اختارت مجموعتنا من الطلاب السودانيين الدراسة في كلية الحقوق شعبة العلوم السياسية، اعتقاداً منا ان الحصول على ديبلوم هذه الشعبة سيفتح المجال للعمل في وزارة الخارجية السودانية ، فقد كانت وظيفة الدبلوماسي من الوظائف المغرية . بيد ان المفارقة ان لا احد من تلك المجموعه إلتحق بالسلك الديبلوماسي بإستثناء الزميل عادل احمد شرفي ، اما البقية فقد تشتت بهم السبل . ورغم انني كنت أغوص في السياسة حتي أخمص قدمي فاني لم اساير المجموعة في إختيارها ، فقد قررت رفقة الزميل محمد عثمان الخليفة ان نلتحق بكلية الآداب لدراسة الأدب الانجليزي . ذهبنا الى الكلية، ذات صباح من تلك السنوات البعيدة ، ووجدناها كلية أنيقة نظيفة ومرتبة ، واعجبتنا تماماً وكان علينا إستكمال إجراءات التسجيل . قيل لنا لابد في البداية من إحضار رخصة من تكوين الاطر وموافقة وزارة الخارجية على إعتبار اننا اجانب ، وقد كان . بعد ذلك ، شرعنا في إعداد ملف التسجيل ، وكتبنا في خانة الشعبة: ادب انجليزي . لكن عندما سلمنا الملف لموظفة كانت مكلفة بالتسجيل أخبرتنا ان الشعبة تشترط لقبول اي طالب ان يكون قد درس الالمانية او الروسية في المرحلة الثانوية، ولمدة لا تقل عن ثلاث سنوات . من اين سنأتي إذن بهاتين اللغتين؟ ورغم محاولتنا إقناع تلك الموظفة اننا لا نحتاج للروسية او الالمانية ، فإن شروط التسجيل كانت واضحة ، إما لغة تكميلية او لا تسجيل . وهكذا لم يكن امامنا الا التسجيل في واحدة من الشعب الثلاث الاخرى : التاريخ والجغرافيا او الادب العربي او الفلسفة والاجتماع وعلم النفس مع دراسة اللغة الانجليزية كلغة تكميلية . وقع إختيارنا على شعبة الفلسفة والاجتماع وعلم النفس رغم اننا لم ندرس هذه المواد في المرحلة الثانوية . لعلها روح التحدي . بعد إستكمال إجراءات التسجيل في شعبة الفلسفة والاجتماع وعلم النفس طلب منا الإلتحاق فوراً بالدراسة فقد كنا في شهر نوفمبر(تشرين الثاني) والدراسة بدأت في شهر اكتوبر(تشرين الاول). سلم لنا جدول "إستعمال الزمن" وهو تعبير جديد على أسماعنا، وما أكثر التعابير الجديدة التي سمعناها آنذاك . كان فوجنا يضم في حدود 30 طالباً وطالبة جميعهم من المغاربة بإستثناء طالبة مصرية . رحب بنا زملاؤنا المغاربة ترحيباً حاراً لكنهم استغربوا كثيراً كيف يريد هذان السودانيان دراسة الفلسفة وهما لم يطلعا من قبل على جملة فلسفية واحدة . من الأساتذة الذين اتذكرهم الآن عبد الرازق الدواي وعبد السلام بومجديل وادريس الكتاني وخديجة المسدالي ورشدي فكار وابراهيم بوعلو وطه عبد الرحمان والطاهر واعزيز ونبيل الشهابي . اما عابد الجابري وعلي اومليل ومبارك ربيع فسندرس عليهم في السنوات اللاحقة . كانت دروس عبدالرزاق الدواي تركز على الفلسفة المادية وكان يبدو معجباً بالمادية الجدلية وفلاسفتها . اما عبد السلام بومجديل فقد تلقينا منه دروساً قيمة في الفلسفة الاسلامية ، خصوصاً مذاهب الشيعة والخوارج . وتركزت دروس ادريس الكتاني حول علم الاجتماع وكانت نزعته الاسلامية واضحة ، وكانت خديجة المسدالي تلقي علينا دروساً في علم الاجتماع الحديث ، في حين كانت دروس رشدي فكار التي يمزج فيها بين علم الاجتماع والفلسفة مثيرة للإهتمام وكانت محاضراته تحظى بإقبال منقطع