قرى نموذجية في انتظار وكالات قروية "" يعيش المغرب اليوم، على مفارقات تنموية غريبة، وتتجلى هذه المفارقات في اعتناء "المغرب الرسمي" بالحواضر وتجاهل البوادي، وإذا أطلعنا على الاحصائيات الرسمية، سواء تلك المنشورة حديثا أو المتقادم منها، نلاحظ أن سكان البوادي يتجاوزون سكان الحواضر،رغم التطور المسجل حديثا على مستوى تململ الأرقام المرتبطة بانخفاض ساكنة البوادي وارتفاع سكانة الحواضر، نتيجة تزايد عدد الولادات بالحواضر، والهجرة المرتفعة لسكان البوادي نحو الحواضر وخاصة المدن الكبرى كالدارالبيضاء، الرباط، أسفي، طنجة... المفارقات التنموية تمس كذلك، ما يسمى "بالمنجزات" الحكومية، فالوزارات المرتبطة بالشأن العام، حضورها في الحواضر أكثر من حضورها في البوادي، باستثناء الحضور الخافت لبعض المكاتب الوطنية الكبرى، كالمكتب الوطني للكهرباء، المكلف منذ أواسط الثمانينات، بتزويد سكان العالم القروي بالكهرباء. وللأسف الشديد فالمغرب الرسمي لم ينتبه للبادية ولساكنتهم إلا بعد تسجيل سنوات الجفاف، التي صادفت أواخر مرحلة حكم الملك الراحل الحسن الثاني. اليوم وإذا وضعنا، "منجزات" المغرب الرسمي تحت مجهر التشريع، يلاحظ أن العناية هي مركزة على الحواضر أكثر من البوادي، الأمر الذي خلف ويخلف مآسي سيوسيو اقتصادية متعددة إلى درجة أن ذكر المغرب في المحافل الأممية وخاصة على مستوى التنمية البشرية والتقارير الاقتصادية، يرتبط بذيل القائمة. وارتباطا بهذا الموضوع، توصلنا في "المشعل" بدراسة من المواطن حباد مبارك من مدينة أكادير، تتعلق بما سماه "مشروع برنامج لتنمية العالم القروي". التغرير بالقرويين الدراسة التي أرسل نسخة منها إلى الملك محمد السادس، أكدت أن الوكالات الحضرية التي أنشئت أصلا ومن خلال تسميتها للعناية بالحواضر وليس بالقرى، كما أن هذه الوكالات لا تقوم اليوم بالوظائف التي خلقت من أجلها، فقد تأثرت هذه الوكالات الحضرية بممارسات الشيوخ والمقدمين والقياد وبارتباطها الكلي بأم الوزارات وليس بوزارة الإسكان والتعمير، فلماذا لا ننشئ اليوم وكالات قروية للعناية بالعالم القروي المرتبط بالحواضر على مستوى الإدارة الترابية والمستوى البشري والأمن الغذائي. وأضافت الدراسة، إن المدينة هجرت من طرف سكانها ليس بتأثير عوامل طبيعية كالجفاف وقلة البنيات التحتية وجشع المنعشين العقاريين المحليين والأجانب فقط، بل من طرف "السماسرة" و"المحتالين" الذين يغررون بالإنسان القروي وإيهامه أنه بعد حصوله على "براكة" بالمدينة، سيحصل بعد مرور بضع سنوات على قطعة أرضية سيبيعها بالملايين، وهو الأمر الذي يضاعف سنويا، إن لم نقل شهريا من أحياء الصفيح ومن سكانها. وفي المقابل – تضيف الدراسة – نجد فئة أخرى من سكان المدن، الذين يريدون شراء قطع أرضية بالبوادي بأثمنة تتراوح بين 50 و100 درهم للمتر المربع، وهم السكان الذين يفاجئون بعد شرائهم للأرض، بالمنع من كتابة الرسم وتسجيله في الجماعة القروية، بل أن مصالح الجماعات القروية والإدارات تمنع تجزئة الأرض، الشيء الذي لا نجده في أية دولة في العالم. الدراسة تضمنت معطيات حول قرية نموذجية بشوارع تتسع ل 40 مترا وأزقة تتسع ل 20 مترا، قرى تشمل جميع المرافق الضرورية من أسواق وحدائق ومدارس. ولن تتحقق هذه القرية النموذجية – تضيف الدراسة - إلا بمنح قروض للقرويين كي يجهزوا قراهم، عبر نسبة فائدة ما بين 1.5 في المائة و2 في المائة، وليس كما هو معمول به الآن، حيث تتراوح نسبة الفائدة ما بين 12 في المائة و15 في المائة، حسب الدراسة دائما. إن الهكتار الواحد يعطي 65 بقعة من حجم 100 متر مربع، فإذا بيعت البقعة الواحدة ب 10 آلاف درهم، وهذا هو ثمن البقع الأرضية في القرى، فإنه سيحصل على 650 ألف درهم في الهكتار، أما إذا باع الهكتار دفعة واحدة، فإنه سيحصل على 20 أو 30 ألف درهم. إن القرية النموذجية التي هيأها المواطن حباد مبارك، بعمالة