أن يفكر مجموعة من الباحثين والمثقفين في واقع اليسار والمشاكل التي يتخبط فيها في الوقت الراهن، وأن يقدموا على نقد أخطاء التجربة الإيديولوجية والتنظيمية التي عاشتها الإطارات المنتسبة إلى هذا الكيان السياسي والفكري، خصوصا في ظل حالة التشتت والأزمة التي يعرفها والواقع الجديد الذي بات يتشكل في سياق الحراكات الاجتماعية والشعبية التي عرفتها دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، فهذا شيء يستحق التنويه به والاهتمام بمضمونه . وتزداد أهمية المبادرة في ضوء الغياب الكبير مند سنوات عديدة للمثقف والباحث سواء المستقل أو الحزبي من ساحة الفعل والتنظير والنقد وإنتاج الخطاب التي هي مهام من صميم وظيفته المجتمعية ودوره السياسي، بل وشرطا لصفته ووجوده كمثقف في حد ذاته. فعندما يتمعن المرء في واقع حال النخب الثقافية في المغرب، ونقصد الباحثين والمبدعين الذين ينتمون إلى مجالات الفكر والثقافة والمعرفة الحديثة، يتأكد من مدى استقالتهم مند ردح من الزمن من أدوارهم ومهامهم التي تتمثل أساسا في التحليل والنقد وتطوير الحساسيات والأذواق والمعارف والخطابات النظرية بما يساهم في إضاءة مسارات تطور الوعي العام والممارسة السياسية والحياة الاجتماعية. وهذا ما فسح المجال لظهور فاعلين جدد خاصة فقهاء الفتاوي والخطباء الذين باتوا، رغم محدودية معرفتهم وأدواتهم، يؤثرون في الحياة المجتمعية والنقاش العمومي بل والقرار السياسي، مما أضفى نوعا من الميوعة الفكرية والانفعالية على المشهد العام في البلاد، وجرد الحياة السياسية والثقافية من عمقها العقلاني والنقدي. زاد من ذلك تنامي ظاهرة المثقف التقنوقراطي أو الخبير الذي يبقى مجال اشتغاله بعيدا عن هواجس السياسة والتغيير وتطوير المجتمع مادام منزويا في مهامه التقنية وحياده "العلموي". بيد أنه يتحمل المثقف الحداثي المسؤولية الكبيرة فيما آلت إلية الحياة الاجتماعية والسياسية والممارسة الثقافية من تدهور في الخطاب والممارسة، وفي الإطار المعرفي وإمكانيات التطوير والارتقاء، وفي أخلاق الالتزام والجرأة والاستقلالية المطلوبة. بل أن العديد من المثقفين المغاربة، من باحثين ومبدعين، الذين تشكل رصيدهم وحضورهم في ظلال اليسار المعارض منذ الستينيات وإلى حدود التسعينات من القرن الماضي سرعان ما التهمهم وأغرهم تحول السياسي عند أول تجربة في التدبير الحكومي التي فضحت انتهازية العديدين وقصور مشاريعهم، وهشاشة المثقف والجسد الثقافي. وأمام رياح التغيير والعولمة والانتفاضات الموالية انكشفت هلامية العديد من المقولات والخطابات والرموز التي تشبع بها المثقف اليساري وساهم في صناعتها وترسيخها بدل أداء دوره النقدي اتجاه السياسي والدوغمائية الإيديولوجية، ولم يستفق -ولعله استفاق فعلا وبوعي- إلا بعد أن بدأت تتآكل وتتهاوى أمامه الأصنام التي صنعها بنفسه وتنكشف حقيقة الأحلام والانتماءات الزائفة. فإذا كان موقعو بيان وحدة اليسار قد توفقوا -في نظرنا- على المستوى المنهجي في إثارة أهم القضايا والأسئلة التي تتطلب المطارحة والنقاش وإعادة مقاربتها والإجابة عنها انطلاقا من أخطاء الماضي ومستجدات الحياة الاجتماعية والسياسية الراهنة، خاصة فيما يتعلق بالجانب التنظيمي والإيديولوجي والتعاطي مع السؤال الديني والمسألة اللغوية والثقافية ودوائر الهوية والانتماء...