بسم الله الرحمن الرحيم إن أسوا ما جنته بعض مدارس التفكير السياسي والفلسفي على الإنسان هو جعله مسلوب الإرادة إزاء ضروب من الحتميات: 1."جبرية دينية" سعى المستبدون إلى إشاعتها وتكريسها ليحولوا بين الناس وبين المطالبة بحقوقهم المشروعة،وليُلَبِّسوا على الناس دينهم بالترويج لمعان خاطئة لمفهوم "القضاء والقدر":فتسلطهم على رقاب الناس وحرمانهم من اختيار الحاكم قضاء وقدر،وقطف رؤوس المعارضين وتعذيبهم والتنكيل بهم قضاء وقدر،واحتواش الأموال واحتكار الامتيازات قضاء وقدر،واليوم عندما يطالب الشباب الحامل للشهادات العليا بحقه في الشغل يقال له "الرزق على الله"،كلمة حق يراد بها باطل،"الرزق على الله" هذا قصد كوني،والقصد التشريعي يطلب العدل في قسمة الأرزاق،وإنه لتلبيس ما وراءه تلبيس أن يقال "الرزق على الله" بدون أدنى إشارة إلى اللصوص والمفترسين وناهبي المال العام ومحتكري الثروة الوطنية وأرزاق العباد،وإنه لصنيع ما هو بجديد في تاريخ السياسة المالية،جاء الأحنف بن قيس الى معاوية وقال :أعطونا من مال الله فقال له معاوية انما هو مال الله في خزائن الله. فرد عليه الأحنف بقوله: ما سألناك عن مال الله الذي في خزائنه وإنما نسألك عن مال الله الذي أخذت انت ووضعته في خزائنك!! 2."حتمية مادية" تخضع الإنسان في تفكيره ومسلكياته للبناء التحتي(الاقتصاد) على نحو يصير بمثابة ترس في آلة تدار فيدور،ولا يمكن بتاتا إنكار أثر المادة والاقتصاد في تشكيل وعي الناس وتصوراتهم،والمستنكر هو اعتبار"المادة" عاملا أحاديا في حضارات وتاريخ الأمم،والمعروف هو تظافر العوامل المتعددة والمختلفة. 3."حتمية جنسية" ينزع من يفسر بها وحدها سلوك الإنسان إلى اعتبار الجنس أول ما يفتح عليه الإنسان عينيه عند خروجه إلى هذه الدنيا،وتتطور معه غريزته فتحدد أشكال العلاقة مع أقرب الأقربين إليه أمه وأبيه،وإنه لم يبق من الحمق شيئا من يروم طمس وطمر الرغبات الجنسية لدى الإنسان،إلا أن الحاجة ماسة إلى وضع ضوابط محددة لأننا نعيش في مجتمع ولا نعيش في غابة،ضوابط تحترم الخصوصية (فضيلة الستر)،وتنظم الفضاء العام،وهنا يتم اللجوء إلى الترسيم القانوني،والشريعة جوهرها هو فكرة القانون،من غير أن نتحرج في الحكم على سذاجة الرأي الذي يختزل الشريعة في أحكام الحدود لأن تلك الأحكام إذا لم تجد ذمما راضية ومؤمنة بها على نطاق واسع فإنها تتحول إلى ترسانة من القوانين القمعية،ويرتبط بتنظيم الفضاء العام ما يسمى بمفهوم"المجاهرة" ففي القرآن الكريم ورد النص على عقوبة "الزنا" أي ممارسة الجنس خارج إطار الزواج،واشترط لإيقاع العقوبة توفر أربعة شهود شاهدوا العملية بكيفية واضحة (الإيلاج) ولا يكفي مجرد رؤية الرجل والمرأة عاريين،مما يجعل من الصعب توفر أربعة شهود إلا إذا حدثث واقعة "الزنا" في الشارع العام،وإن شهد ثلاثة فقط فإنهم سيعاقبون لأنهم أتوا جريمة لا تقل عن"الزنا" جرما وهي "قذف الأعراض" وتشويه سمعة الناس،مما يعني أن الخصوصية محفوظة بالشرع بدون الحاجة إلى الإحالة على "المرجعية الكونية"،وفي الحديث "كل أمتي معافى إلا المجاهرون" المجاهرون بالسلوك الجنسي المنحرف أو بالدعوة إليه عبر وسائل الإعلام المختلفة،لكن ليس صحيحا اللجوء إلى لغة التكفير واستحلال الدم للتعامل مع الداعين كلا،والأجدى هو المطالبة بتكافؤ الفرص أمام الجميع ليقدم كل أحد تصوره للمسائل،والحكم هو الشعب إما عبر استفتاءات شعبية بعد القيام بحملات توعية واسعة بلا قمع أو إكراه. إن التورط في محاربة البديهيات نكاية في الإسلاميين مسلك طفولي تنطمس معه الحقائق تحت غشاء التفكير الانفعالي،أو هو سعي للتخلص من الإحساس بالذنب عبر توسيع قاعدة "المذنبين" و"المحسين بالذنب" وأولئك وهؤلاء لهم نصيب من رحمة الله الواسعة التي تتجاوز عن العباد،ففرق بين من يسلم بالحقائق والحدود الشرعية والضوابط الأخلاقية لكنه في لحظة ضعف إما لِهَمِّ رزق يُنغِّص عليه معيشته " كاد الفقر أن يكون كفرا"،وحيثما كان الفقر تفاقمت الفحشاء كما قال الباري جل وعلا "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء"،، وإما لجهل وقلة اطلاع وتجربة،وكم هو كثير عدد هؤلاء الممارسين"لحريتهم الجنسية" بدون سبق إصرار وترصد،ومن الظلم الفاحش أن يَسِمهم أحد بالنفاق،أو يكفرهم فهذا