية الناشطة سياسيًا من إسلاميين منتمين بالعموم إلى مدرسة الإخوان المسلمين وشبكاتها الدولية والتي هي في سبيل تحقيق أجندتها السياسية، ولذلك تعج منشورات اتحاد المنظمات الإسلامية بمواقف وأفكار الشيخ يوسف القرضاوي والمفكر طارق رمضان وأخيه هاني رمضان، بالإضافة إلى أصوات الدعاة: حسن القيسوني، وفريد عبد الكريم وطارق أوبرو. الإسلام الفوقي والإسلام التحتي ويمكن استنتاج أن سمات المشهد الإسلامي السياسي الفرنسي تقترب إلى حد كبير مع مظاهر وجوهر صراع نظم الحكم والجماعات الإسلامية في المجتمعات العربية، فهناك إسلام الدولة الفوقي وإسلام التنظيمات غير الرسمية التحتي والذي في نسخته الإخوانية قد استثمر طاقاته التعبوية في شكل جمعيات أهلية ودينية دعوية وخيرية ليطور إستراتيجية المشاركة السياسية المبنية على القرب من أفراد المسلمين لتقديم الخدمات الاجتماعية والثقافية والتربوية الدينية لأسلمة مجتمع المهاجرين ذي الأغلبية المغاربية وغير المسلمين من المجتمع الفرنسي. دليل أبوبكر متحدثا بالميكروفون وفي هذا الاتجاه يشير الباحث سمير إمغار- المتخصص في دراسة ظاهرة الأسلمة في المجتمع الفرنسي وأوروبا- إلى أن تزايد النفوذ السياسي لاتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا يرجع إلى حد كبير كردة فعل لمساندة الحكومة الفرنسية غير المشروطة لجامع باريس الذي يمثل أفراد إدارته إسلاماً ليبراليا مفروضا على مجموع المسلمين ليقدم وجهاً لإسلام فرنسي مهادن للحكومة وأسلوب الحياة الغربي ومنفصل عن قضايا الأمة الإسلامية، ويقتصر على تنظيم الطقوس الدينية. فعلى الرغم من تواجد اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا منذ أوائل الثمانينيات فإن دوره ظل هامشياً حتى استطاع فرض سيطرته على مجال الدعوة تدريجياً؛ نظراً لفقدان مصداقية جامع باريس عند الجيل الثاني والثالث من أبناء المهاجرين المسلمين الذي يحتمي بالحكومة الفرنسية التي تآكلت هيبتها لدى هذه الأجيال الغاضبة والمهمشة اجتماعيًا وثقافيًا داخل المجتمع الفرنسي. بل إن أعضاء اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا هم نفس الأشخاص الذين هاجروا إلى فرنسا هرباً من الملاحقة الأمنية للنظم الحاكمة في الدول العربية والإسلامية، وجاءوا إلى فرنسا معتقدين بضرورة الاستمرار في مشروعهم السياسي الإسلامي لمواجهة تغريب ومسخ الهوية الإسلامية، ولكن هذه المرة ينشطون في مواجهة الغرب على أرضه وليس على أرض الإسلام؛ وذلك للاستقواء بالحرية المتوفرة بالدولة الفرنسية ضد تحالف القوى الغربية والنظم الحاكمة بالمجتمعات الإسلامية لضمان قيادة الأولى للنظام الدولي واستمرار تبعية الدول الإسلامية لهذه القوى ذات الوجه الاستعماري الجديد. الإسلام المعتدل في العملية السياسية يرى عدد من الباحثين أنه قد تشكلت مجموعة من العوامل أو الظروف التي مهدت لتبني الغرب فكرة دمج تيار الإسلام المعتدل في العملية السياسية : كل هذه الظروف مصحوبة بسياسة غربية بقيادة أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر لاحتواء التعبير الإسلامي الجماهيري المشحون بمعاداة الغرب لكنه غير مسلح - وإن كان تأييده للعمل الجهادي واضحًا- والممثل في قواعد الحركات الإسلامية الوسطية أو المعتدلة أو الإصلاحية العاملة منذ فترة في العمل الأهلي والدعوي الديني؛ فقد حثت السياسات الخارجية والداخلية الغربية والعربية في المغرب العربي والشرق الأوسط للتنسيق بينهم فيما اتضح منه التوجه لإدماج الإسلاميين الوسطيين إلى العملية السياسية. المراهنة على مأسسة الكيانات الإسلامية تلاقت مصالح الدول الصناعية ومنها فرنسا في تأمين أسواق الدول العربية والإسلامية مع طموحات السياسيين الصاعدين من كل جانب للمراهنة على إدماج الإسلاميين كأحد أسلحة النفس الطويل والتي تشترك في هذه الصفة مع طبيعة الديناميكيات المهيمنة على هذا النوع من الحركات الإسلامية الوسطية الإصلاحية. وفي هذا السياق الدولي وأصدائه الداخلية، كان إسناد مهمة مأسسة تمثيل المسلمين في فرنسا عام 2003 لوزير داخليتها السابق ورئيسها الحالي ساركوزي بأسلوبه الصارم الذي فرض الإسراع باتفاق بين الكيانات الإسلامية في فرنسا والذي تعبت في الوصول إليه الحكومات السابقة، معتمدًا على برجماتية لائيكية أنجلوسكسونية