أثار قرار الشركة العملاقة غوغل عدم حذف مقاطع الفيلم المسيء للرسول الكريم من موقع اليوتوب التابع لها جدلا واسعا لم ينقطع خلال الأيام الأخيرة، خاصة مع رفع ممثلة داخل الفيلم لدعوى قضائية ضد هذه الشركة تطالب فيها بحذف هذا الفيلم بعدما خدعها المخرج، وكذلك مع الاحتجاجات الشعبية التي تلته والتي تسببت في أعمال عنف غير مسبوقة حصدت أرواح عدد من القتلى خاصة السفير الأمريكي في ليبيا، زيادة على المطالب الرسمية التي تقدمت بها مجموعة من التنظيمات الإسلامية والدول العربية بحذف هذا الفيلم الذي أضاف الكثير من البنزين على علاقة أمريكا بالدول العربية الإسلامية..وهي العلاقة "المحترقة" أصلا منذ زمن.. قرار غوغل كان نابعا من أن الفيلم المذكور لا يتنافى مع القوانين الداخلية للنشر في اليوتوب كما جاء في تصريح رسمي من إدارة هذه الشركة، حيث رأت "غوغل" أن فيلم براءة المسلمين لا ينتهك قوانينها الداخلية حتى وإن كان فيها ما يمنع نشر ما يحث على الكراهية، فهذا الفيلم يبقى في نظر الشركة العملاقة عملا فنيا ينتقد عن الدين الإسلامي ولا يهينه أو يهين أشخاصا بعينهم، وهو التبرير الذي رفضته مجموعة من التنظيمات لكون الفيلم يسيء بشكل مقصود إلى الدين الإسلامي، وهو ما يتعارض مع مجموعة من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.. لكن هل هناك فعلا مواثيق دولية تنصص على ضرورة احترام الأديان؟ هل استطاعت الأممالمتحدة أن تصدر فعلا قرارا من هذا النوع؟ ثم ما هي إشكالات تفعيل مثل هذه القوانين إن وجدت؟ من يضمن أن دولا بعينها لن تكيل بها بمكيالين؟ ثم ألا يتناقض اليوتوب مع مبادئه عندما يتحدث عن منع مقاطع فيديو تحث على الكراهية ويسمح بعرض فيلم سبب معارك دامية؟ وهل سلاح المقاطعة مجدي فعلا في ظل التخلف الرقمي العربي؟ زووم هذا الأسبوع..حول إعصار فيلم براءة المسلمين والقوانين الدولية المتعلقة بالإساءة للأديان.. عندما تسمح بإهانة القرآن والإنجيل..ولا تسمح بإهانة التلمود والتوراة.. عندما تكتب في اليوتوب..عبارة "burn Koran " ستجد مجموعة من الفيديوهات لأجانب يقومون بحرق القرآن الكريم، نفس الأمر يتعلق بالإنجيل، حيث يوجد فيديو يظهر فيه أمريكي يحرق الإنجيل بطريقة مستفزة، لكن عندما تكتب في نفس محرك البحث عبارة"burn Torah " لا تجد أي فيديو لشخص يقوم فيه بحرق التوراة، كما لا توجد تقريبا أي فيديوهات تسيء للديانة اليهودية، اللهم بعض المقاطع التي تنتقد بطريقة بناءة ولا تعكس أي حقد دفين اتجاه هذا الدين السماوي.. هذا التناقض في عمل اليوتوب، طرح مجموعة من التساؤلات حول يهودية شركة غوغل ، وهو إشكال كانت خاصية "goole earth " قد ثمنته في وقت سابق عندما كانت تعرض المنشآت العسكرية الإسرائيلية بلون داكن غير واضح مقابل وضوح تام للمنشآت العسكرية العربية، غير أن هذا الأمر لم يلبث وأن تغير في النسخة الأخيرة من هذه الخاصية، عندما تم عرض المنطقة العسكرية الإسرائيلية بشكل واضح، لتتبدد الكثير من الشكوك التي كانت تشير إلى تقرب غوغل من إسرائيل.. غير أن المثير في الأمر هو أن اليوتوب يقر بأنه مع احترام الأديان وعدم الإساءة إليها، وذلك عندما يكتب في شروط الاستخدام في باب إرشادات المنتدى: "نحن نشجع حرية الرأي، وندافع عن حق كل شخص في التعبير عن وجهات نظره الخاصة، ولكننا لا نسمح بأي كلام يحض على الكراهية (الكلام الذي يُقصد به مهاجمة أفراد جماعة ما أو الحطّ من قدرهم على أساس العِرق أو الأصل العرقي، والدين، والإعاقة، والجنس، والسن، والخبرة المهنية، والميول الجنسي/الهوية الجنسية)". في هذا البند، يقر اليوتوب أن مهاجمة أو الحط من دين أي جماعة أمر غير مسموح به في الموقع، لكن كيف غاب عن هذا الموقع أن تلك المقاطع من الفيلم والتي وصلت لقرابة 6 ملايين مشاهدة لا تهاجم فقط الدين الإسلامي، ولكنها تحط من قدر رجله الأول، وتصفه بأشبع النعوت والصفات؟ هل هناك قوانين دولية تمنع الإساءة إلى الأديان؟ يرى الأستاذ علي كريمي، الخبير في القانون الدولي لوسائل الإعلام، أن جميع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان تؤكد على احترام حق حرية التعبير، لكن الفصل 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية يضع بعض الشروط التي تؤطر هذا الحق، خاصة في الفقرة الثالثة من هذا الفصل التي تؤكد على أن حرية التعبير يجب أن لا تمس حقوق الآخرين والنظام العام والنظام الداخلي للدول، وكذلك المادة 20 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، التي تجرم كل الأعمال التي تؤدي إلى نعرات طائفية أو دينية أو عرقية عبر البند التالي:" تحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف". وتحدث ذات الخبير الدولي أن هناك إعلانا عالميا بشأن القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد صدر سنة 1981، حيث ينصص في مادته الثالثة على:" يشكل التمييز بين البشر على أساس الدين أو المعتقد إهانة للكرامة الإنسانية وإنكارا لمبادئ ميثاق الأممالمتحدة، ويجب أن يشجب بوصفه انتهاكا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية التي نادى بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والواردة بالتفصيل في العهدين الدوليين الخاصين بحقوق الإنسان، وبوصفه عقبة في وجه قيام علاقات ودية وسلمية بين الأمم"، إضافة للقرار الصادر في أبريل 2011 من الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يمنع الإساءة إلى الأديان وهو ذات القرار الذي طالبت الإسيسكو (المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة) من الأممالمتحدة تفعيله. وأضاف كريمي أن شركة غوغل لا تحترم المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ولا القانون الدولي للإعلام ما دامت ترفض حذف فيلم يثير صراعات طائفية، مضيفا أن التشريعات في بعض الدول تنصص على ضرورة احترام الأديان، ف"القانون في الدانمارك لا يسمح بالمساس بالديانات التي تعترف بها الدولة ومن ضمنها الإسلام، مما يجعل من قضية نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيء للرسول الكريم من طرف جريدة بهذا البلد محط تضارب كبير مع القوانين والتشريعات المحلية، إضافة إلى أن الدستور الفرنسي يقيد حرية الرأي والتعبير، في تجسيد منه للاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان التي تمنع التمييز على أساس الدين" يقول الأستاذ الجامعي المغربي. هل ينفع تفعيل القوانين التي تجرم الإساءة للأديان؟ عندما أقر الكونغرس الأمريكي سنة 2004 قانون معاداة السامية، وبرر ذلك بوقاية البشرية من التمييز ضد أقليات دينية، ثبت فيما بعد أن هذا القانون الذي يجرم التشكيك في المحرقة اليهودية، كان هدفه تحصين السياسات الإسرائيلية من العقوبات مهما كانت معادية للتشريعات الدولية، وجعل كل انتقاد لإسرائيل شكلا يعادي السامية وجبت إدانته، مما أثار التساؤل حول جدوى مثل هذه القوانين التي تستخدم في غير محلها، خاصة مع محاكمة عدد من الكتاب الذين انتقدوا سياسات دولة إسرائيل كالفرنسي روجي جارودي. إساءة استخدام مثل هذا القانون، جعل الخوف من قانون مشابه أمرا واقعيا، فمطالب مجموعة من التنظيمات الإسلامية كحزب الله والإسيسكو وكثير من الدول الإسلامية بتفعيل القوانين التي تجرم الإساءة إلى الأديان، يجعلنا نتساءل عن كنه الأديان المراد احترامها، ما دامت أغلب هذه المطالب تتحدث عن الأديان السماوية، في إبعاد منها لحرية المعتقد التي لا تقتصر على هذه الأديان الثلاث، بل وتشمل كذلك البهائيين وحتى الملحدين وعدد من الديانات الأخرى التي لا تعترف بها الأممالمتحدة، مما يجعل من الصعب تطبيق معايير واضحة ومتفق عليها خاصة وأن بعض الدول الغير الديمقراطية من الممكن أن تستخدم مثل هذه القوانين للحجر على بعض الآراء التي تتحدث بنوع من النقد البناء للخطاب الديني. ومن العوامل كذلك التي تضعف موقف عدد من التنظيمات الداعية لتجريم الإساءة إلى الإسلام، نجد الصراعات الطائفية بين المسلمين أنفسهم خاصة بين الشيعة والسنة، وهي القضية التي دخلت للسياسة من بابها الواسع وصارت دول كالسعودية لا تتورع عن القول أنها تحارب المد الشيعي، نفس الأمر للمتطرفين من الشيعة الذين يقومون بنوع من الإساءة الدائمة لرموز الإسلامي السني، ناهيك عن عدم تقبل الكثير من المسلمين لنقد الدين وانتشار فكر فقهي ينظر للديانات الأخرى على أنها ديانات كافرة، فيعطيها مدلولات سلبية لا تخدم قضية تجريم الإساءة إلى الإسلام. هل مقاطعة شركة غوغل حل ناجع؟ بعد رفض غوغل حذف فيلم براءة المسلمين واكتفاءه بحجبه عن بعض الدول التي عرفت أحداثا دامية، قرر العديد من مستخدمي الانترنت مقاطعة محرك البحث وموقع اليوتوب، وهي المقاطعة التي كبدت شركة غوغل خسارة مهمة، حيث نزل من المرتبة الأولى عالميا في ترتيب المواقع إلى المرتبة الثانية للمرة الأولى منذ أزيد من 8 سنوات، فقد خسرت الشركة قرابة 3 ملايين مشاهدة في يوم واحد، وتوقفت بعض خدمات غوغل في عدة دول لبضع ساعات، وفاضت الشكاوى على تويتر بشكل كبير تشتكي من كثرة المشاكل على محرك البحث غوغل وعلى اليوتوب. غير أن رشيد جنكاري، يرى أن المطالب الشعبية التي تنادي بمقاطعة اليوتوب وغوغل مطالب "بليدة" وتعكس "تبويقة رقمية" يعيشها العرب والمسلمين الذين لا يفهمون النظام الرقمي بالشكل الأمثل بحسب وجهة نظره، متحدثا عن أن الحجب يبقى سلاح الدول الضعيفة كالعربية منها التي كثيرا ما تتعامل مع الانترنت بنظام التقنين الهادف إلى الرقابة والتضييق وليس الذي يضع شروط مسؤولة للممارسة الرقمية. وأضاف ذات الخبير في الشبكات الاجتماعية والصحافة الإلكترونية أن الرد على الفيلم المسيء للإسلام يجب أن يكون بالاستثمار في المجال الرقمي وليس بمنع الأفراد عن إنتاج الأعمال التي يريدونها، مؤكدا أن حضور اللغة العربية ضعيف جدا على الشبكة العنكبوتية مقابل استثمار قوي من إسرائيل في هذا المجال، منتقدا في الآن ذاته السياسات الرقمية المغربية التي لا تتواجد في هذا الفضاء سوى لملء الفراغ وليس لتقديم القيمة المضافة. ورفض جنكاري الانتقادات الموجهة لشركة غوغل، معتبرا إياها قد أسدت خدمات كبيرة للمواطن العربي وساعدته إلى إنجاح ربيعه الديمقراطي، واصفا إياها بالفضاء الواسع لحرية التعبير الذي يعطي للإنسان الحق في إبداء رأيه في كل المجالات التي يريد حتى الدينية منها. أما المخرج السينمائي عز العرب العلوي، فقد اتفق على مقاطعة غوغل واليوتوب، لكن شريطة نهج إستراتيجية فنية من أجل الرد على الفيلم المسيء، وذلك بقوله:" للأسف، غالبا ما يستثمر المسلمون والعرب الأموال من أجل الربح وليس من أجل الدفاع عن قضاياهم، في حين يحشد اللوبي الصهيوني كل طاقته من أجل نصرة قضاياه ومبادئه، فعلى ردنا أن يكون بالسينما ما دامت السينما هي التي أساءت إلينا، وإنتاج أعمال سينمائية ضخمة تعرف بالإسلام هو الرد الأنسب على مثل هذه السخافات". في انتظار قوانين تحمي الحق ولا تنتهكه.. من كل ما سبق، يظهر أن فيلم "براءة المسلمين" أثار جدلا كبيرا في قوانين النشر على الانترنت، وقد أعاد إلى الأذهان ذلك الجدل الذي خلفه قانون"سوبا" في بداية العام الحالي، فإن كان ذلك القانون قد تحدث بإسهاب عن خرق الملكية الفكرية، فإن نقاشا جديدا حول حدود حرية التعبير على الواقع الافتراضي يبدو ملحا وضاغطا، خاصة وأن المسؤولية لم تكن أبدا كابحا للحرية كما يعتقد البعض، ولكن جزءا منها يدفع بها نحو الأمام وليس في الطريق التقليص منها. وإن جاز لنا أن نقول أن للانترنت عموما، ولموقع اليوتوب خصوصا، دور كبير في الرفع من سقف حرية التعبير وإعطاء الفرصة لعدد من الأشخاص قصد إيصال أفكارهم في ظل عدم ديمقراطية الإعلام المرئي بالكثير من الدول، ومن بينهم عرب ساهموا في الربيع الديمقراطي في بلدانهم، فإنه من الموضوعي أن نؤكد أن التهجم على المقدس والافتراء على عقائد الناس، يفرض التفكير جليا في وضع محددات عامة للنشر الإلكتروني عبر العالم، محددات لا يكون الغرض منها تكميم الأفواه أو خنق الآراء، ولكن فقط من أجل ضمان جو صحي من النقاش المفيد حتى وإن لم يقتنع به البعض، أما في حالة استمرار فوضى النشر بمثل هذه الطريقة، فسيتحول اليوتوب إلى مكان لبث الحقد والبغضاء، وسيتغير دور وسائل الإعلام الجديدة من تقريب للشعوب وتوثيق لأماكن الالتقاء، إلى منبع لحروب عقدية وإثنية وعرقية قد تعيد العالم سنوات إلى الوراء.. [email protected]