إن سؤال الحداثة لم يكن وليد الفترة الراهنة والمعاصرة، وإنما احتك به المغاربة خلال مطلع القرن التاسع عشر نتيجة للهزائم التي لحقت بالنظام العثماني، واحتلال نابليون لمصر في 1798 ثم احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830وقد بلغ هذا الخطر ذروته بعد هزيمة الجيش المغربي في موقعة إيسلي 1844 أمام القوات الفرنسية، وبعد احتلال القوات الاسبانية لتطوان سنة 1860 . كل هذه الأحداث والوقائع جعلت النخب المغربية خلال تلك الفترة تنشغل بسؤال الحداثة الذي حملته اوروبا نتيجة للثورة الفكرية والثقافية والدينية والتقنية والسياسية التي عرفتها. إلا أن مسألة الحداثة لم تجد وقعا كبيرا في صفوف النخبة المغربية بل عرفت جدلا كبيرا خصوصا لدى فئة الفقهاء والتجار والعامة من الناس. فمنهم من اعتبر أن ما تقدمه الحداثة من مستحدثات تقنية كالتلغراف والسيارة والمطبعة......"بدعة محدثة" فمثلا اعتبر محمد المأمون بن الفاضل الشنقيطي في رسالة وضعها تحت عنوان "الأسئلة الناظرة عن الدابة المنتظرة". حول موقفه من السيارة يقول: "الأطوموبيل وما شاكله من السيارات الحادثة هو الدابة المنتظرة التي جاء بها الذكر الحكيم في قوله تعالى: "وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم" وقد قال الشنقيظي بأن "أهل الزمان أشرار والساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق. فخروج الدابة هو إحدى العلامات الكبرى على قيام الساعة. ان موفق الفقهاء من الحداثة وما تقدمه من مستحدثات تقنية لم يقف عند هذا الحد، وإنما نجد الفقيه محمد بن جعفر الكتاني، في بداية القرن الحالي تأليفا صغيرا بعنوان "حكم صابون الشرق وشمع البوجي وصندوق النار المجلوب من بلاد الكفار لعنهم الله، وحكم خياطة أهل الذمة قبحهم الله، يناقش فيه ما مدى جواز الطهارة بالصابون المصنوع من شحم الخنزير، كما يناقش مدى جواز الصلاة بثياب خطاها الكفار. كما نجد المؤرخ الناصري يعبر عن حذره وتردده بين منافع هذه المخترعات التقنية وخوفه من أن يدنس بها النصارى "هذا القطر السعيد الذي طهره الله من دنسهم". بل إننا نجد في تاريخ المغرب الحديث مواقف في غاية التشدد والصرامة، كاعتبار طلاء البيت باللون الأزرق "كفرا" وقضبان السكة الحديدية طريقا مقربا بين المغرب وبلاد الكفر. إذ كانت فئة النخبة المغربية وخاصة الفقهاء قد اتخذت موقفا لا يخلو من تشدد ورفض أحيانا تجاه ما تقدمه الحداثة من مستحدثات تقنيه، فإن هناك فئة أخرى أبدت مرونة وتفتحا تجاهها وهي فئة الفقهاء الذين أتيحت لهم فرصة السفر إلى أوروبا أو تحمل مسؤولية السياسة في جهاز الدولة. من المستحدثات التي حظيت بالقبول نخص بالذكر المطبعة. فالسفير إدريس العمروي يصف لنا دار الطباعة التي شاهدها في رحلته إلى فرنسا وصفا دقيقا حيث يقول: "وهذه الآلة التي اتخذوها للطبع في كل الأمور عامة النفع معينة على تكثير الكتب والعلوم وأثرها في ذلك ظاهر معلوم، وقد اتخذوها في جميع بلاد الإسلام واغتبط بها مشاهير العلماء والأعلام ويكفيك من شرفها وحسن موقعها رخص الكتب التي تطبع بها، وقد اعتنوا بتصحيحها وبالغوا في تهذيبها مع جودة الخط وإيضاح الضبط"، كما يدعو السلطان إلى جلبها للمغرب قائلا "ونطلب الله بوجود مولانا أمير المؤمنين أن يكمل محاسن مغربنا