عندما همت ضجة الركوع في مواسم تقديم الولاء بالعودة إلى الواجهة، على اثر مقال "ديمقراطية الركوع" للصديق أحمد بن الصديق، عادت ذاكرة الكتابة إلى تلك القصة التي تُحكَى عن أحد جهابذة الشعر الأندلسي، وتقاليد بيزنطة وهي ترغم يحيى بن الحكم البكري الجياني، الملقب ب"الغَزال" على تتبِّع طقوس الدخول على إمبراطور بيزنطة في مجلسه، ورفض ذلك باعتباره لا يركع ولا يسجد لغير الله، فلجأت حاشية الإمبراطور إلى الحيلة لإرغامه على احترام الطقوس، وقاموا بتخفيض عتبة الباب حتى لا يدخل منها داخلٌ إلا راكعا... وبما أن سفراء القوم حينها يتم اختيارهم لحنكتهم وحكمتهم، وما يتميزون به من قيم وشيم تجعلهم يَثْبتُون على المبدأ، ويُمَثِّلُون المنْشَأْ، فإنَّ اختيار الشاعر "الغزال"، وإن كان يجاوز حينها السبعين من العمر، كان لما تميز به من حكمة وحنكة، فَطِن إلى حيلة حاشية امبراطور بيزنطة، فجلس على إلْيَتِه، ومد قدميه، وسار زاحفا حتى عبر عتبة الباب ثم استوى قائما مسلِّما، إذ "من شخصية الرسول يُعْرَفُ سيده"، ليقول الامبراطور حينها :"هذا حكيم من حكماء القوم وداهية من دهاتهم. أردنا أن نذله فقابل وجوهنا بنعليه". واستقدام القصة يضرب بالغاية في مصب واقعنا، وما نعيشه من طقوس تنفر روسو وعقده الاجتماعي منا، فليس غريبا أن تهتز جوانح كلمات العديدين، ويملئوا صفحات الجرائد والمجلات، ويلجئوا إلى "نشر الغسيل" كلما تعلق الأمر بالركوع للملك، وهي سمة يتميز بها المغرب، ويفضل بها عن باقي الدول والأمم، والمِلَلِ والنِّحَل، فتقام للركوع مواسم، وتُجيَّشُ له الجياد والخيل والركبان، ليجسد جدلية الراعي والرعية في مغرب الاستثناء... حتى أن "غزالا" مغربيا، أوحى إلى المحبرة بفكرة، لم يفطن إليها غيره من قبل، وهي من حقوق طبعه المحفوظة، مسرا أنه من الممكن أن تعمل بها وزارة السياحة المغربية، فلماذا لا تضيف هذه الوزارة إلى إشهاراتها دعاوى إلى السياح بزيارة آخر مملكة في التاريخ الحديث لا تزال تحتفظ بطقوس الولاء أكثر إذلالا مما كانت تُؤَدَّى في الجاهلية، ويكون موعد محج السياح الأجانب هو اليوم الوطني للركوع، الذي يصادف يوم تجديد "الولاء"... الأكيد أن السياح الأجانب يلجأون إلى كل ما هو تاريخي، وكل ما ينتمي إلى الحقبة الفرعونية، بطقوسها المتخلفة، بغريبها وسماتها التاريخية، ومميزات شعوبها ومجتمعاتها، وهو ما يدفعهم إلى سلوك الطرق المؤدية إلى أهرامات مصر أكثر من غيرها، للحصول على صور فوتوغرافية وتذكارات تلخص لهم حقب تاريخية آلت إلى الزوال... ووصلة إشهارية لحفل الولاء بالمملكة المغربية، كفيل بجعل جزء كبير من هؤلاء السياح يختار المتعة والسياحة في ظل نفس التقاليد، لكن قبل أن تتحول إلى رموز وكتابات هروغليفية تحتاج إلى الجيولوجيين والطوبوغرافيين وعلماء الثرات واللغويين وهلم جر في فك رموزها... طقوس الركوع والسجود وتقبيل كف اليد راحة وظهرا، والركوع الجماعي أمام الجواد الأسود، والتهليل الذي يصاحب "مهرجان الولاء"، يمكن أن تشكل مَتْنًا ذي جدْوى في وَصَلاتٍ إشهارية وقصاصات يتم توزيعها في مداخل المملكة وفي السفارات التي لا تسفر سوى عن معاناة مواطني المهجر، ويمكن أن تعفي الدولة من البحث عن هؤلاء المواطنين (مغاربة الخارج) لاستكمال عشرين مليون سائح في أفق سنة 2020، ويمكن أن تعفيها من اللجوء إلى التبريرات الواهية، وأزمة تضرب في عقر الديار المقدونية كمشجب للفشل... وبما أن الموسم مواسم، والمهرجانات تستوي على ظهر الوطن بين الأكبر والأصغر، فإن للمغرب القدرة الكبرى على تنظيم الاستفادة من الركوع الأكبر والركوع الأصغر، بين الركوع الذي ينظم بالمشور السعيد، والركوع الذي تحبل به الأقاليم والقرى، يستغل جهل الناس، والذي يترأسه الوالي وعامل الإقليم، حتى أن قرية رابط أهلها على مشارف الطريق الوطنية أسبوعا كاملا، بجيادهم وبنادقهم وخيامهم، في انتظار موعد مرور موكب أحد "الأولياء الصالحين" وموعده يؤجل يوما عن يوم، وفي بلدتنا يؤدي الناس واجب الركوع كل ما هب موكب العامل بالدخول والخروج من مقر العمالة، يصاحبه التطبيل والتزمير، والتهليل والتقبيل، لذلك لم أذكر قط أن العامل تعامل بوجه إيجابي مع قضية من القضايا الشائكة للتعليم في المنطقة حفاظا على الجمهور والمطبلين... ومن السذاجة، ختاما، أن يحاول البعض تضييق النقاش فيمن السبب في مهازل تصور شعبا راكعا في ربيع التحرر، ففعل الركوع ومهازل الطقوس التقديسية تُشنَّعُ أنى كان مصدرها وأنى كان الآمر والمأمور بفعلها، بل سمة يجر سرابيبها طرفي الركوع والمتواطئون بالصمت... ومن السذاجة أن يظن أحد انها وتَدٌ يشد سرايا الملكية ويجذِّرها... فقد ارتبطت طوال تواريخها بالتملق والتسلق والبطانة الفاسدة... [email protected]