لا يمكن أن نفهم حسرة "مالي" ودموعها الغزيرة إلا إذا علمنا في أي دائرة تتحرك تلك الفئة الصغيرة، والميدان الذي تلعب فيه لعبتها. فقد بكت الباكية عندما خرج الدستور المغربي الجديد ليوم العرض والاستفتاء وليس فيه إقرار بحرية المعتقد، والمقصود في أدبيات "مالي" ومن يدور في فلكها الضيق هو حرية اعتناق أي عقيدة أخرى خارج الإسلام بالمغرب مثل المسيحية والبوذية والكونفوشيوسية والإلحاد، مع ضمان الدعوة إليها ونشرها وحماية الدولة المغربية لها. وإضافة إلى فك الارتباط بالسماء تتبنى مالي حرية الميل الجنسي، ولنقلها بصراحة حرية الشذوذ الجنسي. وإذا كان الإلحاد قد فقد معسكره الشرقي منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي، فإن الدراسات تشير إلى أن أوروبا كلها تعرف تصاعدا في نزعة الإلحاد، إذ في سنة 2001 -وكانت المجموعة الأوروبية تتكون من 15 بلدا- كانت نسبة الملحدين 20.5 بالمئة (الكاثوليك 51 بالمئة، البروتستانت 16 بالمئة، الأنغليكان 6 بالمئة، الأرثوذوكس 3 بالمئة، المسلمون 3 بالمئة، اليهود 0.3 بالمئة). بعد توسيع الاتحاد الأوروبي بانضمام عشرة بلدان سنة 2004 تغيرت النسب قليلا بسبب الثقل الكاثوليكي لبلد مثل بولونيا، وصارت نسبة الملحدين 19 بالمئة.(الكاثوليك 55 بالمئة، البروتسانت 15 بالمئة، الأنغليكان 5 بالمئة، الأرثوذوكس 3 بالمئة، المسلمون 2.5 بالمئة، اليهود 0.5 بالمئة). في عام 2009 انضم بلدان آخران أغلبيتهما من الأرثوذوكس- بلغاريا ورومانيا- فارتفعت نسبة الأرثوذوكس إلى 6 بالمئة، وارتفعت نسبة المسلمين إلى 4 بالمئة بسبب الهجرات وتزايد المواليد، وأيضا بسبب نسبة مسلمي بلغاريا البالغة 13 بالمئة. وتقدم السويد حالة جديرة بالتأمل لما فيها من متناقضات مثيرات، فهي البلد الملحد الأول في العالم بنسبة 85 بالمئة، وفيها يحتل الدين الإسلامي المكانة الأولى بين الأديان، وهي أول بلد تعترف كنيسته بالشاذين الجنسيين وتبيح "التزاوج" بينهم. أما فرنسا فتقدم حالة نموذجية للتصاعد المثير للإلحاد، فعدد الملحدين بهذا البلد في هذه الفترة يمثل ضعف عددهم قبل عشر سنوات، ومعظم الفرنسيين يعرفون أنفسهم على أنهم ملحدون، أو غنوصيون لا أدريون. ذكر فريديريك لونوار رئيس تحرير مجلة "عالم الأديان" (لوموند دي روليجيون) في تقديم ملف شهر شتنبر 2011 الذي تناول سؤال "هل أصبحت فرنسا ملحدة؟" أن من أسباب عودة الإلحاد بالغرب تطور العقلية النقدية، وأسلوب الحياة العصرية المدنية، وفقدان التوريث الديني بين الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة، أو غياب دور الأسرة. وهذه أسباب لا ريب في أنها تقف وراء الإلحاد في الغرب، ولكن آفة الباحثين الغربيين أنهم ما يزالون مرضى بالنرجسية والتركز حول الذات، إذ لا عالم إلا عالمهم، ولا دين إلا دينهم، ولا تفسير إلا تفسيرهم، ومكانة الآخرين تأتي بعدهم. للكنيسة تاريخ أسود في الحياة العامة والخاصة للغربيين، فلا مراء في أن العنف الديني المعاصر يضاعف من ظاهرة الإلحاد ويباعد بين الناس والدين-خاصة الإسلام- ولكن للتاريخ قانونا لا يحابي أحدا وهو قانون الارتداد، فلكل فعل رد فعل يساويه في الحجم ويعاكسه في الوجهة. فقد كانت فرنسا تلقب إلى عهود قريبة بأنها البنت الكبرى للكنيسة، وها هي اليوم تصبح البنت الكبرى للإلحاد. وهذا ما يجعل رموز الدين وممثليه والمؤمنين به مسئولين عن الأفعال الصادرة عنهم وردود الأفعال الصادرة من خصومهم. أنصار الإلحاد وحرية المعتقد منظمون غاية التنظيم في جبهة عالمية تعقد مؤتمراتها بصفة دائمة للتشاور