الجنس، نداء الجسد، بين الدين والسياسة في أوائل صيف 2012 تناقلت الصحافة خبر اعتقال أستاذة من نشطاء جماعة العدل والإحسان (من الجماعات الصوفْسياسية المغربية) بتهمة الاختلاء غير الشرعي بأستاذ من نفس الجماعة. الأجهزة التي اعتقلتهما لها محاضرها، ونحن لنا ذاكرتنا التي علمتنا ألا نباليَ بما يدون في تلك الدائرة. الذاكرة مزعجة، ترد أعجازَ الأخبارِ على صدورها! فهي تعود بنا، مثلا، إلى اعتقال مغني الجماعة (غلام) بنفس التهمة، وتعود بنا إلى مجموعة من الفيديوهات التي روجت في وقت غير بعيد عن بنت المرشد نادية ياسين. ذاكرتنا تقول لنا: حَلِّلوا وناقشوا. المهم أن النيابة الهامة لم تقتنع هذه المرة بمحتوى تلك المحاضر، فأخلتْ سبيلَ المعتقلين بتهمة الخلوة. أتمنى أن تكون هذه الواقعةُ سابقةً حسنة، وفالَ خير. إن سار القضاة في طريق الحق والعدل سيعلو شأنهم، وسيستحقون كل ما يطالبون به. وفي نفس الظروف تحدث نائب برلماني عن "الأجهزة التي...!" فأجابه وزير الداخلية أمحند النصر بأن عليه البينة: البينة على أفتاتي! مَنْ قال: "أحْ.. أو: آيْ، عليه شخصيا تحديدُ مكان وجود العفريت الذي وخزه. وإذا علمتَ أن رئيس الحكومة نفسَه يجهل مكان وجود العفاريت والتماسيح، علمتَ أننا دخلنا في متاهة لا نهاية لها. في مقال طريف بجريدة أخبار اليوم استنفر الأستاذ العربي المساري ذاكرته، واستعمل مقدرته الصحفية العالية في الرصد والتقصي من أجل البرهنة على وجود هذه الكائنات الهولامية الخانقة. اعتمد في ذلك على الحساسية الجلدية التي تصيب الأماكن التي تمر منها، اعتمد على "النِّصْبَة" الجاحظية المشهورة، أي على الحالة الدالة، وتسمى أيضا "الاعتبار": فالبعرة تدل على البعير، كما يقول القدماء. ولذلك أنعش ذاكرتنا بإعادة تجميع ركام من البَعَر الذي تركه بعيرنا خلفه في السنوات الأخيرة. بعَر طري وآخرُ جاف. بَعَرلٌ حارت في ضخامته الألباب. عصمنا الله وإياكم من هذا البعير حين يصيب الهَتَرُ (جنون البُعران). هذا مجرد استطراد اقتضاه ترابط حلقات السياسة والجنس. أما مربط بعيرنا نحن فيوجد في العلاقة التي سيربطها المؤرخ مستقبلا (حين ينقشع الغبار، وينسحب ضباب الزحمة) بين هذه الوقائع وبين دعوات الحرية الجنسية وما سيترتب على ذلك كله من أوجاعٍ: جمعياتٌ، وأفراد، ينادون بابتعاد الدولة بكل أجهزتها عن ملف العلاقة بين الإنسان وجسده، (مثل العلاقة بين الإنسان وربه)، ما ظهر منها وما بطَن. ومدخل هذا الابتعاد حذف الفصل 490 من القانون الذي يجرم ممارسة الجنس خارج إطار الزواج. هناك من يتحدث عن الحرية الجنسية على الإجمال، وهناك من يتحدث داخل قيود. من المهتمين بالموضوع الذين صاروا يقيدون كلامهم الزميل الأستاذ الديالمي، السوسيولوجي المغربي المعروف بالانشغال بهذا الموضوع منذ سنين. وهو يحصر الحرية المطلوبة في العلاقة بين العزاب البالغين، مقدرا الحالات الأخرى بقدرها. وأخيرا رأيته يتبني خيارا معروفا بين المسلمين، وهو زواج المتعة. هذه الأفكار أثارت ردود فعل عنيفة خاصة حين أصدر الخطيب نهاري فتوى بقتل أحد الصحفيين لِمَا توهمه في كلامه من جرأة على الدين، كما يتصوره هو. هكذا تدحرجت الكرة: من اعتقال بالشبهة، إلى رفض للتدخل في الحياة الخاصة للناس، إلى التكفير... كلها أعراضُ وَجَعٍ اسمُه الجنسُ. الجنس ثالث المحببات للرسول (ص) من دنيانا هذه: "حبب إلي من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة". للجنس بعد ذاتي شخصي، وبعد اجتماعي، والمسافة بين البعدين تتسع وتضيق. موضوع مفتوح للنقاش، في مستوى المبدأ، كما في مستوى الإجراءات. تتحكم فيه ترسبات وتقاليد وعادات أكثر مما يتحكم فيه العقل. وما كان بالأمس مُعللا بظروف موضوعية (مثل الحمل والنسب) صار اليوم، بعد زوال تلك العلل والمبررات، تعبديا. أنا، مثلا، حزمة من المتناقضات: أحمل أفكاراً متلائمة مع المسار التاريخي التحرري الكوني لحقوق الإنسان، ولكني أجد راحتي وانسجامي في حدود من المحافظة الأسرية، تجعلني أُنعتُ أحيانا بالرجعية، أو التزمت، بل نعتتني زوجة ابني الأوروبية، مرة، بالعنصرية حين علقتُ على مشهد أحد المثليين وهو يتلقى الضربات العنيفة من طرف شبان هائجين، حيث قلتُ: "Il a trouvé ce qu'il cherchait". وهي الترجمة التي وجدتها لعبارة: "جابها فراسو". كنت مازحا مشاكسا، ولكنها لم تقبل المزاح في موضوع تعتبره "إنسانيا حقوقيا". رغم أنني لم أحس، مع الأسف، بالحزن لما أصابه فمن الأكيد أنني لو كنت قاضيا، وعُرض علي الشبان الذي اعتدوا عليه، لحكمت عليهم بأقصى العقوبات، عقوباتٍ أشدَّ كثيرا مما لو أنهم اعتدوا على شخص عادي، وهذا سيُعجب أنصارَ المثلية، ولكنني سأُغضبهم، في الفقرة الموالية، حين سأقترح عرضَه، على الخبرة الطبية: النفسية والجسدية! المسألة ليست بالسهولة التي يتخيلها السلفيون الجدد الذين نحثوا إسلاما بالمسطرة والبيركار! إسلام الحدود الثابثة والزوايا الحادة. التجربة التاريخية تبين أن الإسلام رسم بزوايا منفرجة، خاصة فيما يتعلق بالجنس. فنحن نعلم أنه خارج الاعتراف الصريح يتعذر إثبات جريمة الزنا في الإسلام! كيف سترى "المرود في المكحلة"، ومن سيسمح لك "بتمرير الخيط"؟! هل هذا عطب تشريعي؟ ما نسب للرسول، صل الله عليه وسلم، يقول العكس: لعلك نظرت؟ لعلك قبلت؟ المسلمون الذين أقروا زواج المتعة واستمروا في تشريعه، والمسلمون الذين قننوا زواج المسيار، وعملوا به، ماذا نقول لهم؟ إنهم مسلمون مثلنا، بل تشددهم في الإسلام أقوى، ظاهريا، من تشددنا. هم الشيعة، في إيران والعراق، وحيثما وجدوا، وهم الوهابيون، في السعودية، وحيثما وجدوا. عرضَت المواقع الإلكترونية منذ أسابيع شريطا تحدث فيه أحد العراقيين عن تجربته مع مجموعة من النساء تزوجهن متعة: يمر "العريسان" على مأذون في مكتبٍ أشبهَ شباكِ تذاكر، أو بمكتب استقبال في فندق، يؤديان الرسوم وتبدأ الحياة الزوجية، المرأة لا تخفي سعادتها باللحظات التي تقضيها مع زوجها بهذه الصفة: المتعة. "زين للناس حب الشهوات من النساء...ذلك متاع الحياة الدنيا". زواج المتعة والمسيار ليس من الزنا، لأنه يحفظُ النسبَ إن اختارت المرأة أن تلد وتربي على نفقتها، وهي تلتزم فيه بالعدة، حفظا لهذا النسب. يرى فقهاء سعوديون أن هذا الزواج يحل مشكل نساء موسرات كثيرات في المجتمعات الخليجية تضاءلت أمامهن فرص الزواج العادي، وأنا أقول إنهن بالملايين في المغرب. سمعت أحد السلفيين المغاربة يفتي ببطلان هذا العقد لأنه مقيد بزمن محدد سلفا، وعقد الزواج مبني على نية الدوام. وهذه حجة ضعيفة، تُشم ولا تُفرَك، لأن النية لا تُلغي