،فإن الكيفية التي أثيرت بها هاتين القضيتين الأخيرتين نقصد محاور اللغة والثقافة والهوية والانتماء وما يرتبط بها من قضايا الأمازيغية والفكر الوحدوي والمشروع القومي، والحرص الظاهر على الجمع بين اختيارات الماضي وتحولات الحاضر في نص البيان، تعتبر منزلقات جديدة تعكس نقصا في جرأة التنظير والنقد الذاتي، مما سيحول لا محالة دون حصول أي نقاش مفيد أو تقدم خطابي وسياسي على أساس أهداف البيان ومساهمة المثقف الحزبي في صناعة المرحلة الراهنة بالمغرب وفي بناء المستقبل المشترك. في وضعنا العربي التاريخي، يقول أصحاب بيان وحدة اليسار، ليس للوعي الوطني إلا أن يكون مقرونا بالوعي القومي، وإلا انحط إلى "عصبوية محلية" لا تختلف في شيء عن العصبيات الطائفية والإثنية والمحلية التي تعشعش بين ظهران الوطن الواحد. ففي هذا التبرير للإيديولوجية القومية التي هيمنت على الخطابين الفكري والسياسي لدى نخب وجماهير اليسار ومثقفيه لبس كبير وإصرار وجداني على البقاء في دائرة القومي بأبعاده الثقافية والاجتماعية التي لا يمكن أن تتآلف مع خطاب التعدد والتنوع وخصوصية الكيان الوطني، ولا أن تؤسس لخطاب يساري جديد يستفيد من انتكاسات وأوهام الماضي وينسجم مع روح العصر وتغير مفهوم التكتلات وبناء المصالح المشتركة والمستقبلية التي لا يمكن أن تتأسس على طموح قومي ضيق أو نزوع ثقافوي ولغوي وأيديولوجي محدود الإمكان والأفق. وعندما يذكرنا البيان بأن "اليسار كان شديد الارتباط والتفاعل في الماضي مع القضايا العربية الكبرى، وكان رديفا قويا ومشاركا نشيطا في حركة النهوض القومي التقدمي ، وحتى بعد وقوع الهزيمة استمر اليسار على مواقفه ورؤيته القومية التقدمية فاعلا وحاضرا؛ بل يمكن التأكيد على أن الهزيمة برجتها الوجدانية القوية أحدثت نقلة نوعية في الوعي القومي لدى الشعب المغربي عامة، ولدى يساره خاصة، كما زجت بجماهير شباب تلك المرحلة في رحاب النضال القومي"، نتساءل إن لم يكن هذا السياق والإرث التاريخي هو الذي يتطلب النقد والاستفادة من أخطائه وليس الإشادة به والدعوة إلى التمسك المتصلب به، خاصة إذا طرحنا السؤال الكبير الذي يتفاداه مثقفو اليسار وهو بكل موضوعية: ماذا استفاد المغرب بيساره وشبابه وجماهيره من هذا الخطاب الوحدوي والقومي، وألم يكن جزء كبير من معضلاته السياسية والثقافية نتيجة لهذا الارتباط والإرث الذي عكس بشكل جلي واقع التخلف الديمقراطي والاجتماعي والاقتصادي الذي ساهم اليسار في تمجيده وتكريسه؟ وعندما نتمعن في دعوة البيان لليسار إلى "التمسك، أولا، بما كان عليه تاريخيا من تفاعل الوعي والممارسة تجاه قضايانا العربية الكبرى، و، ثانيا، إلى تعميق وعيه النظري بالمسألة القومية"، يتضح أن مثقفي اليسار لا يزالوا مسكونين بالحنين إلى ذاك الماضي ولم يستطيعوا بعد اتخاذ المسافة الضرورية من مقولاته وأحلامه التي فندها الوعي النظري والخطاب الثقافي والسياسي الجديدين وما صاحبهما من مقولات وبدائل صححت لغة الانتماءات الوحدوية والتأحيدية المعطوبة، وعززت مقومات الكيان الوطني وتعدديته. والمؤكد أن هذا الواقع، وعكس ما يطمح إليه أصحاب البيان، لن يسمح لليسار المغربي باستعادة وهجه القومي إلا إذا رغب في إعادة إنتاجه خطابيا والتغاضي عن فشله التاريخي، إن لم يكن الأمر مجرد حنين إلى لقاءات بغداد ودمشق والقاهرة وطرابلس الشهيرة. وإذا كان البيان قد أصاب في تحميل اليسار مسؤولية إهمال الرصيد الثقافي واللغوي الأمازيغي في البلاد، وإرجاع تضاؤل مكانة الأمازيغية إلى حقبة تأسيس العمل الوطني وتحسَّس الوطنيون الأوائل وتشديدهم على عوامل التوحيد وعدم المبالاة بالتنوّع وبما ينطوي عليه من ثراء، فإنه بقي وفيا لإطاره الإيديولوجي القومي عندما يدعي بأن اليسار ما كان يرى تناقضا بين