توطئة: تعرف الساحة السجنية المغربية عدة جمعيات تحاول القيام بواجبها من أجل الدفاع و التخفيف من معانات السجناء. إلا أن عددها و نوعيتها لا يصل إلى المستوى المطلوب. فإذا استثنينا مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء- التي تقوم بدور أساسي في هذا المجال-، و المرصد المغربي للسجون، لا نكاد نجد جمعيات وطنية أخرى متخصصة في الشأن السجني. بطبيعة الحال توجد هناك جمعيات حقوقية متعددة تدافع عن السجناء و أسرهم على المستوى الحقوقي، إلا أن المقصود هو تواجد جمعيات متخصصة تعنى بقضايا السجين و أسرته على المستوى الثقافي والتعليمي و الصحي و الأسري، ...هذا ما سنحاول عرضه في هذا المقال، بناءا على ما عايشناه و علمناه في العديد من الدول الأوروبية عموما و في فرنسا على وجه الخصوص. أهمية دور جمعيات المجتمع المدني: تجدر الإشارة هنا، إلى أن تواجد جمعيات متعددة و متنوعة لا يعني محاولة القيام بدور الدولة أو إعفاء هذه الأخيرة من واجبها و دورها. فهي تبقى المسؤولة الأولى عن تحسين أوضاع السجناء. و من مسؤولياتها فتح المجال لجمعيات المجتمع المدني و تمويله و تعبيد الطريق أمامه، لما لذلك من فوائد متعددة نذكر منها: - فوائد نفسية: و ذلك من خلال إتاحة الفرصة للسجين للتواصل مع الخارج عن طريق متطوعي هذه الجمعيات. التواصل المقصود هنا هو على المستوى الإنساني، بحيث لا يبقى السجين وجها لوجه طول مدة حبسه مع الادارة السجنية و مختلف عناصرها. لأن هؤلاء تبقى علاقتهم بالسجين مؤطرة بمهامهم كموظفين، و هذه العلاقة تكون متأثرة بطبيعة مهامهم، و التي في جزء كبير منها أمنية، مما يسبب توترات في العلاقة بين هذين الطرفين. كما أن بعض الموظفين قد يمارسون ضغوطات على السجناء استغلالا لنفوذهم، كما تبين في العديد من الشهادات و التقارير. - فوائد اجتماعية: و يتجلى ذلك في مساهمة جزء كبير من المواطنين في عملية إعادة الإدماج. و هذا الأمر قد تكون له تجليات إيجابية عديدة على السجين،مما قد يعين السجين على الحفاظ على شعلة الأمل في مواطنيه الممثلين في جماعات المتطوعين الجمعويين. كما أن هؤلاء قد يغيرون موقفهم تجاه السجناء بحكم الإحتكاك بهم، و مباشرة معاناتهم وراء القضبان. - فوائد مادية: و ذلك لكون جمعيات المجتمع المدني لا تحتاج إلى ميزانية إلا على مستوى التسيير. أما أنشطتها فيقوم بها متطوعون لا ينتظرون لا جزاءا و لا شكورا. أنشطة إذا افترضنا أن الإدارة السجنية قررت القيام بها لاضطرت إلى إضافة أعداد هائلة من الموظفين و لما استطاعت ميزانيتها تحمل نفقاتهم. علاوة على عدم ضمان النتائج المرتقبة بحكم العلاقة الغير الطبيعية التي تربط السجين بالسجان، كما أسلفنا أعلاه. كما أن لجمعيات المجتمع المدني إمكانية إثراء ميزانيتها عن طرق الحصول على التبرعات من المؤسسات الخاصة من الشركات و غيرها، كما هو معهود في مجالات أخرى. مقترح تخصصات جمعوية في الشأن السجني: 1- السجين و التعليم: و يتعلق الأمربإعطاء الفرصة لكل سجين، خصوصا القاصرين و الشباب منهم. فبالنسبة للتعليم العام تجدر الإشارة إلى أن متابعته لابد و أن تسهر عليه وزارة التربية الوطنية او وزارة التعليم