اشتوكة ايت باها، والتي أراد تعميمها بالمغرب، يراها دعما لاستقرار وبقاء القرويين في قراهم وستساعدهم على إنشاء بيوت تلائم وضعيتهم الاجتماعية. وعلى ذكر الوكالات الحضرية، فقد سبق للوزير أحمد توفيق أحجيرة في أحد الاجتماعات، أن طالب بتحول الوكالات الحضرية على قوة اقتراحية وداعمة للتنمية المحلية المستدامة في مجال التعمير وذلك بالنظر إلى التحولات الهيكلية في الأدوار المنوطة بها والانتظارات الهامة والأساسية المرتبطة بوظائفها. تطاول وزارة الإسكان والتعمير وطالب الوزير أحمد توفيق أحجيرة، بقلب الوضع الذي كان قائما فيما يتعلق بمهام الوكالات الحضرية التي كانت تكرس 80 في المائة من مهامها لمنح التراخيص و20 في المائة فقط للمساهمة في التنمية المحلية وذلك بتخصيص 80 في المائة للتنمية المحلية ودعم عمل الجماعات المحلية و20 في المائة فقط لمنح التراخيص، كلام وزير الإسكان والتعمير، وإن كان نوعا ما تدخلا في اختصاصات مصالح وزارة الداخلية، التي تتحكم في الكثير من الوكالات الحضرية وخاصة وكالة الدارالبيضاء الكبرى، فإنه فسر من طرف عدة جهات على أنه تطاول وتدخل في اختصاصات لا تعنيه. وهو الأمر الشبيه لما حدث إبان تدخل الملك محمد السادس للفصل في منح وكالات التنمية الجهوية استقلالا ماليا وتسييريا، بدل إخضاعها لوزارة أحمد توفيق أحجيرة. إن إحداث وكالات قروية مطلب ملح اليوم، لاعتبارات متعددة، على رأسها الاهتمام بالمجال القروي المرتبط أصلا بالحواضر، وخاصة إذا علمنا أن مشاكل البادية لها انعكاسات فورية ومباشرة على الحواضر، بمعنى أصح، إن إهمال العالم القروي على كل الأصعدة والميادين هو بمثابة، "انتحار" تنموي، فلم نشهد أن بلدا في العالم تجاهل نصف أو أزيد من ساكنته، وتاريخ الأمم العظيمة، أعطانا دروسا ونماذج عن كيفية الاعتناء بسكان العالم القروي، ليست عبر منحهم صهاريج مياه أو وعود معسولة وسدود لا يستفيد الفلاحون من مياهها إلا مرتين في السنة، بل عبر استراتيجية طموحة وطويلة الأمد، استراتيجية تشارك فيها جميع الوزارات، إضافة إلى مبادرة التنمية البشرية، مع الاستفادة من تجارب الغير وخاصة التجارب الأوروبية الناجحة. ومن غرائب هذا الوطن، فأثناء تقديم عرض التجربة المغربية في مجال الإسكان والتعمير من خلال ندوة صحفية نظمت في إطار الاحتفال باليوم المغاربي للعمران (17 فبراير من كل سنة)، أكد مدير عام التعمير والهندسة المعمارية وإعداد التراب بوزارة الإسكان والتعمير والتنمية المجالية، أن "التعمير خلافا للعديد من المجالات، لا يمكن إخضاعه لتجارب مخبرية قبل تطبيقه على أرض الواقع، مؤكدا في نفس اللقاء، أن الاستفادة من التجارب الناجحة تبقى السبيل الأوحد للرفع من مستوى الأداء في مجال التعمير وأن الدولة أنجزت دراسة لإعداد شبكة لمعايير التجهيزات العمومية تهم جانب التخطيط الحضري، منها بالأساس وضع المخططات التوجيهية وتصاميم التهيئة وتصاميم النمو، فضلا عن معايير الترخيص للتجزئات". كلام هذا المسؤول لم يتحدث بالمرة لا في هذا اللقاء ولا في غيره عن عزم الوزارة التي يعمل في إطارها عن برمجة أي تخطيط يهم العالم القروي، أما في ما يتعلق بتأهيل المدن والمراكز القروية، فقال إن الوزارة تسهر على أن تقوم كل وكالة حضرية بدراسة "مشروع حضري" تبحث فيه مع الفاعلين المحليين سبل تفعيله ووسائل تمويله. وفي هذا السياق، وقف على مشروع مدونة التعمير الذي قارب المسألة العقارية بشكل سيمكن من تحسين عملية إنجاز التجهيزات والمرافق العمومية من خلال خلق وكالات عقارية جهوية، فضلا عن خلق صندوق وطني لتمويل التهيئة والتعمير. ويفهم من هذا الكلام، أيضا أن خطاب الرسمي، يتجاهل إلى حد كبير "العالم القروي" وخاصة على مستوى السكن، فما معنى أن يتحدث مسؤولون حكوميون عن التخطيط العمراني والتدبير الحضري، في حين يتجاهلون تأهيل العالم القروي. مصطفى ريحان-سكرتير تحرير أسبوعية المشعل-