النظير . والقى علينا ابراهيم بوعلو دروساً في مادة الاخلاق ، كان يتمشى داخل القاعة وهو يشرح الدرس ، ثم ينهيه بخلاصة مركزة . اما طه عبد الرحمان فقد درسنا المنطق وكان شغوفاً بالارقام يشرح دروسه على السبورة في صبر وتمهل . في حين كان الطاهر واعزيز يلقي علينا بصوته الخفيض دروساً في نظرية المعرفة . مادة صعبة وجافة، لكنه كان يبذل جهداً واضحاً في الشرح . اما نبيل الشهابي، بقامته المديدة وصوته القوي النبرات ، فقد كان محط اعجاب الجميع . القى علينا محاضرات قيمة في الفلسفة اليونانية ، والواقع انني شخصياً تأثرت به تأثراً كبيراً، لذلك كانت افضل النقاط التي حصلت عليها طوال دراستي في الكلية في مادة الفلسفة اليونانية ، وقد حبب الى نفسي تلك المادة خصوصاً الثورة الفكرية التي قام بها السفسطائيون في وجه العمالقة الثلاثة : سقراط وارسطو وافلاطون . بيد ان التأقلم مع الدروس والمحاضرات لم يكن أمره سهلاً ، فقد واجهتنا صعوبات كبيرة ، تتعلق في الاساس باننا كنا نتعلم مواد لم نسمع بها من قبل ، إضافة الى صعوبات اخرى. واجهتني عقبة كبيرة في بداية دراستي في شعبة الفلسفة ، تكمن في ان الاساتذة المغاربة كانوا أحياناً يخلطون الفصحى بالعامية. ومع التكيف مع مفردات العامية سواء في الكلية او مع الزملاء في الحي الجامعي او في التعامل اليومي مع الناس في الشارع، بدأت هذه المشكلة تتلاشى . لكن المعضلة الكبرى العويصة تمثلت في ان الاساتذة كانوا يستعملون احياناً تعابير فرنسية في شرح الدروس ، بل ان بعضهم كان يحاضر بلغة تتداخل فيها الفرنسية مع العربية تداخلاً كبيراً . كنا نلجأ للزملاء المغاربة ليشرحوا لنا، لكن المسألة باتت مزعجة ، اذ كانوا يفضلون بالطبع التركيز مع الاستاذ وهو يلقي دروسه ، وفي كثير من الاحيان يعتذرون عن الشرح . مشكلة اخرى تكمن في ان بعض المراجع المهمة في مكتبة الكلية كانت بالفرنسية ، ولا توجد مراجع بالانجليزية سوى الكتب الادبية التي تفي بحاجة طلاب شعبة الادب الانجليزي. اذن ، ما العمل؟ قررت رفقة زميل لي كان من أقرب افراد المجموعة الى نفسي ، يدعى محمد خالد ، وكان يدرس في كلية الحقوق ، ان ندرس اللغة الفرنسية في مدرسة تابعة للمركز الثقافي الفرنسي توجد في حي ديور الجامع في الرباط ، واظن انها ماتزال هناك. والمفارقة انني عندما اخبرت زملائي المغاربة بذلك ، كانوا يعتقدون ان إتقان الانجليزية يجعل دراستنا للفرنسية مضيعة للوقت ، على إعتبار ان الانجليزية هي اللغة العالمية الاولى. لكنني لم أكترث كثيراً لوجهة النظر هذه . حزمنا امرنا وذهبنا الى المدرسة الفرنسية لمتابعة دروس تكوينية في اللغة الفرنسية ، بيد اننا فوجئنا بمشكلة لم تكن في الحسبان ، فقد كان مطلوباً تسديد رسوم للدراسة . كان المبلغ في حدود 150 درهماً ، لكنه في تلك الايام كان يعد رقماً فلكياً . لم نكن قد تقاضينا حتى ذلك الوقت المنحة الدراسية التي تسلم كل ثلاثة اشهر، وكانت في حدود 1200 درهم ، وبالتالي تعذر علينا تدبير المبلغ . وهكذا تأجلت فكرة دراسة اللغة الفرنسية في انتظار صرف المنحة الدراسية. لكن، حتي لا نضيع الوقت اتفقنا مع احد الغابونيين على اعطائنا دروساً في الفرنسية على ان ندفع له تعويضاً عندما نتسلم المنحة . لم اعد اتذكر اسم