بين كماشة التقدميين وكماشة المحافظين وقع المجتمع . كل شق يضغط من جانبه نحو الداخل لإحداث أكبر قدر من التأثير النفسي والاجتماعي والأيديولوجي والقانوني على الأفراد والجماعات لجعلها تدور في فلكه. فالتقدميون يدّعون أنهم يملكون الحقيقة القائلة بحقوق الإنسان وكما هي متعارف عليها عالميا، ومهمتهم تمرير هذه الثقافة عبر كل الوسائل القديمة والحديثة نحو المجتمع من أجل جعله يساير المستجدات العالمية ، وما المحافظين – بالنسبة إليهم-إلا ظلاميون يريدون الرجوع والردة بالمجتمع إلى عصور العبودية والفقر والجهل. بينما المحافظون يرون بأن شريحة التقدميين ما هي إلا آلية في يد الدولة الاستعمارية التقليدية تستخدمها للحفاظ على مصالحها عبر تطويع مجتمعات مستعمراتها وجعلها أوطانا خاوية المضمون هشة لا تقف على أسس صحيحة ومبادئ أصيلة. كما أن المحافظين – بدورهم -يرون بأن التقدميين يحاولون تشويه فلسفة المجتمع ومعتقداته للوصول إلى السلطة ،والتي سيخدمون من خلالها أغراض العلمانية، وعلى حساب الكرامة الحقيقية للإنسان : عيش أركانه الأمن الغذائي والأمن الجسدي والأمن الروحي .وأنهم (المحافظون)"هم" من يملك الحقيقة الحقة التي ستجعل الإنسان متحررا من أغلال الفراغ الروحي، والاستلاب الحضاري المزيف، والعزلة والغربة والفقر والجهل والانحراف والفساد .وما يعاني الإنسان في الغرب من " حيرة" تهدد كيانه رغم الغنى المالي وبسبب الفقر الروحي إلا مصائب قوم هي بالنسبة للمحافظين فوائد تعبر عن تجارب إنسانية فاشلة يجب تجاوزها وعدم السقوط في حبالها. الاستفزاز آلية لعرقلة الخصم لا يظهر على المشهد السياسي أي شكل من أشكال الصراع الحقيقي الايجابي حول السلطة بين أغلبية حاكمة ومعارضة تنتظر دورها عدا بعض الاتهامات التكتيكية لجس نبض الآخر والضغط عليه ليكون أكثر تعاونا. إذ لم تظهر على الساحة الإعلامية أي نقاشات معمقة وأي جدل سياسي هادف - حول ما يُنجر وما هو في طور الانجاز وما هو غير قابل للإنجاز- يصل إلى حد كشف أوراق الواقع وحتى ينجلي الغموض، وأوراق الخصم وحتى يتلافى العناد والصمود، للدفع بالعمل السياسي نحو زاوية الجودة في الأداء المقترن بالمسؤولية القانونية. فكل من الأغلبية والمعارضة يحاول (كما سلف ) تدبير المرحلة مكتفيا بتدخلات لم ترق لحد الآن إلى تطلعات المجتمع. لكن خلف الستار يحاول كل فريق (معارضة وأغلبية) تجريب وصفاته السياسية والقانونية والرقابية للإيقاع بالآخر في شراك الخطأ والفشل. وهو ما عبر عنه صاحب الجلالة محمد السادس بوجدة " بشي كيحفر لشي" عوض التفكير بشكل جدي وتعاوني لخدمة البلاد والعباد. فوصول حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم لم يرق للتقدميين الذين كانوا يرون أنهم " هم" الأحق بالسلطة لأنهم قدموا تضحيات جسام ليصل المجتمع إلى ما وصل إليه من تقدم ( ؟) ، وأنهم " هم" الذين قدموا للمجتمع بدائل لإخراجه من الجهل والفقر والظلامية. ولقد تتبع الجميع كيف رفض الاتحاديون المشاركة في السلطة إلى جانب حزب العدالة والتنمية إذ بنوا رفضهم على خلفيات ومبادئ تقدمية لا تروم ولا تتوافق مع منطلقات حزب العدالة والتنمية ذو التوجه الإسلامي على أنهم لم يرتضوا التزييف وفضلوا قاعدة :" خطوة إلى الوراء ثم خطوتين إلى الأمام" وهو ما يفسر سخونة الساحة بالمطالب التحررية من أجل استقطاب الشباب الذين هم سواد كتلة الناخبين. وبطبيعة الحال ليس هناك الاتحاديون وحدهم، فهناك كذلك يساريون آخرون يقرأون في فنجان التحولات الاجتماعية والاقتصادية الإقليمية والدولية أنهم على الطريق الصحيح وأن " فرصتهم " آتية لا محالة لتسلم السلطة على أسس المبادئ التقدمية التي يدعون إليها والتي هي من صميم آمال الشباب في الحرية والتحرر والبحث عن مستقبل أفضل. إذن هناك أهداف يجب أن يؤمن بها الشباب الذي يعول عليه التقدميون في التغيير، وأن هذه الأهداف سيدركها الشباب بعد الوقوف – اليوم أوغدا- على