العالي، إلا ان ظروف متابعة البرامج التعليمية لا يكفي فيه حضور أساتذة من طرف الوزارة المعنية، مما يفترض ايجاد جمعيات تمكين السجناء من دروس خصوصية. في فرنسا مثلا توجد جمعية أنشأها طلاب المدارس و المعاهد العليا. انخراط هذه الشريحة من الطلاب يشكل عاملا تحفيزيا للسجين لما يراه من تضحية لفئة يفترض لأغلب أعضائها اهتمامات أخرى بعيدة كل البعد عن عالم السجن و المعانات. كما أنه يمكن خلق جمعيات أخرى تساعد السجناء، الذين ليس بإمكانهم متابعة برامج نظامية لعدم الكفاءة أو لعامل السن، بمتابعة دروس عن طريق المراسلة. 2- السجين و الأسرة: للسجن وقع لا يعلم مداه إلا من ابتلي به. و وقع السجن على أسرة السجين أدهى و أمر. يكفي الوقوف أمام بوابة السجن للاطلاع على هذه المعانات. فالسجين قد يتحمل وجوده خصوصا إذا كان محكوما عليه عدلا. إلا أن أفراد أسرته من زوج و أولاد لا يمكنهم أبدا التعايش مع هذا الوضع، ليس فقط على مستوى البعد عن الزوج أو الأب، و لكن لأن في أغلب الحالات يكون هذا الأخير هو المعيل الوحيد. إذا أضفنا إاى هذه المعانات، مرارة مواجهة باقي أفراد الأسرة و كذلك المجتمع بنظرات الإتهام و التنقيص.فسجين واحد وراء القضبان، يخلق سجناء آخرين بالنيابة خارجها. للتخفيف من هذه المعانات المركبة لا بد من خلق جمعيات لمساندة أسرة السجين. منها من ستكون متخصصة في مساندة الزوجات، و أخرى ستهتم بالآباء، و ثالثة بالأبناء. مساندة نفسية و مادية و حقوقية قانونية. إن أصعب ما يواجه الأسر هو وقت الزيارة. تخوفات قبل الزيارة و معانات أثنائها و إحباطات بعدها. من أجل زيارات في أجواء شبه طبيعية لا بد من جمعيات متخصصة في المجال النفسي تساند الأسر. في كل هذه التخصصات و من أجل تحمل الدولة لأدوارها، لا بد و أن يتم التنسيق مع الوزارة الوصية على شؤون الأسرة. 3- السجين و الصحة: كل الشهادات و التقارير تشير إلى الإختلالات في المجال الصحي داخل السجون. فعندما نعلم تواجد بعض الإختلالات في المستشفيات العمومية و بعض المصحات الخاصة، لا يمكننا أن نستغرب تواجدها داخل السجون. و هذا الواقع مع الأسف لم تفلت منه حتى بعض الدول المتقدمة، مثل فرنسا، مما حذا بلجنة التحقيق بمجلس الشيوخ الفرنسي بتحرير تقرير مفجع بتاريخ 29 يونيو 2000 كان عنوانه: "السجن الفرنسي: إهانة للجمهورية". لابد لوزارة الصحة من تحمل كامل مسؤوليتها بصحة السجناء، لأنهم مواطنون و قبل كل شيء هم من البشر الذين يستحقون الإعتناء الكامل بهم. و لكن تواجد جمعيات متخصصة من الأطباء و الممرضين قد تساعد في المجال الصحي. فوزارة الصحة و المؤسسة السجنية قد لا يمكنهما توفير الأعداد الكافية من الطاقم الصحي، و تواجد متخصصين من المتطوعين يكون بردا و سلاما، ليس فقط لما قد يقدمونه من مساعدات طبية و لكن كذلك لما سيسدونه من مساندة نفسية، لأن تواجدهم يكون بعيدا عن كل الضغوطات التي قد يعاني منعا الأطباء و الممرضون الذين يشتغلون لحساب المؤسسة السجنية. هذه الجمعيات قد تلعب دورا أساسيا في التوعية الصحية و الوقاية من بعض الأمراض المعدية و الجنسية و كذلك محاربة المخدرات التي تجد مرتعا خصبا لها داخل السجون. 