ذلك الغابوني، رغم انني سألتقي به مجدداً وبعد سنوات في مبنى صحيفة "العلم"، فقد كان يعمل مصححاً في "لوبنيون" ولااعرف الآن اين طوحت به الظروف. كان يسكن آنذاك في شقة متواضعة في حي" ديور الجامع" نذهب عنده في المساء، ويخصص لنا ساعة ونصف، واحياناً ساعتين، ثلاث مرات في الاسبوع ، والواقع انه بذل جهداً طيباً، فبعد مضي فترة ليست طويلة استطعنا ان نركب بعض الجمل بالفرنسية ، كنا ننطقها بلكنة تضحك من يسمعها من المغاربة ، لكننا كنا سعداء باكتساب لغة جديدة . وقد شجعت تلك التجربة زملاء آخرين لدراسة اللغة الفرنسية . وعندما تسلمنا المنحة قرر عدد لا بأس به من زملائنا تسجيل انفسهم في المدرسة الفرنسية . كنت وزميلي محمد خالد نشعر بالتفوق على الآخرين، لان دروس ذلك الرفيق الغابوني مكنتنا من بعض التعابير الفرنسية . لم تستمر الدراسة في المدرسة الفرنسية طويلاً نظراً لضيق ذات اليد، فقد ارتأيت شراء دراجة نارية لاستعمالها في تنقلاتي ، وتلك كانت كذلك فكرة تراود زملاء آخرين من مجموعتنا. كان حي ديور الجامع يعج بمحلات بيع الدراجات النارية، ولم يكن شراء دراجة نارية امراً سهلاً ، فقد كانت المحلات تقدم تسهيلات الاداء للموظفين فقط طبقاً لشروط خاصة، اما إقراض الطلاب فقد كان صعباً للغاية، لكن رغم ذلك استطعنا إقناع احدى المحلات بيعنا دراجات نارية باقساط . اتذكر ان صاحب المحل إشترط ان ندفع ربع القيمة نقداً وما تبقي يقسم على اربعة اقساط وطلب كضمانة الاحتفاظ بجوازات سفرنا، وافقنا على الصفقة واشتريت شخصياً دراجة نارية كان سعرها في حدود 1300 درهم من نوع بيجو . كانت تلك اول مرة أقترض فيها . بعدها سيظل الإقتراض عادة تلازمني بلا إنقطاع : إقتراض من الاصدقاء ...إقتراض من المصارف... وإقتراض من شركات القرض، فقد اصبحت الحياة لا تحلو لنا الا بالإقتراض . أثقل ذلك القرض كاهلي وبالتالي اصبحت المنحة لا تكاد تكفي لمصاريف الاكل والسكن وبالطبع لمحروقات الدراجة النارية ، وهكذا أضطررت للإنقطاع عن دروس اللغة الفرنسية لعدم تمكني من تسديد مصاريف الدراسة على ضآلتها ، ولن أستأنف تلك الدروس الا بعد سنوات طويلة كانت خلالها الفرنسية التي تعلمناها من الرفيق الغابوني ودروس مدرسة ديور الجامع قد تبخرت . *** أعود مجدداً الى زملاء الدراسة في شعبة الفلسفة ، او بالاحرى الي الفوج الذي كنت ضمن طلابه . كان طلاب الفوج من جميع انحاء المغرب ، نظراً لعدم وجود كليات للآداب آنذاك باستثناء كلية الآداب في فاس . لقد غابت عني اسماؤهم، لكن ما زلت الذاكرة تختزن بعضاً من تلك الاسماء : ياسين من الدارالبيضاء ، اليزيد من طانطان ، حسن من القصر الكبير ، عبد الرحيم من بني ملال ، بوخبزة من تطوان ، محماد من اكادير ، المختاري من تازة ، نجية من الدارالبيضاء . هذه هي الاسماء التي ظلت عالقة بالذاكرة . كانت هناك مجموعة من اربعة طلاب من مراكش، لم اعد اتذكر اسماءهم ، لكن حيويتهم ومشاغباتهم ما تزال ماثلة . كانوا يجيئون من الحي جماعة يجلسون بجوار بعضهم بعضاً داخل القاعة ، يطلقون النكات وأحيانا يشاغبون شغباً بريئاً . اتذكر انهم كانوا اول من إبتدع ظاهرة التصفيق للأساتذة حين يكون الدرس ممتعاً . كان نبيل الشهابي الاكثر حظوة في هذا الجانب ، ما ان يدخل