لو طرحنا سؤالا على بعض الناس « أين يقضي أبناؤكم وقتهم ؟» لأجاب غالبيتهم « في المدرسة ثم الشارع» . فكيف سيتمكن أي تلميذ يلتحق بالمدرسة العمومية من التعلم وهو يتخذ المدرسة ملجأ للراحة بعد التعب الذي يلحقه من جراء قضاء وقت طويل في الشارع وهو يلعب دون انقطاع؟ لو أتيحت لأي كان فرصة مراقبة التلاميذ داخل الفصل للوقوف على مدى استعدادهم للمشاركة في الدروس، وللتحقق من توصلهم إلى إنجاز فروضهم المنزلة وحفظ دروسهم لغير رأيه ونظرته إلى الأطفال على أنهم أبرياء وضحايا ، ولغير موقفه اتجاه رجال التعليم العمومي. بطبيعة الحال ليس كل التلاميذ متهاونون بل هناك شريحة من التلاميذ صامدون ومجتهدون يقومون بواجباتهم خير قيام . فهم إما محظوظون يجدون وراءهم دائما من يدعمهم ويسهّل عليهم فهْم الدروس بالبيت ، وإما نجباء لهم الاستعداد الطبيعي لمسايرة وتيرة التعلم دون عناء. وهم قلة ، يشكلون قاطرة القسم والمخاطب الدائم مع الأستاذ ، في وقت يجد فيه التلاميذ الباقون صعوبة تتشعب أسبابها كما يلي : - سوء بناء كفايات أساسية في فترة تعلم سابق وقد يكون السبب مرضيا أو في طريقة التعلم. - عدم الاهتمام بالدروس لأسباب سوسيو- اقتصادية. - غياب المراقبة والتتبع والمحاسبة داخل الأسرة . - عيب يشوب منهجية الدروس أو انعدام جاذبية التعلم. - تكريس الانتقال عوض النجاح ( لا ينجح إلا الحاصل على المعدل باستحقاق) لقد تعرضت المدرسة العمومية لضربات موجعة منذ ثمَََّّ الشروع في خلق التعليم الخاص بإرادة سياسية تريد ترشيد نفقاتها على التعليم العمومي إتباعا لتوصيات دولية ، بحيث بات في مرحلة سابقة من العسير على الدولة تحمل نفقات التعليم لوحدها – لوقت أطول- دون مشاركة ومساهمة دافعي الضرائب الميسورين . وهكذا اُحدث التعليم الخصوصي ليخفف عن الدولة أعباء التعليم وليكون شريكا يساهم في التربية والتعليم . ومنذ إنشاء هذا التعليم بإرادة سياسية وتحت ضغط إكراهات اقتصادية ، والدولة تساهم بوسائلها وأطرها في نجاح تجربة التعليم الخصوصي بالمغرب. لقد حصل التعليم الخصوصي على امتيازات خاصة يتلقى من خلالها القطاع مساهمات موظفي الدولة من مدرسين يعملون بالقطاع العمومي ويساهمون بساعات عمل حددت في 8 ساعات أسبوعيا . كما يساهم إلى جانبهم مؤطرون وموجهون وخبراء القطاع العمومي بناء على ما ينص عليه قانون التعليم الخصوصي رقم 15.86 المعتبر بمثابة النظام الأساسي للتعليم الخاص الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.87.126 بتاريخ 6 ربيع الآخر 1412 (15 أكتوبر 1991 خاصة في المادة 13 «يجب أن يكون لمؤسسات التعليم المدرسي الخصوصي هيئة دائمة للتدريس بنسبة لا تقل عن %80. غير أنه يجوز لهذه المؤسسات ، في حالات استثنائية مبررة أن تستعين بمكونين أو مدرسين يعملون بمؤسسات التكوين أو التعليم العمومي أو الخصوصي بعد الحصول على إذن فردي من الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين المعنية ، وذلك برسم كل سنة دراسية ولمدة زمنية محددة » وكذلك في المادة 15 « يستفيد العاملون بمؤسسات التعليم المدرسي الخصوصي مجانا من جميع أسلاك ودورات التكوين الأساسي والمستمر المبرمجة لفائدة موظفي القطاع العمومي وفق شروط تحدد ضمن اتفاقيات بين الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين المعنية ومؤسسات التعليم المدرسي الخصوصي المستفيدة.» لقد أفلح القطاع العمومي في جذب الأنظار إليه على حساب مشاكل التعليم العمومي الهيكلية وكذلك المدبرة ضده لتفريغه من محتواه ودوره الريادي الذي لعبه سنوات طويلة ، حيث إلى جانب مغادرة تلاميذ " بالجملة" مقاعدهم نحو القطاع الخصوصي ، وهم الذين ينتمون إلى عائلات غنية ومتوسطة لها القدرة المادية والفكرية على مصاحبة أبنائها نحو النجاح ، -إلى جانب