... إن المعطيات التي كشفت عنها وزارة العدل سواء فيما يتعلق بالاغتصاب أو بالجريمة عموما تتطلب وقفة خاصة من المجتمع المغربي ليتدارك الموقف، ويضع آليات ناجعة لحماية نفسه. ... الأرقام التي كشف عنها مركز الدراسات والأبحاث الجنائية التابع لوزارة العدل والحريات، حول ظاهرة الاغتصاب تدق ناقوس الخطر، وتفرض تدخلا شاملا وعاجلا لوقف التنامي السرطاني للظاهرة في المغرب. فحسب دراسة أعلنتها الوزارة مؤخرا، فإن حالات اغتصاب الفتيات قد تضاعف مائة في المائة خلال عشر سنوات. والمعطيات المقلقة التي كشف عنها المركز حول الظاهرة تحمل عدة دلالات مخيفة تفرض على المجتمع المغربي الإسراع إلى تطوير آليات حماية نفسه من مختلف الآفات الاجتماعية والجنائية والتي يعتبر الاغتصاب أحد أخطر مؤشراتها بصفته انتهاكا خطيرا لحقوق المرأة. وأول تلك الدلالات هي التي تعبر عنها وثيرة تنامي ظاهرة الاغتصاب، فرصد الظاهرة من خلال مؤشر القضايا المسجلة في مختلف المحاكم في المغرب خلال عشر سنوات كشف سرعة تنامي كبيرة. قد يكون الأمر تعبيرا عن ظاهرة صحية تعني ارتفاع عدد الملفات التي تصل إلى القضاء دون أن يعني ذلك ارتفاعا في جرائم الاغتصاب، غير أن مقارنة معطيات الظاهرة في العالم تكشف عن تنامي مقلق لها وأن الإحجام عن الإبلاغ بجرائم الاغتصاب ما زال أهم عوامل حمايته وانتعاشه. وفي المغرب تؤكد وضعية الآفات الاجتماعية ذات العلاقة المباشرة وغير المباشرة بالاغتصاب ما يعزز أن الأرقام المعلن عنها حول الاغتصاب أرقام تعبر في المقام الأول عن فرضية تنامي جريمة الاغتصاب وليس فقط دعاويه القضائية. فالجريمة عموما متنامية وجرائم السكر العلني وتعاطي المخدرات وجرائم الأخلاق بالخصوص تعرف تصاعدا مقلقا. وهذا التطور المقلق يكون أكثر خطورة إذا استحضرنا المقاربات غير فعالة المعتمدة للحد من الظاهرة و التي لا تعبر الأرقام الرسمية حولها سوى عن الظاهر من جبل جليدها الضارب في أعماق الصمت الذي تحاط به جرائم الاغتصاب عموما، إما حفاظا على شرف الأسرة أو حماية للجاني امتثالا لتقاليد "العار" أو خوفا من انتقام الجاني إلى غير ذلك من الاعتبارات. وفي غياب مقاربة شمولية ومندمجة ترتكز على التربية والتوعية و الشدة في العقاب بما لا يفتح أي مجال للإفلات من العقاب حتى تحت ستار الزواج من المغتصبة، قد تستمر الظاهرة في التنامي ببقاء وتنامي أسبابها والعوامل المشجعة عليها. ثاني تلك الدلالات تتعلق بحجم الظاهرة التي تعبر عنها الأرقام التي سجلتها، حيث سجلت تلك المعطيات الرسمية أن معدل عدد القضايا المسجلة في جريمة الاغتصاب خلال العشر سنوات الماضية هو 786 قضية سنويا، أي أزيد من قضيتين في كل يوم في الاغتصاب، وبالطبع لا تعبر تلك الأرقام سوى عن القضايا المسجلة وليس عن الجرائم المرتكبة فعليا والتي لا يصل إلى المحاكم منها سوى القليل لما ذكرناه من الاعتبارات وغيرها. وهذا المعدل كبير جدا إذا استحضرنا بعض التقديرات التي تقول بأن كل قضية جرائم الشرف تصل إلى القضاء تقابلها على الأقل عشرة جرائم لا تصل