"خيبة جاتنا راكبة جمل" مثل مصري قرأت بحزن شديد إحدى الحقائق الضائعة للزميل مصطفى العلوي، حين قال بحرقة بادية للعيان: "إن زمن الكتابة... قد ولى"، وهي نفس النغمة الحزينة التي كان الحكيم عبد الجبار السحيمي قد كتب بها إحدى مقالاته على صدر الصفحة الأولى من يومية "العلم".. بعد الهجوم الذي تعرض له مقاله المعنون ب" أما أنا، فلن أُحْلق لحيتي"، إذا لم تخني الذاكرة التي لا تصلح إلا للنسيان! حيث كتب: "لا تحاول أن تكتب... فالكتابة في بعض أزمان الهستيريا محفوفة بالمخاطر". راودني الحزن عن نفسي لأنني في العديد من المواقف، أصبحت أصاب بخيبة الكتابة، حتى ولو كان الأمر يتعلق بالبوح الممكن لا بالبوح المستحيل، خوفا من أن تترجم محاكم التفتيش مقالك في غير ما تريد، وتُحمل الكلمات شفرات سرية لمحاكمتك، في زمن التردي والغموض، دائما يسود الأدعياء الذين يلوون عنق كلماتك ليحملوها المعنى اليتيم الذي لم تقصده. كان أرسطو يقول: "حين تتكاثف الرداءة تتحول إلى قوة" تمتلك سلطة الحقيقة بوسائل غير شرعية، وكم امتلأت أجواؤنا بالرداءات في كل المجالات! إننا نعيش زمنا ملتبسا بامتياز، هل هو زمن العتمة حيث توقع كل المفاجآت السعيدة وغير السعيدة؟ هل هو زمن الخواء الفكري والإيديولوجي حيث يسود تبدل سوداوي لقيم وبنيات ومواقف وأفكار مجتمع بكامله؟ وفي كل زمن ملتبس تسود الهستيريا ويكثر تشابه البقر على الناس، وتصبح الحقيقة عزلاء، والناطق بها مغامرا غرا، لذا يتحول بقوة الأشياء إلى متهم مدان إلى أن تثبت براءته.. ولأن الكتابة انتصار لسلطة الحقيقة فهي في زمن التردي والغموض تغدو غريبة في موطنها كما الرسل محاطة بألف سهم مسموم وبعيون بندقية! في زمن الالتباس يصبح التافه من الأحداث، كما الأشخاص، محورا للتفكير الاستراتيجي، ويغشو الضباب الأعين ويحجب عنها رؤية الأسئلة الحقيقية، بحيث يكثر الدَّجالون ولاعبو فرق الصف الثالث والرابع، والمغتصبون لأحلام غيرهم، والمصابون بانكسارات أول منعطف الطريق نحو الحياة، والفاشلون الذين يحولون الهزائم إلى انتصارات من وهم أو خشب! أتذكر وأنا أعيش في بحر تلك الاستعارات الباذخة للدَّارجة، كيف كانت تُعَيِّرني جدتي كلما لم أقدم على عمل جيد أو جديد بشكل سليم: "حيَّد، ما بقات فيك مْعَاينة" (مْعَايْنَة.. تصغير للمعنى)، وبإشراق صوفي كان جدي، مثل الحكواتي، يقول لي: "ذُوق المعنى!" حاسة الذوق أول اتصال للإنسان بالعالم غير الملموس! أليس ما نفتقده اليوم هو غياب المعنى في الوجود، في السياسة، في الاقتصاد وفي التعليم…؟ شباب تائهون في المقاهي المنتشرة كالفطر يجترون اليومي الباهت، موظفون يعيشون على الفصام وهم منقسمون في دروب الحياة بين "الِميتْرو" البناء و"ليترو" الشراب، نساء منكسرات في أحلامهن معنفات بالرمز والقوة في هوياتهن، أطفال لم يعودوا قادرين على الضحك أو على اشتهاء لذائذ المستقبل، أحزاب سياسية بلا طَعم ولا ذوق مثل وجبة بائتة، نُخب تفقد خطاباتها وتحليلاتها لبذرة الرؤيا التي تخلق الفكرة وتدعم الحلم.. التافهون العابرون في تاريخ عابر يتسيدون في كل شيء... حالة التشابه والتماهي بين صباحاتنا ومساءاتنا، بين حكوماتنا القديمة وحكوماتنا الجديدة، صور شاشاتنا بهتت من الرداءة المتراكمة، كتابات مثقفينا لم تعد تثر شهية القراءة فينا، صحفنا أصبحت مملوءة بسواد القلب أكثر من سواد المداد، حد القرف.. إنه زمن الالتباس بامتياز، حيث يغيب المعنى ويظل وضع الستاتيكو محافظا على سكونه بشكل مطمئن! فاللهم الطف بنا فيما جرت به المقادير، وجنب بلدنا العزيز هذا الفراغ المهول في المعنى الذي لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الهباء، فحتى الطبيعة تخشى الفراغ.