يعرف الفضاء الثقافي في المغرب فراغا كبيرا في البحوث التي تميط اللثام عن الإيديولوجية الدينية الرسمية كما تبلورت عبر زمنها الثقافي المستطيل، و لعل مرد ذلك على العموم إلى تفشي النمط التقليدي الكلاسيكي في الكتابة التاريخية رغم مضارها و مخاطرها على الفكر، إنها كتابة تقليدية و محافظة من وجهين : أولها اعتماد نفس الوثائق التي كانت سائدة في الماضي، و هكذا فالأراخ – و هو غير المؤرخ- يحكم على نفسه بأن يظل حبيس الرؤية النمطية التي أطرت الأراخين و القصاصين في الماضي، إننا إن أردنا أن نقتبس مفهوما يعبر عن حركة هذا "الفكر التاريخي" من موروثنا الثقافي، فسيكون مفهوم "حركة اعتماد" يعبر تماما عن طبيعة ديناميته، إنها حركة لكنها لا تبرح موضعها، ارتداد و اهتزاز مستمر في نفس النقطة. الوجه الثاني : ارتباط الأراخ بالنظام، ما يعني انحيازه السافر لإيديولوجية الدولة و إهمال الحفر التاريخي فيها من أجل استنباط تاريخيتها، و بالتالي إمكانية التجاوز و التجديد، و بالفعل فإن الغاية من تحنيط الإيديولوجية الدينية الرسمية و عدم السماح لها بالتحلل الطبيعي هي الحفاظ على بريقها و الإيهام بتعاليها عن الزمان و المكان، و على هذا الاعتبار يتراءى للناظر كأن المغاربة كانوا في الماضي مالكيين (في الفقه) –على سبيل المثال- بالقوة قبل أن يصيروا كذلك بالفعل، نقصد هنا ب "بالقوة" و "بالفعل" دلالتها الفلسفية. إن إنجاز مشروع الحفر الأركيولوجي و التنقيب في الإيديولوجية الدينية الرسمية في البلاد و الإلمام بالملابسات السياسية و الاجتماعية و الأنتروبولوجية التي كانت وراء تشكلها على هذه الصيغة دون الأخرى رهين بالانعتاق من السياج الذي يحيط بالآليات الفكرية و ترسانة المؤرخ المنهجية، و هذا يحتاج كذلك إلى "تجديد الذهنية" كما يقول العروي، هذا التجديد يجب أن يمس مستويات عدة و يخترق الفكرالماضوي و ينازله في أرضه، و أهم محددات الفكر التاريخي المعاصر تتبع و مسايرة تاريخ الكتابة التاريخية و صناعة المؤرخ، و الانفتاح على درس الأسطوغرافيا، أي الوقوف على أهم الطفرات التي أصابت الكيان التاريخي و التغيرات الطارئة على مناهج الكتابة التاريخية. إن هذه الخطوة المهمة ترمي إحداث قطيعة تامة مع ذلك الأسلوب الجامد و الممل لأراخينا الذي يعتمد الوصف و السرد الساذج لمجريات الأحداث ( يركز الأراخ عادة على وصف أحداث المعارك، و بناء القصور، و إقامة الحفلات..). ثم اعتماد نتائج الأبحاث الأركيولوجية التي حققت نتائج باهرة في الدول التي اعتنت بها و تمرنت على توظيفها، و هنا لا بد أن نستدرك شيئا ما على عبد الله العروي، لقد تحدث هذا الأخير في رؤيته لتجديد التاريخ عن ضرورة اعتماد نتائج الأبحاث الأركيولوجية، مقتصرا على حفر المواقع الجغرافية، و في الحقيقة فإن المدرسة البنيوية استعارت هذا العلم و وظفته بعد أن صاغت أدوات فكرية خاصة بها للحفر في عالم الأفكار، صحيح أن صاحب "حفريات المعرفة" الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو" كان ينتقي في حفرياته الوثائق التي تؤسس لانعطاف فكري في مجتمع معين، إلا أننا نقصد بالحفر، تفكيك المفاهيم و البحث عن جذورها التاريخية للوقوف على جملة التغييرات الطارئة عليها، و قد لا يخفى على الناظر ما لهذا العمل من فوائد جمة على صحة الفكر التاريخي. إن ما نحن في أمس الحاجة إليه ليس السرد و الوصف، فهذا العمل قد أنجز مرارا و تكرارا، لقد كان دور الأراخ في الماضي استيعاب مضمون الوثيقة و استخراج أقصى ما يمكن استخراجه من معلومات انطلاقا من وثيقة يتعامل معها من غير نظر عقلي أو تسطير لخظوات منهجية، أما المؤرخ الآن فيرى حزمة الأدوات المنهجية و الآلية التي يمتلكها بمنظار آخر، و إن كانت الأدوات هي هي لدى المؤرخ المعاصر و الأراخ، لكن الفرق حضور الحس النقدي لدى المؤرخ و غيابه عند الأراخ، "النقد عنده ليس الفهم و التحقيق، المقارنة و الترتيب، [إن] النقد عنده داخل في ابستمولوجيا عامة، تعنى بجدل الناظر و المنظور، في أي علم و على أي مستوى. لا يكتفي المؤرخ المعاصر بالقول هذه الوثيقة مزورة، بل يقول للتزوير دلالة، و للوثيقة المزورة دلالة، و إن كانت غير، قيمة الوثيقة الصحيحة" (1). إن الأراخ ألغى التحليل المنهجي و غلب الجانب السردي و الإطناب في ذكر المعلومات التاريخية، و قد كانت النتيجة تضارب كبير في الروايات التاريخية بالنظر إلى غياب قاعدة نظرية تؤطر عمله، أما المؤرخ فتكاد تكون كتاباته مندرجة في فلسفة التاريخ في حقبتها الثانية ( أي النظر في الآلات، بعد أن كانت في حقبتها الأولى نظر في المسار التاريخي)، لقد ابتعد المؤرخ عن الأدب و اقترب من زملائه السوسيولوجيين الفلاسفة. تجديد الذهنية، تأسيس مدرسة وطنية للحفريات، و توسيع مستوى التعرف على الإلكترونيات، تلك أهم شروط هذه اليقظة التاريخية عند عبد الله العروي. و يبدو من خلالها أن تحقيق هذه اليقظة يندرج ضمن مشروع تحديث المجتمع العربي ككل، و تجديد العقل العربي حتى يستوعب إكراهات الحاضر بعيدا عن أحلام يقظته، و قبل ذلك كنس ركام الماضي المتهاوي، و إلا كان البناء مهلهلا و البضاعة مزجاة، و انتشرت القراءات التلفيقية التي ينطبق عليها الوصف "لا إلى هؤلاء.. و لا إلى هؤلاء". في البدء كان سؤال الإسلام.. من القضايا التي يجب أن نعمل فيها معاول الحفر و نحاول أن نغوص في عمقها، قضية اعتناق المغاربة للدين الإسلامي و ثباتهم عليه دون غيره من الأديان السابقة أو اللاحقة، إن الموقع الجغرافي للمغرب يجعله دائما ممر عبور الديانات و الإيديولوجيات، و مع ذلك استطاع الدين الإسلامي أن "يمسح الطاولة" نسبيا، و إن كانت الأديان كما يقر علماء الأنتروبولوجيا لا تندثر و تتلاشى عقائدها، بل قد تعلق بدين جديد في حلة جديدة. إن السؤال كان استشراقيا في البدء، و قدمت له أجوبة تنم عن رؤية استعلائية للإنسان الأبيض "سوبر مان"، و عن رغبته في تحقيق مركزيته و إثبات ذاته، بالضبط كما حاول أن يشكك من المنطلق نفسه في صفاء الشريعة الإسلامية