بمثل هذه المطبعة ويجعل في ميزان حسناته هذه المنفعة. فكم أبدت دولته من مفاخر وكم جددت سعادته من مآتر ويحيي به بعالم الدين وينهج به نهج الأئمة المهتدين أمين" ومن الذين عبروا بإعجاب عن مظاهر التمدن الأوروبي ودعوا إلى التمييز بين ماهو إيجابي وما هو سلبي فيها مع الاقتداء بالجانب الايجابي نذكر أبا عبد الله السليماني صاحب "اللسان المعرب في تهافت الأجنبي حول المغرب" حيث يقول: "فعلينا إذا أردنا سلامة ديننا ودنيانا أن نتحدى خطواتهم في تعلم تلك الصناعات المفيدة ونراجع العلوم الرياضية التي قام بها السلف من علماء بغداد وقرطبة وعنهم أخذ هؤلاء الأوروباويون وفقدت معارفنا من بينها. أليس من الواجب أن نستردها ونقول: بضاعتنا ردت إلينا. من الفقهاء الذين اتخذوا كذلك موقفا إيجابيا تجاه المستحدثات التقنية أحمد بن المواز وهو عالم وموظف مخزني كبير، وقاضي القضاة ومحرر البيعة الحفيظية (توفي في 1922). يميز ابن المواز بين ما هو إيجابي وماهو سلبي في المستحدثات التي أتت بها الحداثة الأوروبية ويخص المطحنة بالمدح قائلا: "ومن الحوادث المشكورة في المدينة تيسر طحن الأقوات في المكينة لأن مصيبة الرحويين أثابت الغربان وتناقلت أناشيدها الركبان، فلذلك رفع لله كيدهم بالمكينة وجعلت لهم عقوبة مهينة. إن سؤال الحداثة سيعرف تحولا كبيرا لدى النخبة المغربية، وخصوصا تلك النحب التي درست في أوروبا واحتكت مع الحداثة في شكلها المعرفي والفلسفي والثقافي والسياسي والديني....، حيث لم تنظر إلى الحداثة في بعدها التقني، وإنما الحداثة كسلوك ونظام، يكرس مبدأ الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، واحترام حقوق الإنسان. ويجعلنا في ركب الحضارة والتاريخ. إن من بين المثقفين الذين نجد عندهم هذه الرؤية للحداثة بلحسن الوزاني، فقد عبرت كتاباته عن حس حداثي يستلهم النموذج الغربي ويحاول من خلاله نقله إلى المجتمع المغربي الذي أصبح يعاني مجموعة من المعضلات سواء على المستوى السياسي أو الديني أو الاجتماعي، ومن بين الأفكار التي ناقشها بلحسن الوزاني في إطار رؤيته الحداثية، حقوق الفكر حيث يقول: "إذا ما أردنا أن نعرف هل تحسن أو تسيء الحكومات إلى الفكر الإنساني فما علينا إلا أن نرى هل هي تبيح له أو تحرم عليه بعض القضايا كالسياسة والدين والفلسفة؟. ففي هذا كل السر الذي يقوم عليه الرقي الفكري، وإذا أقفلت الدولة هذا الباب وحظرت على الأفكار الخوض في هذا المجال فعبثا تقوم بتشجيع العلوم والآداب والفنون. ذلك أن العقول تفتر وتذبل في هذا الحيز الضيق الذي يترك لها. لأنها تحرم من شيء هو ضروري لها وهو حقها. والعقل في هذا شبيه بالأعضاء التي تفقد بعض وظائفها إن لم تظفر بغدائها الكامل، أو بالأحرى إن لم تقم بأداء وظيفها الطبيعي تاما غير ناقص." وحول مجال الفصل بين السياسية والدين ومفهوم الدولة الحديثة وعلاقتها بالسلطة، يقول: "نرى أن مبدأ السلطة ضروري لعملية الرقي. ولكن لا نعني بهذا إلا السلطة الوضعية المنظمة لا سلطة الطوائف العصبية ولا سلطة اللاهوتية بأنواعها. والسلطة الوضعية المنظمة هي ما نسميه بالدولة. يقترب بلحسن الوزاني في هذا الطرح من الفيلسوف السياسي هوبز في كتابه التنين حيث يعلي من شأن الدولة كسلطة تنظم العلاقة بين الأفراد وتحترم القانون