هلال المجلس العلمي الأعلى: أفرد دستور فاتح يوليوز الفصل "41" للمجلس العلمي الأعلى، واعتبره "الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوى، بشأن المسائل المحالة عليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة."؛ والذي يستغرب له هو تواري هذه الهيئة وغيابها عن الساحة رغم ما أثير من قضايا تطلبت جوابا أو على الأقل توضيحا للرأي العام. فبعد البيان الأول للمجلس في شأن قروض اقتناء السكن ردا على فتوى للدكتور يوسف القرَضاوي يتهمه بالتدخل في شؤون بلد له علماؤه وفقهاؤه، وفي ذات البيان تعهد المجلس بإصدار فتوى لما تر النور، جاء البيان الثاني في شأن زواج ذات التسع سنوات مشحونا بلهجة هجومية على صاحب الرأي الذي اضطر للجوء إلى الديار السعودية، قبل أن تعيده رياح الربيع العربي لينافح عن الدستور وما يعد به من إصلاحات. وغداة الضجة حول الحرية الجنسية حيث سجل غياب تام للمؤسسة العلمية الرسمية، أطل المجلس العلمي الأعلى على المغاربة بفتوى تجيز للرياضيين المشاركين في الألعاب الأولمبية إفطار رمضان دون توضيح حيثيات الفتوى ومسوغاتها. أتساءل: ما الجدوى من هذه الفتوى ومن نشرها؟ وما دلالة سياقها؟ وما علاقتها بالنقاش المحتدم سنة بعد أخرى حول اعتزام البعض إفطار رمضان في العلن؟ ثم ما القيمة المضافة لوجود هيئة علمية عليا إذا كانت لا تواكب ما يستجد من قضايا درءاً للفتن وحسما لقضايا قد تهدد استقرار المجتمع وتماسكه؟ أم أن الغاية من إحداث المجلس هو قطع الطريق على أي اجتهاد لا يفتل في النهاية في حبل النظام؟ قبل جواز الإفطار: بعيدا عن تماسك العناصر والمسوغات التي انبنت عليها الفتوى التي تستحق تصنيفها بالتاريخية، وربما يستحق عليها المجلس العلمي ميدالية ذهبية، يبدو أن إجراء الدورة الأولمبية تزامنا مع شهر رمضان لا يخلو من استخفاف بمشاعر المسلمين غير مقصود. قد يقال: إن برمجة الدورة يتأسس على مجموعة من العوامل، منها البرامج الرياضية الدولية والقُطرية والتزامات شركات النقل الجوية و وشروط كبريات المجموعات الإنتاجية بصفتها راعية وممولة. لكن ذلك كله لا يوازي ثقل المسلمين الذين تجاوزوا المليار ونصف، أي أكثر من 23% من سكان العالم موزعين في مختلف القارات الخمس، يمثل العرب 20% فقط. والمسلمون بهذه الكثافة يمثلون سوقا ليس رياضيا فقط، بل سوقا تجاريا لما تُسَوقه الشركات العابرة للقارات التي ترعى مثل هذه التظاهرات الرياضية وتغنمها فرصة لإشهار منتوجاتها. والمسلمون من خلال الدول البترولية يسيطرون على سوق شركات الطيران عصب التظاهرات الرياضية، وهنا وجب التذكير أن لوبي شركات الطيران هو من رجح كفة جنوب إفريقيا لتنظيم كأس العالم على حساب المغرب. إذن، المسلمون على امتداد القارات يشكلون سوقا رياضيا وتجاريا، ويهيمنون على شركات النقل العالمية مثلما يهيمنون على المجال الفضائي للنقل التلفزي المباشر للألعاب، يجعلهم رقما مهما في نجاح تظاهرة من عيار الألعاب الأولمبية، ويسوغ برمجتها خارج شهر رمضان ضمانا لنجاحها على جميع الأصعدة، قد يكون الشق الرياضي أضعفها لتنافي شروط التنافس. سيصيب أمتي داء الأُمم: المسلمون بهذه المؤهلات لا يشكلون ضغطا على الهيئات الرياضية العالمية قصد تعديل برمجة الدورة الأولمبية، مثلما لا يشكلون بثرواتهم في زمن