الواقع حتى في الزواج العادي، والواقع هو أن الزوجين يعلمان أن بوسعهما فكُّ الارتباط في أية لحظة. أما إذا كان الغرض من نية التأبيد هو الطمأنينة، فالطمأنينة حاصلة أيضا بالنسبة للمرأة التي اعتبرت زواج المتعة أحسنَ حلٍّ لحالتها، أحسن من الحرمان. في سياق حل المشكل الجنسي داخل الإطار الإسلامي تفتقت قريحة أحد الشيوخ المصريين على فكرة إعادة صيغة مخففة من الرق. رق اختياري! بل رق لفظي لا غير. تقول المرأة للرجل: مَلَّكتُك نفسي، فيجيبها الرجل: قبِلتُ، وكاتبتُك على سورة الإخلاص. يقرآن صورة الإخلاص معا، فتحِل له ويحِل لها. وتُحَلُّ، كما قال الشيخ، مشكلة ملايين الشباب المحروم. ليس هذا وحسب، بل يُحَلُّ مشكلٌ آخرُ عويصٌ، هو مشكل الحجاب! كيف ذلك؟ يقول الشيخ: بناء على أن الحجاب ليس مفروضا على "ما ملكت اليمين"، بل محظور عليهن، فإن المرأة التي تُملِّك نفسها لرجل تحبُّه، أو ترغب فيه، أو لا تجد بديلا عنه، تتحرر أيضا من الحجاب، إذ عورة المُمَلَّكَة مثلُ عورة الرجل، والعهدة عليه، أي من الصُّرة إلى الرُّكبة. وهذا لا يقف عند كشف الرأس، بل يصل إلى الصدر والساق. والله أعلم. هذا ما قاله الشيخ. في نفس الشريط كان يجلس هذا "المجتهد" شيخ آخر من شيوخ الأزهر، في منتهى التوتر والانفعال، اتهم صاحبنا بإعادة تشريع الرق، وطالب بمحاكمته. ولكن حجة المفتي كانت أقوى، من حيث الشكل، لأنه يستشهد بالصريح من القرآن الكريم: "ومَن لمْ يَستطعْ منكم طوْلا أن ينكحَ المحصناتِ المؤمناتِ فمِن ما ملكتْ أيمانكم من فتياتكم المؤمنات". وقد راجعت أكثر من تفسير للقرآن فوجدت معناه على ظاهرها. الطول: السعة والاستطاعة، وما ملكت اليمين: غير الحرة. لقد أحرج هذا الرجل شيوخه! فإن هم قالوا له: إن الرق قد ألغي بمواثيق دولية سنكون قد اعترفنا بسمو هذه المواثيق، وهذا ما يرفضونه. وللرجل احتياط مسبق على تهمة الرق هذه، فهو يجعل العصمة في يد المرأة، يكفيها أن تُعيد إليه صداقَه لتتحلل من أي التزام معه، والصداق لا يكلفها أكثر من قراءة سورة الإخلاص، تقرأ صورة الإخلاص وتنتظر عدتها، وتملك نفسها من تحب، أو لا تملك. ماذا نقول لهذا الرجل؟ هل هذه عبودية مخففه "light" أم صيغة عشق رومانسي؟ أقول إنها صيغة رومانسية جميلة لا ينقصها غيرُ أن يجيبها الرجل: وأنا أيضا ملكتك نفسي، يا روحي! وكاتبتك على سورة الإخلاص. الزواج المثالي، مثل زواجي أنا، هو التملك المتبادل: تَملُّك الآخر بحذافيره، دون تملك حريته. هناك اقتراحات كثيرة لحل مشكل الحرمان الجنسي، وما أخطره، لفئات من المجتمع: منها الطلبة والأرامل، والعوانس، والعمال والموظفين الذين لا يملكون وضعا قارا، يحرص أصحابُها على أن تكون من داخل الإسلام، وهي قريبة من ممارسات إسلامية عرفها التاريخ. بعض تلك الممارسات أقرب من تعدد الزوجات. الفرق الواضح هو أن المرأة التي تختار التعدد تكون في وضعية هشة تحتاج إلى من يتكفل بها مائة بالمائة وإلى الأبد، والمرأة التي تحبذ زواج المتعة أو المسيار أو غيرهما من صيغ الزواج الحر المحدود بزمن تكون وضعيتها أحسن ماديا أو متحولة نحو وضع آخر. إنه وجع الجنس. هل تكون لدينا الجرأة لنتحدث عنه بصراحة وعقلانية كحاجة إنسانية، بعيدا عن التدنيس. *باحث في البلاغة وتحليل الخطاب www.medelomari.net