مسلك الخوارج الذين يكفرون بالذنوب. وبين صنف آخر يفلسف المعصية ويُقعِّدها،ويطالب بالترسيم القانوني لها ضدا على الواقع السوسيو ثقافي للمجتمع،ولا نجد الوقت الكافي لنذكره بمصائب "السيدا" والأبناء غير الشرعيين،والتفكك الأسري وغير ذلك،وهنيئا للمخزن أن وجد من يخفف عنه ضغوط المطالبة بإسقاط الفساد والاستبداد وفضائح افتراس الثروة الوطنية عبر خلق قضايا وهمية تحرف النقاش عن مساره الحقيقي. إن التربية على المحبة تسع الناس كلهم عصاتَهم ومطيعيهم دون أن يعني ذلك السقوط في لغة انهزامية تتحرج من تبيان المعروف والمنكر والحلال والحرام،من غير تجهم ولا اكفهرار،فحتى في العهد النبوي تلبس بعض الناس بالمعصية إلا أن طرق المعالجة كانت تختلف وتعتمد أكثر شيء على غرس الرقابة الذاتية المنبعثة من استشعار رقابة الله سبحانه وتعالى قبل رقابة القانون والأجهزة الأمنية،ولقد جيء إلى رسول الله صلى الله عليه مرارا برجل عاقر الخمر فأوسعه بعض الناس لعنا فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:"دعوه فإنه يحب الله ورسوله"،فالمعاصي لا تخرج صاحبها من الإيمان،ولكن الذي يفلسف المعصية ويسهل سبلها للناس هو الذي على خطر عظيم. إن المطلوب هو إشاعة ثقافة المناعة لا المنع،وهي ثقافة من شأنها أن تولد حساسية في الضمير وشفافية في الشعور لدى الرجل والمرأة كما حدث لماعز والغامدية،فماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني قد ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تُطهرني. فرده. فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول الله! إني قد زنيت. فرده الثانية. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه فقال (أتعلمون بعقله بأسا تنكرون منه شيئا؟) فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل. من صالحينا.فيما نرى. فأتاه الثالثة. فأرسل إليهم أيضا فسأل عنه فأخبروه: أنه لا بأس به ولا بعقله. فلما كان الرابعة أقام عليه العقوبة، أما الغامدية فجاءت أيضا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني قد زنيت فطهرني. وإنه ردها. فلما كان الغد قالت: يا رسول الله! لم تردني؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزا. فوالله! إني لحبلى. قال(إما لا، فاذهبي حتى تلدي)، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة. قالت: هذا قد ولدته. قال (اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه)،فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز. فقالت: هذا، يا نبي الله! قد فطمته، وقد أكل الطعام.فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين. ثم أمر بها فأقيمت عليها العقوبة،فالمرأة والرجل لم يرهما ولم يتسور عليهما الحائط أو يقتحم عليهما الغرفة أحد، فكان بإمكانهما الانصراف لحال سبيلهما،والتمس رسول الله صلى الله عليه وسلم المخارج والمعاذير لدفع العقوبة عنهما بدون جدوى ،فماعز والغامدية قبلا بالقانون لهما أو عليهما،في المنشط والمكره. لو انحصرت هموم شبان وشابات ساحات التغيير في تونس ومصر وليبيا في نصفهم الأسفل لما صنعوا ثورة ولما رموا بالمستبدين في مزابل التاريخ،ولما ضربوا أروع مثال لما يمكن أن تكون عليه العلاقة بين الجنسين حين اشتركوا في الوقوف على أرضية واحدة،وفي اقتسام رغيف الخبز،ولم يثنهم عن مرادهم لا "جبرية دينية" ولا "حتمية مادية" ولا "حتمية جنسية" فلا تحرش،ولا نظرات خائنة ،ولم يسجل ولو حدث واحد لاعتداء على شرف أو عرض،ولم يلتفتوا لمكر صالح عندما طلب فتوى العلماء في الاعتصامات التي يختلط فيها الرجال بالنساء،لم يتصرف أي رجل وأية امرأة بمنطق النهزة والفرصة،فلقد كانوا في ساحة الثورة كأنهم في ساحة المحشر إذ الأمر أكبر من أن ينظر بعضهم إلى بعض،ورحم الله أمنا عائشة رضي الله عنها لما أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الناس يحشرون حفاة عراة فقالت:يا رسول الله نحشر عراة ينظر بعضنا إلى بعض،فقال لها عليه الصلاة والسلام:" "يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض" ،وما يفهم الذين يدعون إلى "حرية جنسية" بدون ضوابط من الإسلام إلا ما يفهمه ذوو العقلية البوليسية الشرطية للتفتيش عن عقائد الناس وسلوكياتهم.