لا أدري لماذا كلما ركبت قطارات الخليع "السريعة" أحس أن التعامل مع الإنسان في هذا البلد أبعد ما يكون عن مفهوم المواطنة...رائحة بول عطنة...مكيف الهواء معطل...وأعطاب على طول ...تأخر لا حصر له ...ومع ذلك تقول اللوحة الإشهارية على خطوطنا تظهر معالم المستقبل. لا أدري بالضبط أي مستقبل تقصده الجملة الإعلانية، لكن الذي أعرفه أن مستقبل الشعوب يبدأ أولا بإحساس الإنسان بالمواطنة والأمن في نقله وتعليمه وصحته. في القطار الرابط بين البيضاء وفاس وجوه الناس متشققة، سحناتهم حالكة، ومابين جبينهم ارتسمت خطوط طول مليئة بالكآبة. لا استثناء، الرجال كما النساء وقد اكفهرت الدنيا أمامهم. أهو مجرد إحساس رمضاني بفعل نقص مفعول السكر في الدم؟ أم أن الكآبة ناتجة عن افتقاد وجوه الجميلات لماكياج إخفاء العيوب بفعل هذا اليوم الرمضاني؟ الجميلات هن الجميلات كما يقول محمود درويش لكن في مغرب اليوم صار الناس فعلا أكثر بؤسا وشقاء، وصار المغاربة أكثر اعتلالا، وباتت أمراض العصر مثل ارتفاع الضغط تتجاور وبقوة مع أمراض الفقر من سوء التغذية وفقر الدم والسل وغيرها. يتساءل المتسائل ولكن لماذا هذا التشاؤم والمغرب يشكل استثناء بعد أن مر الربيع العربي بسلام وأتى بخيراته التي لاتنضب. أليس العدالة والتنمية في السلطة؟ أليس الرميد وزيرا للعدل والحريات؟ أليس بنكيران من كان الناس يترجون بركاته؟ في المغرب دق شبان20 فبراير جدران الخزان بقوة. أدانوا الفساد ورموزه، شجبوا تزاوج المال والسلطة، طالبوا بفصل حقيقي للسلط، وطالبوا بملكية برلمانية. صحيح لم يستسلموا. وظلوا كرجال في الشمس يحترقون، يسجنون، يقمعون، ويدقون جدارن الخزان. لكن أشباه أبو الخيزران في رواية رجال في الشمس للراحل غسان كنفاني كان لهم رأي آخر. لقد أصيبوا بالخصاء والمخصيون عموما غير قادرين على الفعل الإيجابي وإن تفاعلوا مع الأحداث صاروا انتهازيين، لأنهم يفتقدون قيمة الحياة الإنسانية الكريمة وحرارتها. الخصاء السياسي هنا يعني عدم القدرة على الفعل، والعجز عن المبادرة والحراك من أجل تجاوز العبودية والاستغلال. ويعني فيما يعنيه غياب شخصيات سياسية وطنية تتوفر على رؤيا ومنظور يتجاوز لعق أحذية الأولياء والأوصياء. والنتيجة افتقاد النسق السياسي المغربي لرموز وطنية قادرة على أن تقول كفى افتراسا. العدالة والتنمية القابض على الاعتذار والولاء والخنوع يزيد في ارتفاع ضغط المواطن المقهور بزيادات يقول القائلون أنها سابقة في تاريخ تدبير الأزمات. وقبل "عدالة وتنمية" بنكيران مر الاتحاد الاشتراكي من النفق ذاته، فترك الجلد والعظم ورشف من معين الغضب الشعبي نفسه. الفارق بين الاتحاديين والإسلاميين بسيط وشاسع في نفس الوقت. بسيط لأن كلاهما استجلب لأداء مهمة الترقيع السياسي وشاسع لأن الإسلاميين أمامهم حلول الدنيا فإن عجزوا خدروا الناس بحلول الآخرة. أليس الدين ،كما يفهمه بنكيران وأتباعه، فيه رحمة ورأفة بالعباد، وفيه حتى العفو عند عدم المقدرة. لم يستطع بنكيران أن يفرض ضريبة على الأغنياء فعوضها باقتصاص المزيد من جيوب الفقراء، ولم يستطع الالتزام بمعدل النمو فطلب فتح خط البنك الدولي للاستدانة. لم يستطع أن يزحزح أذرع أخطبوط الفساد فنحت نظريته الشهيرة عفا الله عما سلف، أما وزراؤه في التعليم والصحة والعدل فلا ينتهون من شطحة إلا ليدخلوا في أخرى. صحيح أن بنكيران منتوج مغربي خالص. وهو غير مسؤول كلية عن شقاء المغاربة وبؤسهم لكنه الحلقة الأخطر في مسلسل التبئيس. في عهده حصانة العسكر بلا رقيب،وقانون الإضراب لابد أن يمر، والمعطلون أمرهم لله، والاحتجاجات السلمية كفر، والخروج عن طاعته مزايدة، والتعليم فئوي، والمعتقلون السياسيون اختفوا من السجون المغربية بفعل تضخم مفعول الكرسي الوثير. يلزم المغاربة الكثير من هدوء الأعصاب واتساع الصدر مع هكذا وضعية. فبنكيران قد يعتذر لجميع المخلوقات، لكنه لن يعتذر أبدا لشعب حملته مظاهراته إلى قطف ثمار حراك لم يشارك فيه حزبه. لكن لنا المغاربة نصيب في هذي المعاناة لأن الشعوب التي لا تستطيع سحب المستبد من رجليه شعوب تستعذب القمع ويصير فيها الإنسان أحقر من صرصار. ف"يا بلاداً بلا شعوبٍ.. أفيقي واسحبي المستبد من رجليه ،يا بلاداً تستعذب القمع.. حتى صار عقل الإنسان في قدميه ،كيف يا سادتي، يغني المغني ،بعدما خيطوا له شفتيه؟...وإلى روح نزار قباني الطاهرة في عليائها سلاما.