ذلك – التحق أساتذة التعليم العمومي بالقطاع الخصوصي كي يدعموه ، وإلى جانبهم مفتشو التعليم العمومي الذين أصبحوا ملزمين بمراقبة ومتابعة العشرات من المدارس سنويا ، انطلاقا مما تنص عليه المادة 22 من نفس القانون 15.86 والتي جاء فيها « تخضع مؤسسات التعليم المدرسي الخصوصي لمراقبة تربوية وإدارية تمارسها الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين. وتشمل المراقبة التربوية السهر على تقيد مؤسسات التعليم المدرسي الخصوصي بأحكام المادتين 4 و 8 أعلاه، خصوصا فيما يتعلق بمراقبة استعمال الكتب والوسائل التربوية. وتشمل المراقبة الإدارية فحص الوثائق الإدارية المتعلقة بالمؤسسة ومستخدميها التربويين والإداريين وبالتلاميذ، وكذا تفتيش المرافق الصحية للمؤسسة ومراقبة حسن سير الأقسام الداخلية في حالة وجودها.» لقد استفاد التعليم الخصوصي من تجربة مدرسي التعليم العمومي ومن مراقبيه ومؤ طريه وخدماته الإدارية إلى جانب استفادته من قانون جبائي خاص تنص عليه المادة 33 « يحدد قانون المالية نظاما جبائيا ملائما ومحفزا لفائدة مؤسسات التعليم المدرسي الخصوصي المستحقة، وذلك في إطار تعاقدي بين الدولة وهذه المؤسسات.» في وقت تحقق هذه المؤسسات أرباحا خيالية على حساب أسر اضطرت لتسجيل أبنائها في التعليم الخصوصي على حساب قوتها الشرائية ، وعلى حساب الإخفاقات التي يراكمها القطاع العمومي بسبب تدني المراقبة التربوية ، والتحاق الأطفال الموهوبين والذين هم مسندون ومتابعون من طرف آبائهم بالمدارس الخصوصية . فلم يبق في التعليم العمومي إلا من عجز أولياؤه عن منحه فرصة بالقطاع الخصوصي ، وعجزوا حتى على مساندته في التعليم ، على خلفية انشغال تلك الأسر (بالخبز) والجري وراء الرزق . نخلص إذن إلى قناعات لا يريد البعض أن ينظر إليها تتمثل أولا في أن وزارة التربية والتعليم لا تبحث عن إفشال التعليم الخصوصي ولا عن إلحاق الضرر به . فوزارة التربية هي من ساهمت في نشر التعليم الخصوصي عبر التراب المغربي ثم دعمته وناصرته بأطرها ومواردها ووسائلها . فهو يلعب دورا مهما اليوم في اقتصاد الدولة ويساهم في التربية والتعليم إلى جانب التعليم العمومي . ويبقى الحديث حول النجاح الذي حققه القطاع الخصوصي ممكنا ، كما يبقى النقاش حول فشل القطاع العمومي كذلك ممكنا وهذه بعض مبرراته : - انتماء تلاميذ القطاع الخاص إلى بيئة سوسيو- اقتصادية صالحة ومساعدة على التعلم. عكس غالبية تلاميذ القطاع العمومي الذين تمسهم الهشاشة في أي شيء. - غنى التعليم الخصوصي بموارد بشرية شابة ، مطالبة بالعطاء والجودة لضمان استمرارية المؤسسة في محيطها وضمان أرباحها. أما في القطاع العمومي فمعظم موارده البشرية هي في طور الشيخوخة أو مصابة بأمراض، مع العلم أن الباقي يعد من خيرة ما تتوفر عليه وزارة التعليم من مدرسين يتقنون عملهم بإخلاص . - التحاق التلميذ بالتعليم العمومي في سن متأخرة (من 6إلى 7 سوات) بينما في القطاع العمومي يلتحق الأطفال في سن جد مبكرة ، كي يبدأوا تعلمهم للغتهم العربية واللغات الأخرى .وهي قيمة مضافة ينفرد بها تلميذ القطاع الخصوصي الذي يتعلم اللغة الفرنسية في ما يربو عن 9 سنوات ،بينما في القطاع العمومي في 3 سنوات فقط ، وسنة في القسم الثاني من أجل الاستئناس . وهذا يعد غير كاف من أجل إجراء مقارنة بين القطاع الخصوصي والعمومي في هذا الباب . - تخصيص كل الوقت للدروس في القطاع العمومي في مدد زمنية بين 30 دقيقة و45 دقيقة للحصة الواحدة. بينما في القطاع الخصوصي هناك حصص تمتد إلى الساعة خاصة في مادة التواصل فرنسية، إلى جانب أنشطة موازية تفتقد إليها المدرسة العمومية . إن المدرسة الخصوصية تدار بعقلية المؤسسة الإنتاجية التي تجري وراء الربح مع ضمان الجودة ، تعتمد على وصلات الإشهار ( ملصقات ، لقاءات وأبواب مفتوحة، عمليات فم – أذن ، نتائج الامتحانات ) . لذلك فهي تعتمد على الاختباراتtests والبيانات من أجل تشخيص كفايات التلميذ قبل قبوله وتسجيله في المؤسسة ، وعليه يعتبر كل تلميذ لا تتوفر فيه مؤشرات وصفات التلميذ "المقاتل" غير مرغوب فيه ، يتم نصحه بالرجوع والتسجيل بالقطاع العمومي . في وقت تعد المدرسة العمومية ملجأ كل أطفال المغرب ، وحتى الذين هم في وضعية صحية صعبة ( ضعف النظر، ضعف السمع، تأخر علقي، انفصام ) ومن هم في وضعية اجتماعية صعبة ( منحدر ون من أسر جد فقيرة، يقطنون بعيدا عن المؤسسة – ينتمون لأسر بها الطلاق واليتم، والمخدرات علامة مميزة). وإن اتهام رجال التعليم (كلهم) بالمراوغة وانعدام الضمير فيه الكثير من المزايدات والحيف . فانصراف بعضهم للساعات الإضافية هو فقط واجب يتحملون فيه مسؤولية القرار. بحيث كان بإمكانهم رفض قرار سماح وزارة التربية لهم بالعمل بالقطاع الخصوصي لو وفرت لهم وزارتهم كل شروط العمل المريح : من الأجرة المشجعة إلى الاعتراف بحسن أدائهم ووفائهم . لقد تعرض رجال التعليم لكل أشكال التميز ، وأُشهرت ضدهم كل السيوف ، وعُلّق على حبالهم غسيل كل من لحقه الفشل . فأصبح رجل التعليم في الصف الأخير من المجتمع وآخر من يُستمع إليه ، بل أصبح نكتة تُنشّط بها اللقاءات ، ويُخاطب بها الزبائن في الأسواق. في أحد الأسواق ، تجمع حول بائع أدوية مستحضرة من الأعشاب متطفلون ، سيكونون صيدا ثمينا لا محالة . وبينما بائع المستحضرات يشرح منافع أدويته كان ينظر بين الفينة والأخرى لزبنائه ويخاطبهم « اسمع يا أستاذ هذا الدواء سيريحك من عناء الجري وراء الأطباء!» وهكذا أصبح الأستاذ كلمة سوقية بتداولها الناس بينهم لبيع بضاعتهم ، وسياستهم، والحصول على الأرباح متخذين الأستاذ مطية لذلك .فأين نحن من : « قم للمعلم ووفيه التبجيل...كاد المعلم أن يكون رسولا» . كاد المعلم أن يكون رسولا، لكن هل بقي هناك من يحترم الرسل في زمن بلا قيم ولا أخلاق وحتى يُحْتَرم المعلم ويُقام له ؟ فهناك منهجية خاصة عدائية تنتشر ويتم التنظير لها ضمن أجندات تخدم مصالح المتلاعبين بميدان التعليم لصالح أجنداتهم . إن من يتهمون الأستاذ باقتناص الفرص ، واختزال العلاقة بينه وبين تلاميذه وطلابه في الساعات الإضافية (واجباتها دريهمات ) هم إما حاقدون وإما متآمرون هدفهم تشويه رجل التعليم العمومي لدفع الناس للتوجه بأطفالهم نحو التعليم الخصوصي . فلو اعترفنا ولو مرة واحدة – على الأقل- على أن الساعات الإضافية تعترف بها الوزارة في القانون الأساسي للوظيفة العمومية ، وتؤدي عنها مقابلا ماديا ، فما العيب إن ارتأى الآباء أن يكلفوا رجل تعليم لمساعدتهم في تحصيل أبنائهم خارج وقته القانوني ؟ فهناك آباء أميون وعاجزون عن مساعدة أبنائهم ، لكنهم يرون بأن الساعات الإضافية – بالنسبة لأبنائهم - خير لهم من المكوث في الشارع. ألا يدخل هذا في باب الحريات؟ وفي باب فأعدوا لهم ما استطعتم ؟وفي باب التضامن ومحاربة الأمية والجهل؟ شريطة أن يتم في جو توافقي تغلب فيه مصلحة الطفل ويبتعد عن الإكراه أو التأثير في العلاقة بين الأستاذ وبين من لا يستطيع مجاراة واجبات الساعات الإضافية. والمرجو ألا يتكلم البعض عن تكافؤ الفرص لأن هذا المبدأ منعدم أصلا ، فليس هناك أية مقارنة ممكنة بين إمكانات القطاع الخصوصي والقطاع العمومي فيما يخص قدرات التلاميذ واستعداداتهم وحالتهم الصحية والسوسيو- اقتصادية. وحتى وإن تكافأ التلاميذ في الفصل فإن هذا التكافؤ يصيبه الخلل عندما يلتحق التلميذ بأسرته . فالتلميذ الذي يجد مساعدة من أبويه المتعلمين لن يكون كالذي لا يجد أي مساعدة . لذلك يقال بأن العملية التربوية جد، جد معقدة تتحكم فيها عوامل موضوعية وأخرى ذاتية بعضها تابت وبعضها متغير على الدوام.