نشرت لأحد الزملاء الصحفيين بإحدى الجرائد الاليكترونية مقالة، أطلق فيها مجموع "نيرانه" على ظل رجلي رئيس الحكومة. ويعد الخيط الناظم لدفوعات الإدانة، تفصيلا لجزئية في لسان عبد الإله بنكيران. وتترجم ما فهمه صاحبنا على مدى 9 أشهر أنه اجترار لخطاب مكرور. بل عد التقرير مداخلات الرجل، مجرد استنساخ لخطاب مرحلة المعارضة. لقد فات كاتبنا أنه من باب الحرص على التواصل، يبالغ المغاربة في التكرار؛ فلأجل التأكد من سلامة إبلاغ الرسالة، يطرحون على المتلقي أسئلة من قبيل: تفاهمنا ؟ هل فهمت؟ ماذا ظهر لك ؟... ولإثارة الانتباه يدعمون الكلمات بمنبهات وإشارات اليد والرأس، ويسخرون قسمات الوجه ونظرات العين.... إلا أنه في مجتمعات الأمية الموسعة، تسود الثقافة الشفهية، وتضعف القرائية، ويتنامى العجز عن الاستماع المسترسل... لذا عادة ما يتميز الخطباء الفطاحل باستعمال أسلوب ووسيلة خاصة، تجعل المستمعين ينتبهون، وتنشلهم من الشرود. ولضمان التواصل يعددون معينات التأكد من إصابة خطابهم لموقعه، وقياس مدى نفاذه إلى العقول، وتحسس درجة التفاعل الوجداني معه. يعتبر بنكيران ممن أبدعوا نحث جملته الشهيرة: فهمتي ولا لا ؟ التي تفيد استعداده غير المنقطع للاستفاضة في الشرح. لذا دأب رئيس الحكومة في خطاباته على تكرار القضايا، وإثارة نفس المواضيع. فمن المذنب ؟ عبد الإله بنكيران ؟ أم جمهور المغاربة ؟ أم خصوم السيد رئيس الحكومة ؟ أم متتبعو ومحللو خطابه ؟ لا مندوحة في أن الحضور الشعبي الغفير المميز للقاءات رئيس الحكومة الحالي ، خير مرافعة، تحدد المكرور من غيره؛ فلا أحد ينفي الجماهيرية الاستثنائية، التي تسجلها تجمعات كبير حزب المصباح على مر تاريخ رؤساء ووزراء حكومات المغرب. فهل الجماهير المغربية تهو التكرار عموما ؟ أم إنها تعشق تكرارات عبد الإله بنكيران دون غيره ؟. طبعا الشعب المغربي ذكي، ويدري حق الدراية ماذا يسمع، ويميز المكرور الممل الغث من غيره. رغم ذلك، يبين تكرار الخصوم لعزف نفس السمفونية في الهجوم بعناوين خاطئة أن الأمر لا يتطلب الاستفسار عن هل فهمتي ولا لا؟ كسؤال فقط. وإنما تستدعي جهودا مضنية في تكرار التوضيح لإزالة العي الكبير، وترسيخ المواقف والمبادئ والنوايا... وتجديد العهد. بنكيران مستثمر جيد، يستغل باقتصاد جهوده، ومناور قوي يحلو له أن ينطلق "ببراغماتية" كبيرة من ردود فعل خصومه، ليشق طريقه في تحقيق ما يسطره من أهداف، دون أن يسقط في فخاخ من يطمحون إلى توجيه طريقه بإطلاق فراشات، يراد أن توقعه في متاهات خاسرة، تخدم أجندة منافسيه. لذا دأب الأستاذ على إعادة محتوى الدرس، لكن بروح ونفس، يتغاير تبعا لمختلف المحطات النوعية؛ فتحت قبة البرلمان يريد أن يعرف هل فهم البرلمانيون ولا لا ؟، وفي اللقاءات الداخلية للحزب يريد أن يتأكد هل فهم المناضلون ولا لا ؟