و أصالة قانونها، لقد رأى المستشرقون أن القانون الإسلامي ليس سوى امتدادا للقانون الروماني، و تحدثوا عن أسلمة "القانون الروماني" و الأصل الروماني للشريعة. لا يهمنا الآن أن الخوض في هذه الإشكالية التي كتبت فيها كتب و مقالات و بحوث مستفيضة (2)، و إنما القصد الوقوف على محركات الاستشراق و مستفزاته الفكرية التي حملته كذلك على طرح سؤال بقاء الإسلام و اندراس المسيحية، لقد كانت نبرة السؤال توحي بعلوق غصة في حناجرهم و هم يرون انتشار الدين الإسلامي في شمال إفريقيا و لم يبق من الحضارة الرومانية إلا بعض الأطلال المتآكلة. لهذا جاء الجواب مفتقرا للعمق الكافي بسبب هذه المسحة العاطفية الذاتية التي تخللت السؤال، من مثل تبرير الانسجام و الوفاق التام بين العرب و المغاربة بأصلهما البدوي، فرفض المغاربة للذوبان في حضارة الرومان تعبير عن موقف مبدئي من التمدن و التحضر و الخروج عما كان مألوفا في حياته البدوية الساذجة. ليس هذا فحسب، بل إن أي تطور حاصل في المغرب و الشمال الإفريقي ككل مرده إلى البذور التي نثرها المحتل الروماني، فثورة المغاربة على الولاة الأمويين لم يكن الفكر الخارجي المشرقي السلاح الإيديولوجي الذي عبئت به الثورة، بل إنما تجد سندها في الثورة الدوناتية، و أن ثورة المغاربة نسخة طبق الأصل للثورة الدوناتية (3). إننا هنا لا نطمح من هذا المقال الموجز تقديم جواب شاف و كاف للاسباب التي دعت إلى قبول دين العرب، فهذا يحتاج إلى تضافر جهود من مختلف شعاب المعرفة الإنسانية، على أن الموضوعية تملي علينا عدم التساهل في السماح لإشكاليات الحاضر في توجيه رؤانا للماضي حتى لا نضر بالحقيقة التاريخية، و قد وقع علال الفاسي في فخ أدلجة التاريخ عندما انبرى لتقديم تفسيرات لقبول المغاربة للدين الإسلامي و تعايشهم مع العرب، مهملا ما قد يكون يشكل نقيض أدلته، إن لجواب علال الفاسي فعلا وجاهة علمية إذ استحضر جملة معايير نفسية و جعرافية و أنتربولوجية ساهمت في دمج الحضارتين المغربية و العربية، لكن في اعتقادي ما كان الجواب ليصاغ على ذلك النحو لولا هموم الحاضر المغربي التي عايشها علال الفاسي، إنه لم يطرق السؤال من أجل الإلمام بالماضي، و الماضي فقط، بل كان منخرطا و هو ينقب في الماضي في إشكالاته الراهنة متمثلة في التحرر من قبضة الاستعمار، لقد كان الجواب نوعا من البحث عن المشروعية لرفض المستعمر، بالضبط كما بحث التاريخ الكولونيالي عن مبررات لبسط سيطرته على المغرب، و هذا معروف في كتابات "ستيفن كازيل" مثلا. حاول علال الفاسي امتطاء هذا السؤال ليقدم العبرة من التاريخ، تلك العبرة التي يختزلها في رفض المغاربة لكل دخيل آت من وراء البحر، يقول علال الفاسي " إذا نحن نظرنا للبلاد المغربية نجدها لا تتصل برا إلا عن طريق الصحراء الواسعة التي تربطها بالشرق الأوسط و بمهابط الوحي الإلهي في الأراضي المقدسة، و نجد سلسلة الجبال الأطلسية تحيط بها في شكل منطقة فتقويها على الثبات في كيانها المنعزل عما