بقامته المديدة ، وحتي قبل ان يبدأ الدرس ، تدوي القاعة بالتصفيق . كانت الجامعة آنذاك تمور بالأفكار اليسارية ، لذا كان الاستاذ الذي يجاري تلك النزعة يجد قبولاً وترحيباً ، وعندما يأتي استاذ بافكار مغايرة تتعالى الهمهمات لتصل الى حد الاحتجاج احياناً . ثمة ظاهرة اخرى لفتت إنتباهي آنذاك ولم اجد لها تفسيراً واضحاً . كان هناك عدد من الاساتذة المشارقة ، اذكر من بينهم على سامي النشار ورشدي فكار ونبيل الشهابي وطه فرج ومحمد ايوب، وآخرين. كنا نسمع بعض الهمس حول ضيق بعض الاساتذة المغاربة من هؤلاء المشارقة . لم اكن اعرف على وجه الدقة مرد ذلك الضيق . ربما تعلق الامر بحساسيات سياسية وايديلوجية . والواقع اننا نأينا بأنفسنا عن تلك الحساسيات ، فنحن في السودان لا نعتبر انفسنا جزء من المشرق او المغرب ، نحن في الاطراف ننتمي الى الامة العربية في صيرورتها ، ولا نبحث عن ريادة . واعتقد ان ذلك التصور الذي كان يناسبنا تماماً جعل أمر إندماجنا في الوسط الطلابي المغربي مسألة سهلة . لم يقتصر حضوري آنذاك على محاضرات كلية الآداب ، فقد كنت اسمع من زملائي الذين اختاروا كلية الحقوق اصداء طيبة عن بعض اساتذتهم . لذلك، كنت حين اجد وقتاً اذهب معهم للاستماع الى محاضرات هؤلاء الاساتذة في كلية الحقوق . كانت بعض تلك المحاضرات تلقى في معهد المغرب الكبير غير بعيد عن الحي الجامعي مولاي اسماعيل ، ولا ادري ما اذا كان ذلك المبني الذي كان في الاساس يحمل اسم "المعهد المصري" ما يزال تابعا لكلية الحقوق. كنت احضر محاضرات الدكتور محمد البوزيدي في القانون الدستوري ، وفتح الله ولعلو في الاقتصاد وكان آنذاك متدفقاً متحمساً في محاضراته ، والمفارقة انني وبعد ان سلكت دروب الصحافة ظلت علاقتي مع ولعلو لا تتعدى تبادل تحيات فاترة ، ولا اعرف حتي الآن سبباً لذلك . كما كنت حريصاً على متابعة الدكتور رشدي فكار رغم انه كان يحاضرنا في شعبة الفلسفة ، ربما لان دروسه في كلية الحقوق كانت تناقش قضايا سياسية معاصرة . وحضرت مراراً محاضرات للدكتور صلاح الدين هارون في الاقتصاد ، ومازلت اتذكر واقعة طريفة حدثت له اثناء إلقائه درساً في معهد المغرب الكبير. كان الدكتور هارون يلقي محاضرة قيمة حول عالم الاقتصاد ورجل الدين مالتوس ، وربما بسبب الارتجال كان يلحن في بعض الجمل والكلمات ، ويخطئ في النحو والصرف .فتصدر همهمات احتجاج من الطلاب. تضايق الدكتور هارون من ذلك وخاطب الطلاب قائلاً : اذا كنتم تعتقدون بانكم سيبويه فاحملوا طباشيركم وغيروا لافتات العاصمة فقد مررت اليوم بعربة كتب عليها " نقل الألحام" بدلاً من نقل اللحوم . والواقع انني استفدت كثيراً من تلك المحاضرات ، الى حد راودتني فكرة الانتقال الى كلية الحقوق . واتذكر انني فاتحت الدكتور نبيل الشهاب بتلك الفكرة ، فسألني عن سبب اختياري لكلية الاداب وشعبة الفلسفة على وجه التحديد. قلت له انني كنت ارغب في دراسة الادب الانجليزي لكنهم اشترطوا إتقان احدى اللغتين اما الروسية او الالمانية كلغة تكميلية . كان جوابه ان من يختار دراسة الفلسفة يفترض ان تكون لديه اسئلة تشغل باله ويبحث لها عن اجوبة . قلت لها اخشى ان تكون العملية عكسية بالنسبة لي ، فانا لدي اجوبة ابحث لها عن أسئلة . [email protected]