في ذروة الحملة الانتخابية للرئاسة الفرنسية، ومن على منبر جمعة مسجد Ivry Corocoronne بضواحي باريز، خطب أستاذ الرياضيات، الدكتور ادريس الخرشاف في جموع المصلين، فتحدث في العديد من المواضيع، بدءاً بشكر مدير المركز على دعوته للحديث في موضوع تربية الشباب، ثم انتقل للحديث عن الخريطة الأنتروبولوجية، وعن ال PNL ضاربا أمثلة بالنقطة والمجال، وأشياء أخرى علمية معقدة، لم أكن شخصيا موفقا في إدراك الخيط الناظم والرابط بينها. تحدث بلغة عربية جميلة وبفرنسية أجمل إلى عموم المصلين، وأغلبهم من الأميين، لمدة قاربت الخمسين دقيقة، تحدث إليهم وكأنه يتحدث إلى طلبة الدكتوراة في الجامعة، وكان يقول في كل مرة بأنه يقدم فقط ومضات وإشارات، بمعنى أنه لو كان يتحدث بالتفصيل لبقينا في المسجد إلى صلاة العصر. لكن الذي أدهشني، وأثار تعجبي واستغرابي وقَرفي في الوقت نفسه، فتوى الدكتور العجيبة والغريبة عن دخول بلاد الآخرين بدون إذنهم. فقد أورد قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم..." الآية، فذكر حرمة البيوت، وتحريم دخولها بدون إذن أهلها، ليقيس عليها البلدان، ليستنبط الحكم التالي: "لا يجوز الدخول إلى بلد من البلدان دون إذن وترخيص السلطات المحلية لذلك البلد، ومن فعل فهو آثم، وعمله معصية". لم يحدد ما إن كان هذا العمل يدخل في الحدود أو التعازير. وليست الفتوى مهمة، ومن قال بتحريم دخول البلدان وبحليته وأدلة الفريقين، بقدر ما يهم السياق والملابسات. ليس خافيا على دكتورنا أن فرنسا منعت قبل أيام الشيخ القرضاوي وآخرين من دخول التراب الفرنسي للمشاركة في فعاليات الملتقى السنوي ل Le bourget، والأحداث التي حصلت في تولوز، كما ليس خافيا عليه أن في الجالسين أمامه في المسجد أناس ممن لا يتوفرون على أوراق إقامة، ومعنى ذلك أن دخولهم للبلاد باطل، وبالتالي فصلاتهم باطلة أيضا، لأن ما بني على باطل فهو باطل. هل هذه المشكلة "الهجرة" تهم الجالية المغربية في فرنسا وتؤرقها، وجاء الدكتور الخرشاف ليعالجها، أم تهم الحكومة الفرنسية؟، فمن أقحمه في موضوع خطير مثل هذا؟. لننظر إلى النصف الأخرى من الكأس التي سقى الدكتور نصفها المصلين في مسجد إيفري. ليس السؤال هو تجريم الهجرة، إنما السؤال، لماذا يهاجر الناس من بلدانهم؟ ومن اضطرهم لذلك، وألقى ببعضهم أكلة للأسماك في البحر؟. إن من ألجأ مسلما إلى الهجرة من بلده هو الآثم، وليس الذي يضرب في أرض الله الواسعة يبتغي من فضله. ثم كيف نسي الدكتور الخرشاف قوله تعالى يعاتب الراضين بالعيشة غير الكريمة إذ يقول: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها" فالأرض بهذا النص أرض الله، وهي واسعة، وهو أمرنا أن نهاجر فيها. والناس كلهم عيال الله وعباده لا فرق بين أبيض ولا أحمر إلا بالتقوى. أما هذه الحدود المفرقة بين الشمال والجنوب فهي من صنائع الاستعمار، والدول المستعمِرة نهبت خيرات الدول المستعمَرة زمنا طويلا، فإن تسلل واحد من هذه البلاد إلى تلك يكون آثما؟. أليس ثمة شبهة تدرأ عنه المعصية، وتحل له الدخول لتلك البلاد، كونُ جزء من أموال تلك البلاد وخيراتها متحصل من أموال بلده التي له الحق فيها؟. أليس قديما يسير الراكب من المغرب إلى الحج مسيرة عام ذهابا وإيابا لا يخشى إلا لله والذئب على غنمه وقطاع الطرق على زاده، دون حاجة لتأشيرة دخول ولا إجراءات رسمية؟. ألم تكن بلاد الإسلام واحدة في القرون الأولى، أليست هذه الحدود من صنائع الاستعمار الذي ألغاها بين دوله القوية؟. لست هنا أرى رأي القذافي بإغراق أوروبا بالمهاجرين نكاية، ولست أدعو إلى الهجرة غير الشرعية، ولكن أدعو الدكتور الخرشاف وأمثاله للحديث عن الأمر بشكل شمولي، فنتحدث عن الأسباب الحقيقية التي تدفع الناس للهجرة، وتضطرهم لدخول بلدان أخرى بإذن أو بدون إذن أهلها؟. من حرم المهاجر لقمة عيش كريمة في بلده؟ من الذي احتوش الأموال بغير حق واستحوذ على أرزاق الملايين من عباد الله؟ ومن سمح له بذلك؟ لماذا نسمح للفرنسيين بدخول بلادنا ببطائقهم الوطنية فقط في الوقت الذي نلقى فيه معاملة دنئيئة جدا على أبواب القنصليات؟ ألا تستطيع الدولة المغربية –في ظل الحكومة الجديدة- أن تحفظ ماء الوجه؟ ألا تستطيع أن تلجأ الفرنسيين للوقوف طوابير أمام قنصلياتنا في فرنسا للحصول على تأشيرة الدخول؟. لنذهب أبعد من هذا، ونفترض جدلا أن المفتي على صواب، فهل من الصواب المساهمة بشكل غير مباشر في الحملة الانتخابية لليمين المتطرف بفرنسا ذي الميول الاستئصالية للمهاجرين؟ أليس ثمة موضوع أهم من هذا تحتاج إليه الجالية المغربية بفرنسا؟. هل طامة طوام المهاجرين هجرة هم أول ضحاياها؟. أم الأمر يرتبط بتعليمات من إدارة المسجد للدكتور الخرشاف؟ الله وحده ومن خطب في الناس يعلم. على مائدة الغداء بعد الصلاة، سألت أفراد العائلة عن رأيهم في الخطبة، قال أحدهم: "لقد أطال كثيرا، لكني لم أفهم ولا فكرة واحدة"، وقالت زوجته: "كنت أحس بشيء من الخشوع كلما صليت الجمعة في هذا المسجد، واليوم لم أحس بأي شيء". ألا فليتق الله قوم يخاطبون الناس بما لا تفهمه عقولهم، وبموضوع ليس من صلب اهتمامهم. فمتى نتعلم أن لكل مقام مقالا، وأن للجامعة منبرها وللجامع منبره، وأن كلاما نخاطب به قوما لا تعيه أفهامهم يصير فتنة عليهم، وأن أعز ما نحدث الناس به وعنه حديث يرقق قلوبهم، ويرفع هممهم، ويلامس أحوالهم، وأن خير الكلام ما قل ودل !!. [email protected] لزيارة مدونة الكاتب http://lahcenchaib.maktoobblog.com