وراء البحر، و لكنها في الوقت نفسه تمنحها المناعة المتينة التي تحبب إلى روحها الحرية و الكفاح ضد كل معتد عليها بينما تعطيها البحار المحدقة بها عمق المحيط و سذاجة المتوسط، و تصل بها الأرض إلى الصحاري الكبرى التي تعكس عن باطنها أشعة الوحي و سعة القلب و رقة الإيمان" (4). قاموس نضالي واضح يفوح من هذا المقتطف، ف "الكفاح" و "المناعة" موجهة ضد الاستعمار الغربي و سلفه الروماني، أما "الاتحاد" و "الانفتاح" و "الاندماج" فمع ما يرد المغرب من طريق البر و يعبر الصحاري، و منه فقط يستلهم المغربي قيمه و نموذجه النفسي، لأنه يعبر عن نفس اختيارات الإنسان المغربي، و طبائع المغاربة لا تلتقي إلا مع الوافد الصحراوي المشرقي، يقول علال الفاسي موضحا هذه الفكرة : "هذه الطبيعة الأرضية المغربية لم تستطع أن تجد النموذج النفسي الذي يمكن أن تتحد معه إلا في المثل العليا التي وردت عليها عن طريق البر (...) و على العكس منهم فإن الذين وردوا للمغرب من وراء البحر لم يقدروا على أن يتعمقوا في النفس المغربية أو يغرسوا في دواخلها حضارتهم و مدنياتتهم في بلاد المغرب العربي" (5)، و لأن الإسلام مما ورد من طريق البر مشعا من مهابط الوحي فقد تفاعل المغاربة إيجابا معه و قبلوه كدين رسمي. جواب ألبس ثوبا علميا جذابا، إذ يقر بتأثير الجغرافيا في النفس، و الروابط العميقة التي تصل حضارات تستوطن بساطا ممتدا لا بفصله البحر، لكنه لا يختلف في قيمته الموضوعية عن التاريخ الكولونيالي الذي يصم المغاربة ب "التوحش و "الهمجية" و "البداوة"، ليعفي نفسه من ضراوة البحث و الضرب في جذور الأسباب الكامنة وراء رفض الانصهار في بوثقة "الرومنة"، و في المقابل احتضان الإسلام و العض عليه بالنواجد. الفقه المالكي والتصوف.. كان المغرب قبل أن يتخذ مالكا كمرجعية فقهية يتبني مذهب الإمام الأوزاعي، و هو فقيه و محدث من بلاد الشام، و يمكن تفسير انتشار هذا المذهب الأوزاعي في المغرب بوفود الفاتحين العرب الأوائل تحت راية الدولة الأموية التي كان مقرها بلاد الشام، و لهذا عمل الفاتحون على نشر فقه إمامهم، و الملاحظة الأولى التي تنط للأذهان بعد عقد مقارنة بين الفقهين المالكي و الأوزاعي، هي التشابه شبه التام بينهما، فهما معا يعتمدان الرواية و النقل و الفقه الظاهري المستخلص من النصوص الدينية بتوسل الفهم المباشر القائم على اعتبار الدلالات اللغوية للألفاظ دون الإغراق في التأويل أو تنصيب العقل كمرجح بين "الحسن" و "القبيح"، فكيف حدث هذا التحول الفقهي، و أي ظروف أحاطت به؟ لقد تعرض البعض لهذا السؤال، فرأى أن اختيار مالك راجع إلى أسباب ذاتية في شخصيته، فمالك يتمتع بقدرات كفائية بشهادة حديث نبوي لم نقف على درجة صحته، ثم سعة مذهبه و كثرة أصوله و قواعده و مرونته باستناده إلى ما يسمى "مصالح مرسلة". قد تكون هذه المبررات لاختيار المغاربة للفقه المالكي وجيهة و معتبرة، لكنها في الحقيقة تغفل عن إحدى أهم خصوصيات الفكر الديني في الماضي، و هي التباسها بملابسات سياسية، و نيابته عنها في خوض صراع فوقي يخفي حقيقة الصراع التحتي المحتدم للحفاظ على السلطة، إنه صراع سياسي ألقى بإشعاعاته على الجانب الإيديولوجي و المنهجي للفكر. إن التحليل الذي يقيم جسرا يصل الديني بالسياسي في مسألة تبني المغاربة للفقه المالكي يسمح بتشكيل صورة أكثر صفاء من تلك التي تقف فقط عند ظاهر خصوصيات الفقه المالكي، دون أن تقرأ المشهد العام و خريطة انتشار المذاهب على طول العالم الإسلامي، بل و تتلمس مطبات الانتقال من "الأوزاعي" إلى "مالك" و الإشكالية التي يطرحها استبدال فقه بفقه أشبه به من الماء بالماء، لنلق إذا لمحة على الخارطة السياسية للعالم الإسلامي و ما رافق الانقلابات السياسية من قلب إيديولوجي كذلك. بعد سقوط الخلافة الأموية و قيام دولة بني العباس في المشرق، و انتقال الخلافة الأموية إلى الأندلس، نشبت صراعات سياسية طعمت بتسويق ايديولوجيات مختلفة في كل من المشرق و المغرب، لقد قرب العباسيون المعتزلة و ترجموا كتب الفلسفة، أما في الفقه فتبعا للتوجهات العقلانية للدولة العباسية اختاروا فقه أبي حنيفة، لأنه أكثر المذاهب مرونة و قولا بالرأي و الاستحسان و الابتعاد عن الجمود على حرفية الدلالة، و من هنا في إطار الصراع الايديولوجي الذي نبهنا عليه و تكريسا لمظاهر المغايرة الفكرية بين الدولتين، و عملا على حفظ الداخل بتحصينه من رياح التيارات التي قد تهب من المشرق و تعصف بالمغرب، كان تكريس خلاف إبستمولوجي داخل منظومة فكرية واحدة مطلبا ملحا، ففي مقابل عقلانية أبي حنيفة، ساد في المغرب مذهب مالكي نصي تميز بالتشدد. و ليس هذا فحسب، بل كان لاختيار مالك مغزى سياسيا عميقا، فهذا الفقيه كان يشكل المعارضة بالنسبة لدولة العباسيين، و بالتالي فهو "حليف" الأمويين إن صح لنا هذا التعبير (6)، قد يشكك البعض في قيمة الفكر في تحصين الدولة، و في الحقيقة هذا التشكيكات غير ذات موضوع، فالكل يدرك أن دولة العباسيين مثلا عبأت الجماهير بركوب حب آل البيت و مشايعتهم و رد الاعتبار إليهم ضدا على الظلم الذي لحقهم من الأمويين، و معارضة أيديولوجيا الجبر.. على ضوء هذه الحقائق التي تبدو لنا ساطعة يتبين أن عزل الفكر الديني عن الخلافات السياسية يخل بالمعرفة التاريخية، فمالك لم يكن قدرا محتما على المغاربة، و إنما أسس لخصوصية مغربية أملتها اعتبارات سياسية بالدرجة الأولى، و المزايدة بالمذهب المالكي أسطورة تنم عن سطحية في التفكير و غياب أدنى مقومات الوعي التاريخي اليقظ، بل و عدم فهم لمذهب مالك نفسه الذي ذم المذهبية و التعصب للرجال. الآن يطل علينا سؤال آخر بوجهه، ما الذي قاد المغاربة لدروب و مسالك الصوفية، هل من علاقة بين فقه مالك و التصوف، هل من تلازم بينهما؟ أم أن ذات صدفة عابرة وجد المغاربة أنفسهم مولعين بصحو و محو و بتزكية العمل.. لابد من عبور قنطرة التعريف بمحور الصوفية و موضوعه و مقارنته بمنهج مالك من أجل إدراك بذور هذا التعايش بين فقه و سلوك. لقد عرف فقه مالك باسم مذهب أهل المدينة، و هنا تظهر ميزة مذهب مالك، فهو يراقب العمل و السلوك، و يعتني بتزكية العمل من خلال الاقتداء بالصالحين من التابعين الذين تصل سلسلتهم في الاقتداء إلى الرسول صلى الله عليه و سلم، و هذا لا يدعونا إلى تجريد مالك من الاعتناء بالجانب النظري و الروائي كما ساد في الأدبيات الصوفية فيما بعد، فمالك محدث قبل أن يكون متصوفا، و لكنه كان حريصا على التحقق العملي مما يروى، و لا قيمة عنده بعلم لا ينتفع به عمليا، لهذا قال مالك لتلامذته و هو يقدم لهم عصارة منهجه "تحفظون و تفهمون حتى تستنير قلوبكم ثم لا تحتاجون إلى الكتابة"، و بهذا الاعتبار يكون المذهب المالكي بمنهجه القائم على التطبيق العملي للمرويات و مراقبة السلوك صنو موضوع التصوف الذي ليس سوى ملاحظة للعمل و محاسبة النفس و تزكية الخلق، أي أن محورهما معا هو العمل و الأخلاق. لهذا يقول طه عبد الرحمن "المالكية إن صح لنا هذا التعبير تفرز التصوف كما تفرز الغدة مادتها"، ثم يضيف " لقد وجد التصوف في بلاد المغرب التي ترسخ فيها المذهب المالكي أرضا خصبة، فتقبلته النفوس عن رضى و انطبعت به جميع جوانب الحياة في هذا البلاد" (7). على سبيل الختام لقد انطلقنا في هذا المقال بذكر مجموعة خواطر تساعد على تطوير الفكر التاريخي و النهوض به، ثم قدمنا تساؤلات جوهرية حول سؤال الإسلام و تداعيات قبوله في أرض المغرب، فتحليل لخلفيات تبني الفقه المالكي و علاقته بالتصوف، و قد حاولنا تغليب الطرح الإشكالي على تقديم الأجوبة الجاهزة، و قراءة الوضع الثقافي في المغرب في شموليته، بربط بنى الفكر الفوقية بالبنى التحتية التي تفرزها. و لا تزال أسئلة أخرى عالقة في أذهاننا تستفز كياننا الفكري، فإمارة المؤمنين مثلا تطرح سؤال التحول الدلالي في مفهومها من قائد جيوش المؤمنين كما قال ابن خلدون إلى شخص مقدس تجتمع في يده سلطات دينية و مدنية، و مظاهر و طقوس دينية متفشية من مثل الدعاء لأمير المؤمنين في المساجد هي الأخرى تحتاج إلى أن تسلط عليها الأضواء، فالدعاء في المساجد للسلطان كان مقترنا بحالتين : الأولى : خطب وده من قبل كيان سياسي طامح للانقضاض و الوثب على الحكم، فهو يداهنه بهذه الطريقة و يحابيه، حتى لا يثير مخاوفه و شكوكه، و الثانية : عندما تقوم دويلة لها استقلالها الذاتي داخل دولة، كان الإمام يدعو للسلطان كتعبير عن ولاء سياسي، و الحالتان معا غير واردتان في وضعنا الآن... الهوامش (1) عبد الله العروي، مجمل تاريخ المغرب ج1، ص 17. (2) انظر في هذا الموضوع مثلا : القانون االروماني و الشريعة الإسلامية ل "زهدي يكن". (3) انظر في هذا الموضوع : الخوارج في بلاد المغرب حتى منتصف القرن الرابع الهجري لمؤلفه محمود إسماعيل عبد الرزاق. (4) علال الفاسي، النقد الذاتي. ص97. (5) نفسه. (6) محمد عابد الجابري، التراث و الحداثة.. دراسات و مناقشات. ص 183-184. (7) طه عبد الرحمن، العمل الديني و تجديد العقل. ص 192. www.Adiltahiri.maktoobblog.com