إن كان الحقُّ في الحياة أمراً مقدسا تكفلهُ كافة الشرائع والمواثيق الدولية، فإن الحيلولة دون انتهاكه يغدو واجباً لدى رافضي الإجهاض، الذي يرى عددٌ من المنافحين عنه، أن الرفض لا يحل المعضلة بقدر ما يدفعها إلى مزيد من التعقيد، ما دام الطفل المولود في ظروف غير ملائمة، سيجد نفسه فيما بعد مجهول الهوية والنسب داخل مجتمع لا يستنيم عن النبش في الجذور. الأطفال المتخلى عنهم والحالة هاته، يطرحون حسب عدة أصوات، موضوعاً جديراً بنقاش جاد، تلغى فيه الحساسيات لفائدة إيجاد حل ناجع، ينهي مأساة أطفال تخلت عنهم الأمهات لظروف مختلفة ، تترواح حسب الطبيبة النفسانية وأخصائية التحليل النفسي، أمينة بودربة، بين عوامل سوسيو-اقتصادية والحمل بطريقة لا واعية. في هذا الحوار الذي أجرته مجلة ماروك أكتييل، تبسط الدكتورة بودربة القول في ظاهرة الأمهات العازبات، بعدما استفحلت في المجتمع المغربي على نحو غير مسبوق. كم يبلغ عدد الأمهات العازبات بالمغرب؟ معرفة عدد الأمهات العازبات بالمغرب أمرٌ من الصعوبة بمكان، في ظل انعدام إحصاءات دقيقة، لكن ما نعرفهُ عوضَ ذلك، هو أن نصف الأمهات العازبات اللائي ينجبن خارج إطار الزواج، يتخذن قرار التخلي عن أبنائهن، بينما يفضل النصف الآخر منهن الاحتفاظ بهم، وقد استطعنا أن نرصدَ هذه المسألة لدى نساء من كلا الجانبين، أتين للإنجاب في سرية بالرباط، واليوم تتواجد دور للأمومة في مدن أخرى من المغرب لأجل استقبالهن. كيف تتم إجراءات التخلي عن المواليد؟ تهيئ الأم العازبة نفسها لذلك الغرض، أو تقوم بالأمر مع المساعدة الاجتماعية، ويتم ذلك في الغالب الأعم بعد الولادة، وفي الواقع، ليست لدينا إجراءات حقيقية لولادة الأمهات العازبات، فهن يصلن في اللحظة الأخيرة، ويأخذن في بعض الأحيان أسماء مستعارة، وبطاقة التعريف ليست ضرورية، وعقب ذلك يتخلين عن أبنائهن ولا نطلب منهن شيئاً...وإلى غاية سنة 1993 كانت المساعدة الاجتماعية هي التي تقوم بتسجيل خيار الأم...لكن منذ ذلك الحين، تم بموجب منشور تم إصداره، تخويل القاضي مهمة تسجيل عقد التخلي، لكن ذلك لم يطبق بشكل دائم. ما الذي يدفعُ امرأة إلى التخلي عن ابنها؟ المسألة في مقامٍ أول ذات طبيعة سوسيو اقتصادية، والقرار يتم اتخاذه تحت وطأة الضغط الاجتماعي، فضلاً عن النظر إلى الحمل خارج مؤسسة الزواج باعتباره شيئا محظوراً من الناحيتين القانونية والدينية. ومن النساء اللائي يتخلين عن أبنائهن، نجد المرأة التي لم تستطع الإجهاض، أو تلك التي وجدت نفسها حاملاً دون وعي، فضلاً عمن تخشى ألا تكون أما جيدة. والحق أنه ينبغي التمييز غداة حديثنا عن النساء الراغبات في الأمومة، بين ثلاثة أنواع من الرغبات. أول نوع منها؛ ذو طبيعة خيالية لدى الفتاة؛ تتصور بموجبه زواجاً مقترناً بإنجاب طفل، أما النوع الثاني فتروم به الفتاة الحمل في حد ذاته، وهي رغبة لا تستحضر تحمل المسؤولية وتنحصر فقط في الرغبة في الإنجاب، بينما يتلخص النوع الثالث والأخير، في رغبة الفتاة في أن تصبح أما، بقبول المعنى الواسع للمسألة، وهو ما يفرض بديهيا تحمل المسؤولية. وفي تقديري الخاص، تندرج غالبية النساء اللائي يتخلين عن أبنائهن ضمن الفئة الثانية..