اختناق الاقتصاد العالمي ضغطا في المحافل الدولية من أجل انتزاع حقوقهم المشروعة. المسلمون اليوم كما في حديث القصعة غثاء كغثاء السيل. فعوض أن يحط رياضيو ورياضيات الدول الإسلامية الرحال في لندن بنية الإفطار لمجاراة الإيقاع الأولمبي المرتفع، كان الأولى أن تتقدم الاتحادات الأولمبية للبلدان الإسلامية بطلب برمجة الدورة خارج رمضان اعتبارا للمليار ونصف مسلم. لكن أنّى يتحقق ذلك والمسلمون في الأصل يرزحون تحت أنظمة سياسية جردتهم من هويتهم وشرذمتهم فرقا وشيعا، وأمعنت في بَلْقَنَتْهُم، فصار لرمضان أهلة في دول الجوار، وفي زمن الطرق السيارة للمعلومات. المسلمون اليوم كيان بلا روح، وعدد دون وزن، وحركة دون أثر، وصوت دون صدى. " فصميم الصميم في كياننا المعنوي مقتول. والجثة الغثائية لا يمكن أن تحيى وتفعل إن لم تعد إليها الروح بعودة الشورى والعدل. وهما ممتنعان ما لم نعالج العِلة الكامنَة في النخاع: الوهْنَ. وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بجماع الأدواء المتولدة من الوهن، الناشئة في أحضانه. قال عليه الصلاة والسلام: "سيصيب أمتي داء الأُمم". فقالوا: يا رسول الله! وما داء الأمم؟ قال: "الأَشَرُ والبطَر، والتكاثرُ والتناجُش في الدنيا، والتباغض والتحاسد، حتى يكونَ البَغْيُ". (أخرجه الحاكم بسند صحيح) البطَر خِفة تعتري الإنسان إذا طرأت عليه نعمة. قال علماء اللغة: "خفة". والأشَر مثل البَطَر زهوٌ فارغ. والتكاثر والتناجش في الدنيا مِثْلان، والتباغض والتحاسد صنوان. والبغي هو الهيكل المحلول المنقوض للأمة الغثاء، يلفها بسياط العض والجبر بينما يلفَعُها من داخلٍ البَطرُ وأخوهُ، والتّكاثر وحَمُوه، والتباغض وقرينه. وإن محاولة العلاج بالإصلاحات السياسية وحدها لَكَمَنْ يُبَيِّض واجهة مرضوضة منقوضة." عرس رياضي عالمي: ظلت الألعاب الأولمبية منذ إحداثها مجالا للتنافس الرياضي في مختلف الرياضات، تحول إلى صراع رياضي شرس بين المدارس الرياضية والنظم السياسية والاقتصادية؛ فلا عجب أن تهيمن الدول العظمى اقتصادا وتكنولوجيا على هذه الألعاب وتغنم الذهب والفضة تتويجا لما تبذل من جهود لإعداد الأبطال مرورا بتوفير البنيات اللازمة والتأهيل المطلوب، مع تسجيل لبعض حالات الاستثناء التي تسهم فيها الشروط الطبيعية والمجهودات الذاتية للأبطال: كينيا وجاميكا نموذجين. الألعاب الأولمبية والتظاهرات الرياضية العالمية عموما مؤشر على طبيعة النظام سياسة واقتصادا واجتماعا وأخلاقا وفنونا، وتجل للحكامة الراشدة والاحتكام إلى الشفافية في التدبير. إنها عرس رياضي عالمي تجني في دول نتائج عمل دؤوب، وتحضره وفود دول يسند لها دور "الكمبارس" لتضفي على الحدث صفة العالمية، تكشف حقيقة المسافة بين تدبير وارتجال، بين مشروع يخطط للتفوق وتدبير "يبرع" في تصريف الأزمات والالتفاف على المطالب الشعبية، بين مشاركة فاعلة تسويقا لنموذج ومشاركة لتسجيل الحضور فقط، فلا رمضان صاموا، ولا ميداليات أحرزوا. ويبقى "الإنجاز" من عيار رقم قياسي هو استفاقة المجلس العلمي الأعلى بعد طول رقاد ليجيز للرياضيين الأولمبيين وربما بعد ثلاث سنوات لمجتازي امتحانات الباكالوريا إفطار رمضان، على أن يكون القضاء قبل رمضان القابل. وكل ألعاب أولمبية ونحن معشر المسلمين بألف خير. [email protected]