إلى القضاء نهائيا. ثالث تلك الاعتبارات تتعلق بطبيعة جريمة الاغتصاب، ورغم أن معدل قضيتين مسجلتين في اليوم قد تبدو ضعيفة مقارنة مع ما تسجله جرائم الاغتصاب يوميا من معدلات مخيفة في الدول الغربية مثلا، إلا أن استحضار طبيعة الجريمة في علاقتها مع القيم والمجتمع تطرح أسئلة كبرى حول طبيعة التنشئة التي يخضع لها المجتمع المغربي، و الأطراف الفاعلة في هذه التنشئة ومدى تصرفها بمسؤولية. إن الاغتصاب يجمع بين جريمتين، جريمة انتهاك عرض الغير، وجريمة ممارسة العنف في ذلك الانتهاك. وهذه الجريمة المركبة من حيث الفعل (ممارسة الجنس بالإكراه) ومن حيث القيم (المتعلقة بالجنس أو المتعلقة بالعنف ضد الآخر) تعبر عن اختلالات كبيرة تنخر المجتمع المغربي وتجد ترجمتها في أحد أعلى قمم الجريمة وهي الاغتصاب. إن الاغتصاب بصفته سلوكا منحرفا عنيفا تكون وراءه عدة عوامل، أهمها التغذية اللاشعورية الكثيفة بالجنس ومثيراته، وهي التغذية التي تلعب فيها وسائل الإعلام دور الفاعل الأساسي وخاصة منها الأنترنيت وصحف الإثارة. وثاني تلك العوامل هو ضعف التربية الجنسية سواء على مستوى الأسر أو على مستوى المدرسة أو على مستوى الإعلام العمومي، مما يفسح المجال لفاعلين آخرين في دوائر غير مؤسساتية لتغطية حاجة النشء إلى التربية الجنسية والتي لا تخضع لا لضوابط تربوية ولا لرؤية سليمة ولا لقواعد علمية. بل تتم عملية التأطير في تلك الدوائر على أساس الإثارة الجنسية وليس على أساس التربية الجنسية. مما يجعل الشخص في حالة "تأهب جنسي" حاد، وحين تنضاف لهذه الحالة ضعف الوازع الديني وضعف الرصيد الحقوقي مع كثافة ثقافة العنف التي يكون مصدرها الأفلام والوسط الاجتماعي، نكون أمام أشخاص "متأهبين جنسيا" وعنيفين اجتماعيا يستسهلون الإكراه في تحصيل المتعة الجنسية. إن المعطيات التي كشفت عنها وزارة العدل سواء فيما يتعلق بالاغتصاب أو بالجريمة عموما تتطلب وقفة خاصة من المجتمع المغربي ليتدارك الموقف، ويضع آليات ناجعة لحماية نفسه. فالمجتمع المدني اليوم مطلوب منه أكثر من أي وقت مضى تقوية حضوره وتنويع مبادراته والإبداع في سياساته سواء المتعلقة بالتأطير المباشر للمواطنين أو التي تروم الضغط على صناع القرار السياسي للتدخل المناسب والسريع لحماية المجتمع. إن الفقر الفظيع في التأطير الحمائي للمواطنين والمجتمع، والذي تكرسه المناهج التربوية والسياسات الإعلامية، يتطلب التدخل العاجل بمقاربات ناجعة وشاملة ومندمجة. غير أن مسؤولية الإعلام، وخاصة الإعلام الخاص الذي يدفعه البحث عن الموارد المالية إلى السقوط في أحيان كثيرة في فخ دعم وتغذية عدة ظواهر اجتماعية خطيرة والتي يكون الاغتصاب أحد أهمها، مسؤولية كبيرة. كما أن أحد مداخل حماية المجتمع أيضا بالإضافة إلى ما سبق هو مراجعة منظومة العدالة بما يساهم بفعالية في تحقيق حماية المجتمع، سواء على مستوى الأحكام التي تعتبر في جريمة الإغتصاب مثلا مخففة، أو على مستوى التأطير في المؤسسات السجنية بما يجعلها مؤسسات حقيقية لإعادة الإدماج في المجتمع