تختلف عن لائيكية فرنسا التقليدية. طارق رمضان وهذه السياسة تراهن على أن مأسسة التيارات السياسية ذات المرجعية الدينية سوف تروض النزعات التطرفية لهذه الحركات السياسية الإسلامية، وبالتالي تنخرط في الجانب الإجرائي المؤسسي الذي سوف يفصلها عن قواعدها الجماهيرية ليذوب البعد الأيديولوجي فيما سوف يفرضه التنافس السياسي من تبني هذه الحركات من خطاب مزدوج، الأول راديكالي أمام الجماهير المؤدلجة، والثاني علماني أمام الشركاء السياسيين الليبراليين. وكان هذا الزواج القسري - بين كيان الإسلاميين الوسطيين الأكثر جماهيرية الممثل في اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا وبين مؤسسات الجمهورية الفرنسية- سببًا لغيرة الكيانات الأكثر راديكالية ممثلة في الجماعات السلفية في الضواحي الفرنسية المتمركز بها أبناء المهاجرين من أصول مسلمة والمستقطبين من جماعة التبليغ في نسخة وهابية من جهة، ومن جهة أخرى الإسلاميون الليبراليون أو الإصلاحيون العلمانيون للفكر الإسلامي والممثلة في جامع باريس الكبير الذي أكد مرارًا على أن الأخذ بمعيار المساحة كنظام ترشيح أعضاء المجلس الفرنسي للديانة المسلمة ما هو إلا بند مفصل على مقاس مطلب اتحاد المنظمات الإسلامية لكي تشارك في المجلس، ومن هنا يضمن الأخير تزايد نفوذه التمثيلي السياسي لمسلمي فرنسا.. تفرق الصوت الإسلامي وغموض المستقبل كانت مقاطعة المفكر طارق رمضان للقاء السنوي لمسلمي فرنسا آن ذاك رد فعل لمعارضته لإنشاء المجلس الفرنسي للديانة المسلمة ومشاركة اتحاد المنظمات الإسلامية فيه؛ لأنه يرى فيه تدخلا للدولة الفرنسية في الشأن الديني وهو ما يتنافى وتعريف اللائيكية من حياد الدولة عن الشأن الديني والتي هي من مبادئ الجمهورية الفرنسية، وموقفه هذا يتفق مع مناداته باتساق الانتماء الديني للمسلم الأوروبي والمبادئ المؤسسة لفلسفة الدولة الغربية الذي يعيش بها، على أساس أنه مواطن من الدرجة الأولى ويجب أن ينعكس ذلك في تعامل الدولة مع الجهات الممثلة للمسلم الأوروبي مثل تعاملها مع الجهات الدينية المسيحية واليهودية، وعدم الاستسلام لإغراءات سياسية غرضها التحكم والسيطرة على مضمون ووجهة نشاط الكيانات الممثلة للمسلمين في أوروبا، لكنه بتدشين المجلس الفرنسي للديانة المسلمة، كان الرجوع للخلف متأخرًا بالنسبة لجميع الأطراف؛ فساركوزي أخذ على عاتقه إنقاذ ماء وجه حكومة حزبه اليمينية التي هددت بوصول زعيم حزب الجبهة القومية اليميني المتطرف لوبين في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية أمام الرئيس جاك شيراك المنتهية مدته آن ذاك عام 2002. عمرو خالد بديلا لطارق رمضان ومن جانب اتحاد المنظمات الإسلامية فقد أقام عرسه السنوي لالتقاء مسلمي فرنسا وقام بدعوة الداعية المشهور عمرو خالد بدلا من المفكر طارق رمضان، وفاز الفيصل المؤيد لانضمام الاتحاد للمجلس الفرنسي للديانة المسلمة على أساس تأييد المشاركة وعدم العزلة للحصول على مكاسب سياسية ومزيد من النفوذ والتواجد الإعلامي المعلن على مستوى قومي. ويزال مسلسل الصراع والتنافس والعزل بين الأطراف محتدمًا في ظل غموض الأبعاد المالية والصفقات السياسية التي سوف تبرم في الأسابيع المقبلة لاختبار قدرة جميع الأطراف على فرض إرادتها والترويج لمصالحها داخل مؤسسة الزواج القصري بين كيانات تمثيل المسلمين في فرنسا المسماة ب"المجلس الفرنسي للديانة المسلمة" والذي يتفتت من الداخل وهل سوف يستطيع اتحاد المنظمات الإسلامية جني ثمار المشاركة العلنية؟ أم سوف يحكم ساركوزي قبضته على جميع الأطراف لتقليم أظفار من أصبحت له أظفار وتسكيت أصوات من أصبح له صوت؟ علمًا بأن جزءًا من القواعد الجماهيرية لاتحاد المنظمات الإسلامية خاصة من الشباب قد استمالها التيار السلفي الراديكالي المتشدد المعادي للغرب ولفرنسا؛ نظرًا لخذلانهم في مواقف وتصريحات مثل الحجاب والشأن الفلسطيني. هذا الأخير الذي يتفادى مجرد التعليق على جماعات الضغط اليهودية التي تستفز مشاعر جماهير المسلمين(مثل سيمون فيزينتال لحق الإنسان اليهودي) تحاشيا للاتهام بمعاداة السامية وهو نفسه الذي خصص في عام 2003 جائزة العمل الإنساني لوزير الداخلية السابق ورئيس فرنسا الحالي ساركوزي! نهى الشيخ-باحثة عربية مقيمة في فرنسا إسلام أونلاين