4- السجين و الثقافة: للثقافة دور أساسي في تنمية مدارك و شخصية الأفراد. الثقافة تفتح آفاق لا متناهية للذي يسبح في بحارها. الثقافة سياحة و فرجة. فإذا كانت هذه الأحوال ضرورية لكل إنسان، فالسجين يكون من أحوج الناس إليها. إلا أنه قد يكون في منئى عنها لأسباب نفسية و مادية. فالسجن لا يوفرالظروف المناسبة للإهتمام بهذا الجانب الحيوي. و المؤسسة السجنية، خصوصا في بلداننا العربية و الإسلامية ليست مؤهلة بفتح شهية السجين للثقافة، لما تعرفه من أختلالات متعددة على المستوى الإنساني. فالتواصل الثقافي مع انعدام التواصل الإنساني، لا يزيد المستفيد إلا بعدا عن المادة الثقافية. فكم من تلميذ كره التاريخ أو الفلسفة أو الشعر بسبب أستاذ جاف الطبع أو حاد المعاملة. فيمكننا بالتالي تصور سجين داخل زنزانة قد لا يجد المكان للنوم فيها، بعيدا عن أهله، ... هل نظن أنه سيخطر بباله شيء يسمى ثقافة؟ بعض السجناء يلتجؤون إلى ما هو ثقافي للتخفبف من معانات وجودهم خلف القضبان، لكنهم يبقون فئة لا يعتد بعددها. لهذا وجب خلق جمعيات يكون دورها التحفيز و التشجيع على كل ما هو ثقافي من قراءة و رسم و كتابة بكل أنواعها، و لم لا البحث عن طاقات مسرحية أو سنمائية ... إن السجن ليس هو فقط مجال تختزل فيه كل أشكال المعانات، فهو كذلك مجال تختزل فيه عدة طاقات و إبداعات قد تفوق أحيانا ما يكسب الفرد الحر خارج الأسوار. إن المعانات البشرية قد تولد طاقات، إما أنها تجد مجالات إيجابية لتعبيرها، و إما أنها ستفرغ فيما هو سلبي. 5- السجين و العامل النفسي: كل سجون العالم تعرف أرقاما مهولة لظاهرة الإنتحار و تفشي العنف. الأسباب متعددة كتب فيها المتخصصون العديد من الكتب و المقالات التي تشير كلها إلى الإنهيار النفسي و الشعور بالإحباط. من المؤكد أن هناك حالات للعنف يقوم بها أفراد لا يتقنون في حياتهم إلا ممارسة العنف على الآخرين. إلا أن هؤلاء هم كذلك يعانون من حالات نفسية مرتبكة لا يدرون التعبير عنها إلا بالعنف، و قد تصل باحدهم الى الإنتحار. أغلب إن لم يكن كل الممارسين للعنف هم أفراد عاشوا في العنف أثناء طفولتهم، فهم كما يقول المتخصصون لا يقومون الا باستنساخ العنف الذي عانوا منه لحظة ضعفهم على من هم اليوم أضعف منهم، و أحيانا يمارسونه على أنفسهم. لسنا هنا بصدد تبريرظاهرتي العنف أو الإنتحار، و لكننا نحاول فقط فهمهما حتى يتسنا لنا تجنبهما مع إيجاد الحلول المناسبة لكل حالة. و هذا ما يمكن أن تقوم به جمعيات متخصصة في هذا المجال. 6- السجين والتواصل بالمراسلات: تبادل المراسلات كان له و مازال الدور الأساسي في التعبير عما يخلج داخل صدر كل إنسان. كم من فكرة يصعب التعبير عنها شفاهيا و مباشرة، فتجد الطريق معبداعن طريق القلم. تغيرت أساليب الكتابة مع تطور التقنيات، و كلنا في لحظة من اللحظات نشتاق إلى خط أسطر نود من الآخر مشاطرتنا مضامينها. السجين الذي يملك امكانية الكتابة و الراغب في التعبير عما يجول بخاطره قد يكتب أشياءا يود الخطاب بها شخصا آخر غير من يعرفهم و يعرفونه لثقل وطء ما يكتبه لما يخاله من حكم قيمي عليه من طرف الأسرة أو المجتمع. في فرنسا مثلا هناك جمعية تتكون من صحفيين و كتاب و أناس من الذين يحبون الكتابة و لهم ملكة التعبير السلس، أخذوا على أنفسهم مهمة التواصل عن طريق الكتابة مع سجناء يبادلونهم الأفكار. تبين للكثير منهم ما يملكه بعض السجناء من طاقات تعبيرية و أحاسيس كان للسجن وقعا في تدفقها. 