والتباحث والتباكي أيضا. ويمثل الفرنسيون 40 بالمئة من عضوية الملحدين والحداثيين دعاة حرية المعتقد والفكر الحر. في فاتح غشت 2011 أصدرت الرابطة الدولية للفكر الحر مشروع بيان عرض في المؤتمر العالمي للفكر الحر في أوسلو بيانا حول قضيتهم ذكروا فيه مطالبهم وجبهات نضالهم. وعقد المؤتمر العالمي للفكر الحر في أوسلو يوم 10 غشت 2011، عقب المجزرة الإرهابية التي نفذها مهووس من اليمين الديني الإنجيلي وراح ضحيها 81 شخصا فضلا عن عشرات الجرحى. وشارك في المؤتمر 180 مندوبا جاؤوا من 18 بلدا من جميع القارات: ألمانيا والأرجنتين وأستراليا وبلجيكا وكندا والشيلي وإسبانيا وفنلندا وفرنسا وبريطانيا والهند وإيطاليا ولبنان والنرويج وبولونيا وروسيا وسويسرا والولاياتالمتحدة. وضعف التنظيم بسبب الحروب العالمية والحروب الأوروبية والسوفيتية والأمريكية ومواقف ممثلي الدول منها داخل التجمع العالمي للملحدين. من أهم القضايا التي استأثرت بالنقاش بين المشاركين الكفاح من أجل فصل الأديان عن الدول، والدفاع عن نظرية التطور الداروينية ضد نظرية الخلق الدينية، وإنصاف ضحايا الاعتداءات الجنسية للكنيسة، وتنمية الإلحاد في المجتمعات العالمية، وتحقيق دولي حول تمويل المؤسسات الكنائس والأديان، خاصة الانتفاع من المال العام. وجاء ذلك المؤتمر امتدادا لمؤتمرات سابقة ابتدأت بمؤتمر التأسيس في بروكسيل سنة 1880، ثم المؤتمر الثاني في أمستردام عام 1883، ومؤتمرات أخرى في لندن وباريس وجنيف وروما وبوينيس إيريس وميونيخ وبراغ ولشبونة. ورحب المؤتمرون "بعشرات الآلاف من الناس الذين يتظاهرون في شوارع بيروت في لبنان ليقولوا إن "العلمانية هي الحل". كما رحبوا "بالآلاف من المحتجين في تونس الذين جعلوا "العلمانية = حرية وتسامح"، " من أجل تونس علمانية" شعارات لهم. ويرى دعاة حرية المعتقد وفصل الدول عن الديانات أن التنصيص الدستوري والقانوني على حرية المعتقد أمر في غاية الأهمية، وقال بيانهم "مثل أي قانون، يجب أن تُسجل حرية المعتقد في النصوص، في البيانات، في الدساتير، في القوانين أو الملفات القانونية. في بعض البلدان ، هذه النصوص موجودة. كما هو الحال في التعديل الأول لدستور الولاياتالمتحدة عام (1791) : "لا يحق لمجلس الشيوخ أن يسن قانوناً يعطي الأفضلية لدين معين، أو يمنع ممارسته بحرية، أو يحد من حرية التعبير أو الصحافة، أو حق الناس بالتجمع السلمي أو مطالبة الحكومة برفع المظالم". وبالمغرب، ومع هبوب رياح الثورات العربية عليه، سارع الملك محمد السادس إلى استباق الرياح بالدعوة إلى تعديل الدستور. واستغل أنصار حرية المعتقد بالمغرب، المرتبطون بفرنسا، هذه الفرصة وضغطوا لإدراج حرية المعتقد ضمن الدستور الجديد، وأفلحوا في ذلك لأن لهم يدا طويلة بالجهات النافذة. واستطاع الإسلاميون بحركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية أن يوقفوا ضغط العلمانيين المدافعين عن حرية المعتقد في الساعات الأخيرة من خروج الدستور إلى العلن وتبني الملك للصيغة النهائية له. وعبر أنصار حرية المعتقد المغاربة عن أسفهم وحزنهم، وسالت دموعهم الحرى، وألقوا باللوم على القوى الحداثية التي تخلت عنهم في آخر لحظة، وكان إدريس اليزمي رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان أبرز المتأسفين. عجبا لبكائهم ودموعهم. هل تريد أقلية لا يعرفها أحد فرض رأيها على الأكثرية؟ لقد تبين، عبر حرية المعتقد وحرية الإجهاض، أن المعركة عالمية وأن السند الخارجي كشف الغطاء عن وجهه، وأننا ينبغي أن نوسع الرؤية والميدان.