، وفي الشارع العام يريد أن يحسم هل فهم المواطنون ولا لا ؟... وعموما، يفرض تعدد الفئات المخاطبة على الرجل طرق الموضوع بمستويات مختلفة، تجعله عند المتتبع المبتدئ مكرورا بدل التذكير، واجترارا بدل التأكيد... كما أن تباعد الجهات المجالية تحتاج من الزعيم استحضار نفس الأفكار والمضامين. تتبع خطاباته، يبين نجاح الرجل في انجاز جولة طويلة، تثمر مَسحا، يوزع الأفكار بنفس النبرة، مما يجعل المواطن بإقليم ما لا يحس أنه في معزل عن بعض ما يجري في مركز القرار. وعموما لا يكرر الرجل نفس الخطاب مع نفس الفئة وفي نفس المجال الترابي. وللإشارة فهي ذات المنهجية، التي دأب عليها القائد منذ كان يترأس حركة الإصلاح والتجديد، وهو تقنية استوحاها من ضرورة توحيد فهم المغاربة جميعا لخطاب الحزب من طنجة إلى لكويرة ومن اكادير إلى وجدة. يبدو الأمر وكأنه يتعلق بشريط توجيهي، هندسه خبراء، ليشاهده جميع المغاربة، ويتتبعون من خلاله رئيس حكومتهم وهو يحاضرهم بخطاب موحد، وبزي واحد ورابطة عنق واحدة... لكن في فترات متباعدة، اقتضتها المسافة، وحتمتها موانع البث المباشر، واقتضته فعالية اللقاء والخطاب المباشر. فالإشاعة تقصف المواطن، وتجتاح البلاد بنفس الشكل، وما يتردد في جميع الأقاليم يركز على قضايا مشتركة. لذا ستكون طبيعة الخطاب أيضا موحدة المضامين. اذ لا فائدة من تواصل لا يمتاح من الحاجة، كما انه لا قيمة لكلمات حزبية لا توضح مبادرة، ولا خير في خطبة سياسية لا تعري إشاعة. أصبح من ثوابت رسائل بنكيران أن يشير مرارا في مطلع كلماته إلى أن القوم يكررون عليه نفس الأمور، ويجرونه إلى معاودة التبيان. ورغم انه شرح ووضح الكثير من الإشاعات، لا يقلع الخصوم عن ترديدها وتكراراها بمستوى، جعله يستغرب بشكل يجد صداه بتصفيقات وهتافات الحاضرين، واستهزاءاتهم من تكرارات المناوئين، مباركين "تكرارات إجابات" الرئيس. في المقابل يفصح الرجل على انه لا يحب المغالاة في الحديث عن مبادرات الحكومة، ولا يستهويه التطبيل لمنجزات وزرائه. ففي الوقت الذي يكرر خصومه المؤاخذات عليه يتورع هو عن الدعاية لحسنات فريقه. ولان الناس شديدي النسيان، فإن التذكير المباشر عند عبد الإله أضحى الوسيلة الفضلى والسلاح الأوحد، الذي يسعفه في إعادة رش المواطن ببعض مسلماته في العمل السياسي. حقيقة، ينبغي ان نطلق ثلاثة "قذائف نارية" على رجلي بنكيران: فحكومة التحالف الذي يتزعمه المصباح تؤاخذ على عدم: استثمار الإعلام العمومي، وتسخير الإمكانيات المركزية والجهوية الرسمية لمواكبة تفاصيل ما تنجزه، والإخبار بالأنشطة الوزارية. الانخراط الجماعي لكوادر التحالف في خدمة المشروع؛ اذ تركت ثلة قليلة من قادة المصباح لتتحمل عبء الكلام المباشر مع الجماهير. توفر حزب زعيم المصباح على جريدة يومية حيوية، تتولى الوساطة بين مناضليه والشعب في تبسيط المبادئ وتوضيح المبادرات ومحاصرة الإشاعة... في اللحظة المطلوبة.