7- السجين و العودة إلى المجتمع: كثير من السجناء يهابون وقت الخروج من السجن و العودة الى الحياة الطبيعية. كل من دخل السجن من غير السجناء يعبرون عن وقع السجن عليهم، فكيف بالذي عاش مرارة السجن، و العنف النفسي و ربما حتى الجسدي؟ كيف سيواجه المجتمع؟ هل سيتعامل معه مثل ما كان قبل أن يدخل السجن؟ هل سيجد عملا؟ ... أسئلة و غيرها قد يتكرر طرقها كالمطرقة ذهن السجين المرتقب إطلاق سراحه. فإن لم يجد لها أجوبة شافية يكون خروجه من السجن أكثر وقعا عليه سلبا من الدخول إليه. فتواجد جمعيات متخصصة تهيء السجين للخروج مع تهييء الظروف المواتية للعودة إلى الحياة الطبيعية. كثيرا من السجناء يعودون إلى السجن لعدم تمكنهم من العيش بشكل طبيعي خارجه. هذه بعض النمادج من التخصصات الجمعوية التي يمكن أن تعنى بالسجناء. إلا انه هناك تحديات قد تعيق انجاح مشاريعها. التحديات: من هذه التحديات يمكن أن نذكر ما يلي: 1- العامل الزمني: لا يمكن أن نتصور أن هذا النوع من الجمعيات يمكن تأسيسها بين عشية أو ضحاها. كل واحدة منها تحتاج إلى وقت كاف يمكن أصحابها من معرفة عالم السجن: مشاكله و محيطه. إلا أن هذا قد يهون إذا كانت للمؤسسة السجنية الرغبة في إنجاح هذا النوع من المشاريع. يبقى الأمل معقودا على وزارة السيد الحبيب الشوباني في تسهيل الأمر. 2- الكفاءات المتخصصة: كل جمعية من هذا النوع تحتاج إلى متخصصين متمكنين من مجالاتهم. فلا تكفي النوايا الصادقة و لا الرغبات الشخصية. 3- تشجيع الطاقات مع التسهيلات الإدارية: إن المتطوع المتخصص إذا اقتنع بضرورة مساهماته، فلا بد و أن يضحي بجزء من وقته، ربما على حساب راحته او أسرته. فإذا لم يجد التشجيع المعنوي من طرف كل الإدارات المعنية، فسيكون مغادرا لمجاله التطوعي بأسرع مما ولجه. 4- الضمانات الأمنية: عالم السجن ليس بالعالم السهل. دخوله لا يعتبر نزهة بجوار بحيرة محفوفة بشتى أنواع الزهور .... عالم السجن يبقى للجانب الأمني حظوره و وزنه. و هذا أمر قد يفهم إذا لم يكن ذلك على حساب الجانب القانوني و الحقوقي. لهذا لزم أخذ جميع الإحتياطات الأمنية بالنسبة للمتطوعين، لا من جهة قبولهم كمتطوعين أو في الحفاظ على سلامتهم بعد ذلك. تحديات أخرى قد تظهر حسب كل مجال، و تبعا للجهات الإدارية المعنية. إلا أنه لزم الآن و نحن في الظروف التي تعيشها السجون المغربية أن يتحمل كل معني بالأمر مسؤوليته في عدم التواني بالدفع بعجلة الإصلاح إلى الأمام، و خصوصا و قد حصل إجماع وطني على ضرورة إصلاح المنظومة السجنية، كما أن هناك رغبة حكومية بالأخذ بعين الجد هذا الموضوع. * رئيس اللجنة الوطنية للإرشاد الديني بالمؤسسات الحكومية بفرنسا (سابقا) مسؤول الإرشاد الديني بالسجون الفرنسية يهيئ حاليا رسالة الماجستير في علم الإجتماع حول موضوع "أهمية الإرشاد الديني الإسلامي في تنظيم و خلق توازن التدين داخل السجون الفرنسية"