نقط ضعف الحكومة الحالية التي يتزعمها حزب العدالة والتنمية، وكذلك بعد تسجيل فشل الحكومة في تحقيق ما واعدت به المواطنين. هناك إذن حرب معلنة تحت الرماد ومن داخل المجتمع المدني، عبر الجمعيات الاجتماعية والجمعيات الحقوقية ضد ما يسمى " المخزن" ، والهدف منها -بطبيعة الحال- هو الوصول إلى السلطة بمشاركة ومباركة المواطنين المقتنعين بالمشروع التقدمي الحداثي. وآليات هذه الحرب : حقوق الإنسان بوجه عام ، وكل الترسانة القانونية المحلية(المتجاوزة)التي تعمل الجمعيات على تكييفها مع الترسانة القانونية الدولية بمساعدة مجلس حقوق الإنسان الأممي، وبعض مواد وسائل الإعلام / من البرامج الحوارية إلى الأفلام وصلات الإشهار التي تغرو مغاوير النفس البشرية ، وتنزع عن الجسد غطاءه وقدسيته. فعلى سبيل المثال قد سبق أن أثارت جمعيات حقوقية نسائية – في وقت سابق - مسألة اغتصاب القاصرة وتزويجها من مغتصبها فطالبت بإلغاء الفصل 475 من القانون الجنائي ، وهو المطلب الذي تبناه مجلس حقوق الإنسان بجينيف في أواخر شهر ماي 2012 وأوصى بإعادة قراءته. هناك إذن تناغم بين الجمعيات الحقوقية المحلية ومجلس حقوق الإنسان الأممي حول النصوص القانونية التي تراها عيون تلك الجمعيات أنها لا تساير حركية المجتمع الحداثي وبالتالي مصالح التقدميين، ويجب إعادة صياغتها لتصبح منسجمة مع التشريع الدولي. لا محالة أن هناك جهودا تبدل من جانب الجمعيات والمنظمات الحقوقية والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان والمجلس الوطني لحقوق الإنسان وآخرون . وهي جهود هدفها جميعها الدفاع عن حقوق الإنسان مع تفاوت في المنهجية والخطة بين الفاعلين والنشطاء. وهو ما جعل مطالب بعض الحقوقيين تصطدم بجدار الاستنكار كلما تعلقت تلك المطالب بإلغاء أو سن قوانين تتعارض مع العقيدة وتخدش منظومة القيم وتختلف مع عادات وتقاليد المجتمع الأصيلة والتاريخية. ففي مطلب حقوقيين بالحرية الجنسية للراشدين مثلا، لقي هذا المطلب استنكارا واسعا من لدن الراشدين فعلا، واستحسانا من لدن الشباب الذي يوجد في وضعية صعبة لا تؤهله لتكوين أسرة. فالمجتمع المغربي مجتمع محافظ وإن كانت هناك فقاعات تظهره بمظهر التقدمي المنفتح بسرعة. (فَ) 99% من الشباب ذكورا وإناثا يبحثون عن زوج غير فاسد إذا جَدَّ جِدُّهمْ، ويعتبرون مرحلة الفساد في فترة من العمر تجربة فرضتها الظروف الاجتماعية والاقتصادية- ليس إلا- يمكن تجاوزها بسهولة في مرحلة معينة من العمر. فالحرية الجنسية في نظرهم ليست مطلبا استراتيجيا وإنما تنفيسا للضغط النفسي، وهروبا من فشل اجتماعي. "فالحب أولا " هو مؤشر عن غوص صاحبه في رومانسية وردية تفاديا لأي اصطدام متوقع مع الواقع. كان من الممكن تجاوز عيشها "كحُلُمْ " وعيشها كواقع في مؤسسة زواج لو كانت البيئة صالحة. ورغم ذلك فقد أثبت الدراسات بأن الأشد في الفساد هو الأشد مطالبة للعفة في صفوف الرجال والنساء بعد تجربة متبوعة بالندم ومحاولة التكفير عنها بالصدقات والحج. الفصل 475 في مواجهة الفصل 490 ففي الوقت الذي طالبت فيه جمعيات نسائية بإلغاء الفصل 475 بعد اغتصاب وانتحار أمينة الفيلالي من أجل وضع حد لمثل تلك المآسي وكي لا يسقط ضحايا جدد في نفس الحفرة ، فاجأ حقوقيون الرأي العام عبر وسائل الإعلام بمطلبهم المتعلق بالحرية الجنسية وبإلغاء الفصل 490 من القانون الجنائي. الأمر الذي سيفتح الباب على مصراعيه أمام الشباب لممارسة الجنس بلا حدود . هذا التناقض بين المطالبة بحماية النساء من العنف أو حمايتهن من التحرش الجنسي الذي يعاقب عليه القانون في الفصل1-503 من القانون الجنائي يكشف على أن " البعض " لم يفهم الرسالة جيدا ، ولم يحدد بعد أهدافه بشكل عقلاني ومقبول كي تسلم الجرة . فالحرب على المجتمع المغربي مفتوحة من أكثر من جهة ، هي البحر كل أمواجه – ومن كل بقع الدنيا - حبلى بمطالب حقوق الإنسان ( المغربي !) ، وكأن الجوار جنة الخلد أهلها يسبحون بالحمد والشكر . أليس وراء الضغوط والمطالب محاولات – من جهة أو جهات - لكسر الإرادات لخدمة أجندات أعداء معروفين؟ فالحرب خدعة ، وهي تكون بالسلاح أو الانحلال . فكم يدفعون لإضعافنا وتفريغ منظومة قيمنا من مضمونها كي يسهل اقتيادنا بلا ممانعة؟ وإذا كان هدف التشريع كما جاء في الفصل الأول من القانون الجنائي ( مبادئ عامة) هو تحديد أفعال الإنسان التي يعدها جرائم ، بسبب ما تحثه من اضطراب اجتماعي تستوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو بتدابير وقائية. ففقط من أجل الحفاظ على تماسك المجتمع وحماية الأسرة وحماية الفرد من فساد الأخلاق التي هي أهم شيء في حياة الأمم. وهل تماسك المجتمع وطهارته وصلاحه وتضامنه أصبح عيبا من عيوب العصر ترفضه التقدمية ؟ أتساءل عن ردود أفعال كل مواطن غيور على شرفه وحريص على عرض غيره عندما يلاحظ على الشاطئ أو الحدائق أو الساحات العمومية " شابان " ذكرا وأنثى واقفان أمام الملأ يتبادلان " القُبَلَ " والعناق الحار ؟ إنه البلاء لا شك في ذلك ! وقال تعالى" إذا ابتليتم فاستتروا" حتى لا تعم الفاحشة. كما قال تعالى " إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" . نعم، لهم عذاب أليم في الدنيا من الله ، وكذلك متابعة جنائية حسب ما ينص على ذلك الفصل 483 (في انتهاك الآداب) والذي جاء فيه : (من ارتكب إخلالا علنيا بالحياء، وذلك بالعري المتعمد أو البذاءة في الإشارات أو الأفعال، يعاقب بالحبس من شهر واحد إلى سنتين وبغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم. ويعتبر الإخلال علنيا متى كان الفعل الذي كونه قد ارتكب بمحضر شخص أو أكثر شاهدوا ذلك عفوا أو بمحضر قاصر دون الثامنة عشر من عمره، أو في مكان قد تتطلع عليه أنظار العموم). فهل السكوت على مثل تلك الأفعال على الشواطئ وبحضور راشدين وقاصرين -في نفس الوقت وأمام المشهد - لا يعد مشاركة في الجريمة ، ودعوة وتطبيعا وقبولا للحرية الجنسية من "حضور" يرى ويسمع ولا يأخذ مبادرة التصدي لمثل تلك التصرفات الغريبة عن المجتمع ؟ فقبل سنوات فقط، كانت الشرطة لا تكتفي بمحاربة الفساد الأخلاقي -كما سلف الذكر- ولكن كذلك كانت تتصدى بحزم لكل من سولت له نفسه التجول خرج الشاطئ عاريا – إلا من لباس السباحة - ذكرا كان أو أنثى . إذن عوض التركيز على توسيع الحريات الفردية وخاصة المتعلقة بالجنس وحرية التصرف في الجسد ، كان من الممكن تسليط كل الجهود على قضية الوطن الأولى ، وعلى على مبادئ احترام حقوق الإنسان والمساواة وتكافؤ الفرص وإعمال طرق الحكامة الجيدة بكل ما تقتضيه من شفافية ومراقبة ومحاسبة . وذلك من أجل توعية الشباب وهديهم لطريق التغيير الحقيقي عبر مشاركتهم في الأحزاب ومحاولة توجيهها توجيها صحيحا يخدم المجتمع بدل فئات محسوبة. وإذا كان لابد من الدفاع عن الحقوق الفردية للأفراد، فالأطفال الموجودون في وضعية صعبة هم الأولى من أجل انتشالهم من الضياع، وكذلك الفتيات العفيفات الغير المتزوجات واللواتي يوجدن في وضعية عطالة ولا يتوفرن على مورد رزق، ومثلهم المظلومون المطرودون من العمل ،والمرضى والمعاقون والفاشلون المحتاجون لمن يهديهم لطريق الأمل ولو بالتوجيه والنصيحة. فتوجيه الشباب نحو المطالبة بالحرية الجنسية هو بمثابة تراجع عن الأهداف التي تريد الجمعيات والمجالس الوطنية لحقوق الإنسان بلوغها، إذ المجتمع محتاج لشباب يطالب بضمان وحماية الحق في المشاركة في إدارة الشأن العام، والحق الإيجابي لحرية التعبير من أجل الإصلاح والاستمرار في التقدم داخل دائرة الدولة الإسلامية ، وترشيد الحكامة الأمنية، وحماية حقوق الأشخاص المسنين، وتعزيز حماية الأسرة من التشوهات بدرء أسباب الصراعات من أجل التركيز على صناعة شباب المجتمع القادر على الموازنة بين طموحاته كإنسان حداثي ورغبته في الحفاظ على الصلة بينه وبين ربه، وليس للجنس مُفرّق الجماعات، وهادم المجتمعات.