انتماء المغرب إلى مجاله الثقافي و الحضاري العربي الإسلامي، وبين مكونه الهوياتي الأمازيغي، وعندما جانب الصواب في القول بأن القومية ليست سوى نضال الشعوب المنتمية للمجال الثقافي الحضاري العربي الإسلامي، بتعددياتها الإثنية واللسانية والدينية والمذهبية، من أجل التحرر والتنمية والتحديث الثقافي والاجتماعي والديمقراطية، وخاصة عندما أفصح عن هاجسه الإيديولوجي والاحتوائي الجديد بالحديث عن خطاب المصادمة بين العربية والأمازيغية والدعوة إلى إطلاق إستراتيجية ثقافية تستدمج التراث اللغوي والثقافي الأمازيغي، لتصحيح النظرة المطلبية الأمازيغية وإنتاج خطاب توحيدي حولها. فواقع الإقصاء الذي عانت منه الأمازيغية لغة وثقافة وهوية كان المغيب الكبير في تحليل أصحاب البيان خاصة أنه ساهم فيه اليسار السياسي والثقافي وأحزاب الحركة الوطنية بشكل كبير منذ عمل الكتلة الوطنية وحضور شكيب أرسلان إلى تطوان خلال ثلاثينيات القرن العشرين، ومن موقع النزاهة الفكرية والنقدية كان الأجدى التسطير على تلك الأخطاء الكبرى بكل شجاعة وتحليل امتداداتها النظرية والخطابية على مستوى الخيارات الإيديولوجية الجديدة وعلى رأسها إعادة النظر في التصور والحلم القومي الذي ليس شرطا لوجود اليسار وقوته في المستقبل. ومن خلال ما سبق نود إثارة انتباه موقعي البيان وعموم اليسار عموما إلى الأفكار الآتية: - إن القومية لم تكن إطارا تعدديا لنضال الشعوب من أجل التحرر والتنمية والديمقراطية، بل كانت إيديولوجية توحيدية أقصت بقية المكونات واستعبتها قسرا داخل بوتقة خطابها وتصورها المتعالي عن الواقع والإنسان والمحرف للوضع الاجتماعي وللتاريخ. بل أن هذه القومية الإيديولوجية أنتجت العديد من الرموز والأصنام والأنظمة والنخب التي أقامت شرعيتها على قومية مستبدة كانت السبب الرئيس في وضعية التخلف ومناهضة قيم الحرية والديمقراطية والتنمية والحداثة الفعلية في هذه البلدان. - إن الخطاب والمطلب الأمازيغي في المغرب لم يكن مجرد مطلب لساني وتراثي بسيط "معلقا في الهواء"، بل هو في أساسه مطلب اجتماعي وخطاب ثقافي وإنسي تصحيحي قام على فضح مختلف أشكال التحريف والاستغلال التي لحقت الوضع اللغوي والثقافي والتاريخي والسياسي، وإعادة الاعتبار للذات المغربية، ونقد الخطاب القومي العربي الذي لم يكن يرى في المغرب سوى ملحقة لأنظمة مستبدة وسوقا لترويج منتوجاتها الثقافية وأوهامها السياسية ومكبوتاتها الاجتماعية. كما أن هذا الخطاب أو بعبارة البيان "النظرة المطلبية "، كانت في غالبيتها تعددية واختلافية وليس صدامية كما حاول اختزالها في ذلك أصحاب البيان. - إن المطلوب من المثقف ولو في إطار ارتباطه الإيديولوجي والحزبي ومسعاه التنظيري لمستقبل اليسار في المرحلة الصعبة الراهنة، هو امتلاك الجرأة في نقد الذات والإرث السياسي الماضوي، والاستفادة من تجارب اليسار الفكري والسياسي التي أنتجتها أوروبا الديمقراطية من أجل التأسيس ليسار جديد يخرج من قوقعة القومي ويبني بدائل فكرية وسياسية واقتصادية قابلة للتحقيق على أرض المغرب المتعدد. - إن مشروع الاقتصاد المشترك والديمقراطية والتحديث الثقافي والاجتماعي، خصوصا في ظل الشروط والواقع الجديد الذي صار يتشكل، لا يمكن أن يتأسس على عناصر وحدوية جامدة ومعيقة، بقدر ما تؤكد تجارب الاتحادات والتكتلات الناجحة في العالم بأن الإمكان الجهوي المغاربي والمتوسطي، والمصالح الاقتصادية والسياسية المتبادلة كما يعمل بذلك اليسار الناجح في العالم، هي طريق التنمية والتطور الديمقراطي والتحديث الاجتماعي.