لقد التقينا بنساء أنكرن حملهن لفترة من الزمن، وعلى الرغم من أخذهن بأسباب منع الحمل، إلا أنهن عشن الحمل حقيقة عند شروع الجنين في التحرك على سبيل المثال..وهذا النزوع إلى الإنكار يؤدي بالفتاة في الغالب إلى العودة إلى الوراء، باستذكار أحداث أخرى استطاعت معايشتها، داخل بطن أمها، أو في طفولتها، وطالما أن الطفل غير مرغوب فيه فإن تلك الأحداث تظهر ثانية، وقد تسفر عن الإقدام على قتل الطفل. ما الحال الذي يصبح عليه الأطفال المتخلى عنهم؟ في مركز لالة أمينة بالرباط، يتم الاحتفاظ بالمواليد لمدة من الزمن، لعل الأمهات اللواتي وقعن على عقد التخلي عن أبنائهن، يأتين يوماً لرؤيتهم. ومن خلال العمل معهن، على التحفيز النفسي، وبإيجاد حلول لقصصهن، استطعت أن أقنع البعض منهن برعاية أبنائهن. كما أنه يجب التمييز بين الذكور والإناث، فالأخيرات يجدن بشكل تام تقريباً عائلات تستقبلهن بطريقة نظامية، في حين يبقى الذكور حتى سن الخامسة بالمركز ليذهبوا بعدها إلى مأوى الأيتام، وقد افتتحت العصبة المغربية لحماية الطفولة في الآونة الأخيرة مركزاً جديداً في مدينة بنسليمان. تعملين اليوم على إنجاز أطروحة حول "التخلي عن الأطفال من طرف الأمهات العازبات في المغرب"، انطلاقاً من الملاحظة، ما هي اقتراحاتكم وتوصياتكم لأجل تتبع أفضل للأطفال المتخلى عنهم؟ هناك بالفعل شيءٌ يمسني في الأعماق، فبالنسبة لي، وباعتباري، أخصائية نفسانية، كرست حياتها المهنية لتلك الشريحة من النساء، ويبدو جلياً أن باب الولوج إلى العالم ليسَ هو المعرفة، لكن هو الأصل والنسب، ففي مجتمعناً يعد مشكل الأصل مشكلاً كبيراً يعرقل حياة الأطفال المتخلى عنهم عند الولادة. وقد قام سيجموند فرويد بالتنظير "للرواية العائلية"، حيث يسير الأطفال، والذكور منهم على الخصوص، في سن المراهقة إلى اختلاق آباء آخرين لهم، يكونون على درجة أكبر من الود وااللطف والجاه...وبعبارة أخرى، من يريدون عائلة تفضُلُ تلك التي ينحدون منها، والأمر مختلفٌ لدى الأطفال المتخلى عنهم، فمن يعيشون وسط أسر بديلة، تحقق لديهم ذاك الخيال ذي النزوع إلى العيش وسط عائلة أخرى، ويشرعون اعتباراً من فترة المراهقة في البحث عن آبائهم الحقيقيين، وإن لم تخبرهم العائلات المتبنية لهم بأي شيء فإن المشاكل تطفو بسرعة على السطح. ويبرز خطر فقدان الثقة في العائلات المتبنية، ويرغب المراهقون في إخفاء شيء يخصهم بالدرجة الأولى، ومن ثمة تبرز الهوة المنشئة لفراغ في نفسانيتهم. ما الذي يتعين القيام به لتفادي تلك الاضطرابات؟ أريد أن أبلغ اليوم الإقناع بضرورة الاحتفاظ بمعلومات حول الأم البيولوجية، حتى نستطيع في لحظة الجمود تلك، أن نلج إلى الملف، فأنا أرى أنه على الطفل أن يتمكن بطريقة سرية من الدخول في اتصال مع أمه التي ينبغي أن يطرح عليها السؤال، والإجابة عن السؤال قد تجعل الحياة أكثر سهولة بالنسبة إلى أولئك الأطفال، فيما قد يفتح الرفض شهيتهم للانتقام، وذلك عبر الانتقام من العائلات المبتبنية أو من المجتمع قاطبةً.