أثارت فاجعة بنجرير التي ذهب ضحيتها أربعة تلاميذ نقاشا مهما – وإن بدأ يفتر مع الأيام – حول الممرات السككية غير المحروسة، ومسؤولية المكتب الوطني للسكك الحديدية. لكن نقاشا آخر يجب أن يثار – بجانب هذا النقاش طبعا – حول الأسطول الأصفر الضخم من سيارات النقل المدرسي العمومي والخصوصي في المدن والبوادي، والذي تتعاظم أعداده كل سنة. وهو يصدّر أخطاره الجسدية والنفسية بين الفينة والأخرى. ورغم تقدير المجهود الجبار لسيارات النقل المدرسي في العالم القروي خصوصا في التخفيف من الهدر المدرسي، فإن كل ذلك لا يجب أن يكون على حساب أشياء أخرى... كما أن كثرة الحوادث التي تكون طرفا فيها سيارات النقل المدرسي في المدن كما في البوادي تدفعنا إلى التساؤل: كيف هي حالة حظيرة السيارات الصفراء؟ ومن هم هؤلاء السائقون الذين نستأمنهم على فلذات الأكباد؟ وما مستوى احترامنا للمعايير الدولية في هذا المجال؟ فمهما كانت طبيعة هذه الحوادث التي تكون طرفا فيها سيارات النقل المدرسي، فتظل دائما نتائجها خطيرة، بما تخلفه من ندوب عميقة في النفوس قبل الأجساد، ندوب يصعب أن تواريها الأيام أو يداويها النسيان. فرجّة بسيطة في سيارة لنقل الأطفال تخلف آثارا نفسية كبيرة، فكيف بحادث رهيب اشتمت منه رائحة الموت من مسافة بعيدة، كما هو الحال في حادثة بنجرير؟! فمن منا لم تدمع عيناه وهو يرى بقايا محافظ وأحذية وأشياء أخرى متناثرة في موقع الحادث؟!.. من منا لم تتحرك في أعماقه مشاعر مختلفة وهو يستمع إلى تلك الأم التي أعدت إبريق الشاي وخبزا في انتظار ابن لن يعود؟!... من منا لم يمسح دموعه حين كان التلاميذ يتحدثون عن زملائهم الذين أصبحوا في العالم الآخر، بعد أن كانوا في الساعات الماضية شركاء في جهد التحصيل ودفء الفصل وآلام رحلة الموت الأخيرة؟!. وحين كان الأساتذة يعرضون بطاقات هوية مدرسية هي كل ما تبقى من ذكرى فتيان كانوا يملأون المكان حركة ونشاطا. ولمّا أصبح الدوار ساحة عزاء كبرى تختلط فيها مشاعر الحزن والأسف والأسى بأصوات البكاء والنحيب. هي مشاعر يحس بعمقها وآلامها من عايش أحزان جنائز الدوار، وتنفس نسيم العلاقات المدرسية النقي، وتذوق طعم الخبز والشاي في منتصف اليوم. وعانى عذاب رحلة الصباح والمساء بين البيت والمدرسة. إن أول ما يجب إثارته بعد كل ما أثير، هو حالة أسطول سيارات النقل المدرسي التقنية والميكانيكية. وما إذا كانت هذه السيارات تراقب بانتظام من طرف القائمين عليها ومن طرف السلطات المختصة، وما إذا كان القائمون عليها يحترمون المعايير المعمول بها دوليا في هذا المجال. فضلا عن إعداد الظروف الجيدة، أو على الأقل المناسبة، لنقل التلاميذ. فمن هذه السيارات ما يجمع الأطفال كأنهم سلعة غير قابلة للكسر، في حين تتكسر نفسياتهم الحساسة مع كل رحلة ذهاب أو إياب إلى المدرسة. والكثيرون منهم لا يحترمون العدد الأقصى الذي تتحمله السيارة، فيزيلون الكراسي الأصلية ويضعون كراسي خاصة تتيح تكديس أكبر عدد من الرؤوس، عفوا من الأطفال. كما يجمعون التلاميذ والتلميذات من أعمار ومستويات مختلفة، مما تكون له آثار تربوية ونفسية خطيرة. ومن جهة أخرى فمن منا لا يلاحظ السرعة الكبيرة التي تتحرك بها المركبات الصفراء في الشوارع كما في الأزقة الضيقة. فما هي معايير اختيار السائقين المستأمنين على عشرات الأرواح البشرية من صنف خاص؟ وما هي مؤهلاتهم الفكرية والتعليمية؟ وما هي مستوياتهم الأخلاقية؟(...) فالأمر، أيها السادة القائمون على النقل المدرسي، لا يجب أن يظل مطبوعا بالفوضى والعشوائية. واختيار أقرب سائق يتقن فن المراوغة بالسيارة، ويستطيع إيصال "البلايص" في أقرب وقت ممكن، مع قلة طلباته المادية والمعنوية حتى ننصف الجميع، حيث نتساءل: كم يتقاضى هؤلاء السائقون؟ وهل يتمتعون بكل حقوقهم المادية والمعنوية؟ . وفي الختام فإن الإيمان يجب أن يكون راسخا بأن صحة وسلامة المتعلم النفسية والجسدية فوق كل اعتبار، وعلى الجميع أن يكون في خدمة هذا المسعى النبيل من الحارس والسائق إلى الأستاذ والمدير(...). كما أن موضوع النقل المدرسي يجب أن يكون ضمن قائمة اهتمامات السلطات الوصية، ويأخذ كذلك الحيز الذي يستحقه من اهتمام الإعلام الوطني، في بلد تستنزف طاقاته البشرية والمادية كل يوم على الطريق. ونعتبر هذا المقال خطوة على هذه الطريق.... ملاحظتان لهما علاقة بما سبق: - تثير الإعجاب والتنويه مبادرة بسيطة لإحدى مؤسسات التعليم الخصوصي، حين كتبت على كل سياراتها: " لأي ملاحظات حول السياقة يرجى الاتصال بالرقم الهاتفي الآتي...." - كما تثير التساؤل والريبة بعض المؤسسات الأخرى التي لا تكتب على سيارات نقلها المدرسي حتى اسم المؤسسة التي تقوم عليها(...) ربما حتى تمارس شغبها الطرقي في أمان، أو لحاجات أخرى في نفوس أصحابها هم أعلم بها....