يُقصد عادة بالتحول الديمقراطي مجمل التراكمات الاجتماعية والثقافية و الاقتصادية و السياسية التي تنقل المجتمع برمته من وضع يتميز باحتكار السلطة و الموارد الرمزية و المادية إلى وضع تتحقق فيه شروط أفضل للعيش على قاعدة التوزيع المنصف للثروة و السلطة و ضمان الشروط الثقافية والاجتماعية لتنشئة اجتماعية تخلق وعيا عاما بحقوق المواطنة و تشيع القيم الديموقراطية والحداثية القائمة على الحقوق و المساواة و الإنصاف وتكافؤ الفرص وضمان وحماية الحريات الفردية و الاجتماعية بضمان الدولة المدنية العصرية على أساس تعاقدي بين الدولة و المجتمع. على هذا الأساس فالتحول الديموقراطي يتجاوز حدود المفهوم الشكلاني للديمقراطية كعملية سياسية انتخابية مهما بلغت درجة نزاهتها و مصداقيتها، كما لا ينحصر مفهومها في تعددية حزبية قد لا تعكس في الجوهر التعددية السياسية بإحالاتها الثقافية داخل المجتمع. إنها إذن عملية انتقال ديمقراطي تمس- في العمق- بنية المجتمع و مجالاته الثقافية والاجتماعية والسيكولوجية. يتحقق التحول الديمقراطي، بهذا المعنى، لحظة تتكاثف فيها الشروط الثقافية والاجتماعية لبناء النظام الديمقراطي. وهذه الشروط هي نفسها تلك المرتكزات التربوية والتعليمية والقانونية والمؤسساتية والسياسية الحاضنة لمشروع مجتمعي تنموي باعتباره نموذجا يتعاقد حوله الجميع وتشارك فيه جميع فئات المجتمع في التزام تام بثوابث هذا المشروع بالذات و بقواعد حقوق الإنسان الكونية. وإذا كانت الديمقراطية طريقة لتحديث البنية السياسية التقليدية و السلطوية للمجتمع، فقد أثبتت عدم جدواها كمقاربة أحادية في ضمان مشاركة واسعة للمجتمع بكل فئاته في إسناد المشروع التنموي، مما دفع إلى التفكير في شروط إمكانها الفكرية والثقافية والاجتماعية الكفيلة بخلق التعبئة العامة والانخراط الواسع. ومن جملة هذه الشروط، وأقواها على الإطلاق، قيام المجتمع المدني. فالمجتمع المدني هو إفراز لدينامية نابعة من عمق المجتمع في إطار تعبيره عن ذاته وعن مطامحه ورغباته. و هو في ذات الوقت مؤشر اجتماعي يسمح بقياس حدة الطلب الاجتماعي على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية و يعبر عن نفسه في صيغة مؤسسات وتنظيمات « قبل سياسية » تنأى بنفسها عن التماهي مع السلطة السياسية مخافة الارتهان لإستراتيجية الاحتواء والاستدماج في سياق إعادة إنتاج السلطة للمجتمع. انطلاقا من هذا التحديد فالمجتمع المدني يستمد مشروعيته انطلاقا من تفاعل مجموع الإرادات داخل المجتمع ومن حاجة أفراده إلى الانتظام والتأطير والتعبئة إدراكا للحقوق ووعيا بالواجبات بما تحتمه ضرورة العيش المشترك حاضرا ومستقبلا. إن التحولات العميقة التي مست البنية الاجتماعية بالمغرب على المستويات الديموغرافية والاقتصادية والثقافية والسلوكية والقيمية، وبروز اختلالات كبيرة في تدبير الموارد مقارنة مع ارتفاع الحاجيات، قد رفع من حدة الطلب، ليس فقط على إقامة العدالة في تدبير السياسيات العمومية، ولكن أيضا المطالبة بالحق في الاعتبار ومقومات الكرامة وضمانات المشاركة الكاملة في الشأن العام. وقد كان لهذه التحولات كبير الأثر في الدفع في اتجاه تغيير سلوك الدولة وبنيتها التأطيرية/الاحتكارية، تعززت معها الحاجة التاريخية لتأسيس الانتقال إلى دولة لامركزية/تعاقدية قادرة على تدبير التعدد والتنوع. وقد برز المجتمع المدني في خضم دينامية الانتقال هذه كداعم لها و،في نفس الآن، كسلطة مضادة لنزوع الدولة الدائم نحو التضخم على حساب المجتمع. بمعنى أن دينامية المجتمع المدني و بروزه كقوة تمثيلية، إنما يهدف في العمق إلى إعادة صياغة علاقة الدولة بالمجتمع على أسس جديدة قوامها التعالق والترابط ( بلغة المفكر عبد الإله بلقزيز). هذا التصور الديموقراطي الحداثي لعلاقة الدولة بالمجتمع يجد أساسه في كون الديموقراطية التمثيلية كآلية سياسية، إنما تستمد شرعيتها ومرجعيتها الأسمى في المجتمع كمصدر لكل السلط، فهي تقوم بازدواجية الوظيفة التمثيلية : أي تؤسس للسلطة على أساس تمثيلي و تقوم في نفس الوقت بتزويد المجتمع بمؤسسات و آليات لممارسة مهمة المراقبة و الضبط لهذه السلطة بالذات. لقد لعب المجتمع المدني بالمغرب أدوارا هامة في مسار الإصلاحات الديموقراطية وسيرورة التحديث الصعب التي عرفتها بلادنا منذ عشرات السنين. ورغم التجاذبات و المواجهات التي ميزت علاقته بالدولة في إطار استراتيجية الاحتواء و الهيمنة، إلا أن المجتمع المدني تمكن من تأكيد وجوده بقوة بفضل امتلاكه لمشروعية مزدوجة: مشروعية النشأة والانبثاق من عمق المجتمع و ديناميته الداخلية في سياق دفاعه عن مصالحه وأهدافه، ومشروعية حرصه على استقلاليته وعدم التماهي مع السلطة. و قد أدى التطور الكمي و النوعي لمنظمات المجتمع المدني إلى إكتسابه لميزات المناعة والتجربة والنضج، مكنته من التحول إلى قوة اقتراحية ومحاور معترف به من طرف الدولة خاصة بعد أن تحول إلى مشتل لإفراز و تكوين أجيال من نخب نشيطة أبانت عن قدرات تأطيرية وتعبوية لا يستهان بها في سياق المطالبة بدمقرطة الدولة والمجتمع. لقد أصبح للمجتمع المدني تأثير واضح في المجال السياسي و الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ودليل ذلك كونه أضحى مرجعا دائم الإحالة إليه في خطابات وممارسات وتطلعات ومشاريع مختلف الفاعلين الحاليين خاصة السياسيين منهم، بل ويشكل في العديد من الأحيان أداة ووسيلة للتموقع وموضوعا للتجنيد السياسي بالنظر لحمولته الرمزية والإيديولوجية والسياسية. ليس ثمة شك في أن دسترة المجتمع المدني كفاعل أساسي في المجتمع جاء لتتويج هذا المسار ولدعم أدواره الجديدة التي تتعدى حدود المطالبة بالديمقراطية إلى حماية الديمقراطية نفسها من خطر تربص القوى النكوصية بها...، هنا فقط يمكننا الجزم بإمكانية قيام تكامل وظيفي استراتيجي بين الدولة والمجتمع المدني للتوافق حول المرتكزات الثقافية الكبرى للمجتمع الديمقراطي الحداثي.