كثير من الناس يقضون أعمارهم يسيرون مكبين على وجوههم وهم لا يشعرون، وتنقلب عندهم المفاهيم والرؤى فلا يدرون أنهم مقلوبون، رؤوسهم في الأسفل وأقدامهم معلقة في الهواء، ومع ذلك يتوهمون أنهم يمشون على صراط مستقيم. هذه النماذج المقلوبة من الكائنات، من الجنة والناس، تتعرض لعملية إغواء مبين يصعب معها إخراجها من أسفل سافلين والصعود بها إلى أعلى عليين، أو لتكون من المقتصدين. فلا غرو أن يكونوا كالأنعام، بل هم أضل. أدهى من ذلك وأمر، أنها تصر على أن العالم الذي تراه معكوسا هو الحقيقة والواقع، وأن الأسوياء هم المنقلبون. ولأن الأضداد تضيق ببعضها، يسعى هذا لإزهاق الآخر بطرق شتى. ومن سنة الخالق الماضية أن تتدافع المتناقضات حتى الممات. فالليل يطارد النهار حتى يغمره ظلامه، ثم تدور الدائرة فيمحو النهار الليل بضيائه، والحياة تقتل الموت بنفخة من الروح تخرج الكائن من العدم إلى الوجود، ثم تدور الدائرة فينتقم الموت من الحياة فيستعيد الروح ويعيد الكائن معدوما كما كان أول مرة، إلى أن يموت الموت وتحيا الحياة عندما ترجع الأمور كلها إلى العلي الكبير. ومن السنن أيضا أن الباطل يحاصر الحق حينا من الدهر، ثم يعلو الحق من جديد (فإذا جاء الحق زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا). لكن الفرق كبير بين غاية الأسوياء وغاية المقلوبين، فأهل السواء يريدون هداية المنقلبين بكل طريقة مؤثرة ممكنة، وإذا لم يهتدوا حزنوا من أجلهم وتحسروا حسرة شديدة تضعهم على مشارف الموت حتى نهاهم الله عن ذلك فقال لسيدهم عليه الصلاة والسلام (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات)، ثم لا يجدون عزاءهم إلا في تدخل القدر الأعلى حين يقول (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). وأما أهل الانقلاب والنظر المعكوس، فليس لديهم أبدا قدرة على ضبط النفس وتحمل المخالف، إذ يسعون إلى أن يكون العالم كله مثلهم، ومهما قدمت من حجة أو نصيحة فلا يأبهون بها، بل يقابلونها بالسخرية والاستهزاء ثم بالإقصاء ثم بالسعي لقطع الدابر وإنهاء الوجود. هل أتاكم خبر صاحب موقع عنكبوتي ليس في معجمه اللفظي والموضوعي مكان لأمر جاد، وكيف تريدون أن يكون جادا ولو مرة واحدة، وهو الذي لم يستطع التخلص من وسواس قاهر. ففي هذه الايام وصوص ورقص، وشتم ورخص، وهمز ولمز، ثم قفز وغمز، واغتاب وارتاب، ودخل من كل باب، إلا جهة الصواب، وربما كان يكتب الكتاب، وهو في غياب. وكثير من المنحطين لا يستطيعون المواجهة في حال اليقظة والصحوة، فيفضلون دخول سرداب الغمرة والخمرة، فيقذفون الشرفاء بكل منقصة وهم في قاع سحيق. ما أتعسهم! يجدون الراحة في إنكار الواقع، وإطلاق المدافع، دون وازع. ألا بعدا لقوم لا يستحيون ولا هم يخجلون. يريد ذلك المريض أن يفعل ما يشاء دون رقيب ولا حسيب، يريد أن يفعل الممنوع ولا يحاسبه القانون، ويريد أن يشرب حتى الثمالة ويخرج في الشوارع والأزقة يرغي ويزبد، ويصيح ويصرخ، وإذا نصحه أحد أو طالبه باحترام سكينة الناس والتزام القانون ثار في وجهه، وصب عليه جام الغضب والسباب، دون أن يتعرض للسؤال والحساب. ألم يكن من قبل يطالب بمتابعة المفسدين والمستبدين؟ أم كان يريد أن يحل مكانهم بعد رحيلهم ليكون من العالين؟ يؤكد الخبراء والأطباء النفسانيون أن كل إنسان يمكن أن يتعرض للوسواس القهري لأسباب متعددة، فعندما تسيطر فكرة ما، أو شعور ما، أو هياج ما، أو خوف ما، على فرد من الأفراد، أو جماعة من الجماعات، فإن الأمر ينتقل من حالة السواء إلى حالة المرض. وكثيرا ما يكون الدين والجنس سببا من أسباب الوسواس القهري. والمقصود بالدين هنا كل عقيدة تجعل الإنسان يشعر بالخشية من أمر قاهر تجعله يستسلم له، ثم يطيعه ويتحول الشخص بكليته إلى أداة طيعة لتلك العقيدة. وربما كان الدين في أصله سليما ومنزلا بالوحي من السماء، وهذا حدث مع كثير من الأنبياء، لكن فئة من الذين أرسلوا إليهم يحرفون ويحولون ما نزل به الروح الأمين إلى ملكية خاصة، ويفرغونه من محتواه ويستبدلونه بشهواتهم ورغباتهم، ويقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله. ولتحريف الدين وتحويله إلى وسواس قهري قائمة طويلة ما تزال فصولها تروى وترى. وفي حالة معارضة هؤلاء المرضى أو حرمانهم، أو مجرد انتقادهم، يشعرون بالانتقاص ويضيقون ذرعا بالمعارضين والمنتقدين، وعندما يكونون بلا حول ولا قوة يتقمصون شخصية الضحية المضطهد، وقد يطلب أحدهم حق اللجوء السياسي، أو يغير جنسيته ليكون محميا بقوة أخرى. وعندما تكون لهم الصولة والجولة يرمون بمعارضيهم وناصحيهم في السجون والمعتقلات، وربما أخرجوهم من ديارهم وأموالهم، وربما قتلوهم وانتهوا من طهرانيتهم وعذريتهم. وكم من مصاب بذلك الهذيان لا يرى في الدنيا إلا ما مرضت به نفسه، فكل كلامه وسلوكه مركز تحت الحزام، فالسمع والبصر والفؤاد كل أولئك هوت من المحل الرفيع إلى الدرك الوضيع. وكثيرا ما ينتهي أمثال هؤلاء في الطرقات متسكعين مفضوحين، يتلاعب بهم الأطفال والسفهاء فيقذفونهم دحورا في كل جانب. لذلك ينبغي أن يعرض أمثال هؤلاء المرضى على الأطباء، قبل العرض على القضاء، ليقدموا لهم الوصفة الشافية، وقد تكون طويلة قاسية، ومتى كان الشفاء من الجهالة الجهلاء يسيرا قصيرا. لا بد من ثمن، ولا بد من زمن. ما أبهظه من ثمن، وما أطوله من زمن.