الذي تم وضعه في حالة الثقافة أو المدنية. ويشدد الوزاني في كتاباته السياسية التي انشغلت بموضوع الأوضاع المغربية مابعد الاستقلال، على الطابع السياسي للتخلف في المغرب، ويكاد يعتبر أن كل المعضلات المرتبطة بكيفية تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ليست سوى مظاهر أو نتائج معقولة في ضوء المشاكل الكثيرة المرتبطة بمسألة الحكم في البلاد. يقول الوزاني: "إن الرئاسة السياسية لا تكون بالوراثة ولا بالتعيين، بل هي منتخبة على أساس الشروط الشرعية المرعية في الخلافة. وإن الشعب هو مصدر السلطة الحاكمة بلانزاع، وأصول الحكم في الإسلام هو: أن الأمة هي مصدر السلطة الحاكمة". لهذا فإن السلطة، على أساس أن غايتها هي رعاية وخدمة مصالح الأمة، من الضروري أن تكون مقيدة، وإلا فتح المجال واسعا للاستبداد والحكم المطلق. كما جاءت في أدبيات بلحسن الوزاني حديثه عن الحداثة الدينية فيقول:"...ذلك بأن الشرق فريسة للسلطة الدينية، فكل شيء فيه يصدر عن الدين سواء سلطة الحاكم أو هيكل المجتمع. وبسبب هذا استحكم فيه الخمول وعدم الشعور بين جميع الناس، وكان الحاكم أول الخاملين والنائمين. فإصلاح المجتمع أمر محذور عليه إذ في هذا عدوان على الدين. ولو بلغت سطوته ما بلغت فإنه لا يجرؤ على تغيير نظام تعدد الزواج. وإذا كان من شأن أوروبا أو الأقطار المجاورة للشرق أن تتحرك وتسير إلى الأمام فمن شأن الشرق أن يحكم بقوانين ثابتة لأنها إلهية معصومة. وليس المشرع في الشرق عاجزا عن تحقيق الرقي. بل لا يوجد فيه مشرع مطلقا، لأن امتزاج الدين والمجتمع لا يترك لوجوده مجالا. وبهذه المناسبة نقول إن اكتشاف أوربا الكبير ليس هو الطباعة ولكن فصل الروحيات عن الدنويات والدين عن السياسة ، ومن أثر الدين أحيانا أن يرفع من شأن المجتمعات، ولكنه بهذا العمل نفسه يقيدها في الدرجة التي أدركتها في العلو والارتفاع. والسيطرة على العقول التي هي من شأن كل دين وشرط فيها يؤديه من خدمات، إنما هي في الواقع حصر وقيد" إن سؤال الحداثة في ارتباطه بالنخبة المغربية لن يقف عند هذا الحد مع بلحسن الوزاني، وإنما سيشغل بال ثلة من المفكرين أمثال محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، علي أومليل، طه عبد الرحمان... فمثلا يعتبر الأستاذ الجابري أن سؤال الحداثة "متعدد الأبعاد" لكنه يختار أحد أشد وجوهه استشكالا وهو وجه الصلة بالثرات، ومن ثمة كان سؤاله حول الحداثة موجها إلى التراث بجميع مجالات، وذلك مثلما هو السؤال موجه إلى الحداثة بكل معطياتها، كما أن مسألة الحداثة والتراث عند الجابري هي مسألة تتجاوز الفهم التراثي؛ أي تجاوز ذلك "الفهم الذي يأخد أقوال القدامى كما هي، سواء تلك التي يعبرون فيها عن آرائهم الخاصة أو التي يرون من خلالها أقوال من سبقوهم، وذلك بسبب أن "الطابع العام الذي يميز هذا النوع من "المنهج" هو الاستنساخ والانخراط في إشكاليات المقروء والاستسلام لها" وهو فهم يعاني من غياب الروح النقدية، وفقدان النظرة التاريخية. كما أن "الحداثة" لا تعني عند الأستاذ الجابري "رفض الثراث" رفضا، ولا قطيعة مع الماضي، بقدر ما هي تعني "الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه باسم "المعاصرة"، أي "مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي"؛ أي مواكبة حركة الحداثة، وسبب ربط الجابري "الحداثة" و "التراث"، أن الحداثة تبقى، بالرغم من ادعائها الكونية، منتظمة في التاريخ الثقافي الأوروبي، وذلك حتى إن هي حاربت نزعة المركزية الأوروبية. ومن ثمة كانت "لاتستطيع الدخول في حوار نقدي تمردي مع معطيات الثقافة العربية لكونها لا تنتظم في تاريخها. وطريق "الحداثة" في نظر الجابري هو طريق حواري ونقدي للتراث؛ أي أن عليه "أن ينطلق من الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها"، وذلك بغاية تحريك التغيير من الداخل. ومن هنا تصير "الحداثة" تعني "حداثة المنهج" في اعتبار الثرات، و "حداثة الرؤية" في النظر إلى الثرات....والمراد من كل هذا إنما هو تحرير تصورنا ل "التراث" من الأيديولوجية والوجدانية التي تضفي عليه، داخل وعينا، طابع العام والمطلق وتنزع عنه طابع النسبية والتاريخية". والحداثة من منظور الجابري حداتاث تختلق باختلاف السياقات التاريخية التي أنتجتها، فهي ليست مشروطة بظروف معينة وبحدود زمنية ترسمها الصيرورة على خط التطور، فمن شأن الحداثة أن تختلف من مكان لآخر، من تجربة تاريخية إلى أخرى فمثلا هل يمكن أنا نقارن الحداثة اليابانية بالحداثة الأوروبية. تتسم الحداثة عند الأستاذ الجابري بسمتين أساسيتين: الأولى هي "العقلانية"؛ إذ لا يمكن تحقيق حداثة بدون سلاح العقل والعقلانية. والثانية هي "الديمقراطية"؛ إذ بها يتم تجاوز سلوك القدامي، سلوك القطيع وعصا الراعي. فقد تحصل عند الجابري هي "قبل كل شيء: العقلانية والديمقراطية"، مما يجعل منها بالدرجة الأولى "حداثة سياسية"، كما يرفض الجابري الانصراف بالكلية إلى التراث، فمن جهة أولى، يؤكد أنه: "من الناحية المبدئية لايمكن تبني التراث ككل لأنه ينتمي إلى الماضي ولأن العناصر المكونة للماضي لا توجد كلها في الحاضر، وليس من الضروري أن يكون حضورها في المستقبل هو نفس حضورها في الحاضر. يتضح مما سبق أن مسألة النخبة المغربية وسؤال الحداثة، تأرجح في اذهان النخب المغربية بين رد وأخذ، وبهذا اختلفت الرؤى والأفكار حول الحداثة، فمنهم من اعتبر أنه لا مجال للأخذ بمكتسبات الحداثة، على اعتبار أنها معطى غربي "بدعة محدثة" ودخيل على على الثقافة المغربية، ومنهم من تعامل مع الحداثة بشكل ايجابي منفعلا بذلك مع ما أتت بها الحضارة الأوروبية من مستحدثات، ومنهم من تعامل مع الحداثة بشكل نقدي يستدعي الحفاظ على الخصوصية التي تتضمن الهوية والتاريخ والدين، مع الدخول في الحداثة كقدر فرضه تطور المجتمع الأوربي. لكن رغم هذا التعدد والاختلاف في الرؤى حول موضوع الحداثة، إلا أنه لازال يطرح سؤال الحداثة داخل المجتمع المغربي مجموعة من القضايا والاشكالات، خصوصا على مستوى الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، ومن بين الاسئلة التي تطرح نفسها، هل بالفعل دخل المجتمع المغربي لمرحلة الحداثة أم لازال في حالة القبول والرفض، وهل يمكن ابداع حداثة مغربية مغربية تستمد جذورها من التاريخ والدين والهوية بعيدا عن النموذج الغربي الذي لازال يطبق بأنفاسه على المجتمعات المتخلفة، تم في ظل غياب طبقة وسطى ترفع شعار التقدم والحداثة داخل المجتمع المغربي هل يمكن بالفعل الحديث عن حداثة مغربية؟ *باحث في التاريخ والفلسفة [email protected]