أثار انتحار الشابة أمينة الفيلالي ردود فعل جارفة من لدن العديد من المنظمات الحقوقية التي اعتبرت أن الفصل 475 من القانون الجنائي يسمح لمغتصب قاصرة أن يفلت من العقاب، بمجرد البناء بها، وطالبت بإلغاء هذا الفصل. وبين صرخة مُدوية وأخرى لا تقل عنها قوَّة كانت بعض الأصوات الخافتة تحاول أن تدعو إلى التريث ومعالجة الموضوع بعد التأكد من حقيقة ما وقع. كانت الرواية الغالبة هي أن أمينة الفيلالي اغتصبت وأن مغتصبها تزوجها ضدا على إرادتها فقط للإفلات من العقاب، وأن انتحار أمينة كان بمثابة صرخة رافضة لهذا الوضع الذي يبخس كرامة المرأة بصفة عامة والقاصرة بصفة خاصة. ثم برزت رواية مغايرة تماما مفادها أن أمينة كانت على علاقة حميمية لكنها سرية مع مصطفى، ولما اكتشف أمرهما، بادر مصطفى إلى تسوية الوضعية بإبرام عقد زواج بعد الحصول على الإذن بذلك من قاضي الأسرة، لأن سن أمينة لم يكن يتجاوز 15 سنة. وبعد أسابيع من الحياة الزوجية أقبلت أمينة على الانتحار لأنها لم تتحمل المعاملة السيئة التي كانت تتلقاها من دويها ومن أصهارها على السواء. إن نبل أهداف النضال الحقوقي يفرض علينا التحلي بالنزاهة التامة والموضوعية الكاملة لمعالجة الأمور. وليس من النزاهة أن تؤكد جهات حقوقية أن القانون المغربي يحمي المغتصب، وأن تخطأ التصويب بمهاجمة الفصل 475 الذي لا علاقة له بفعل الاغتصاب. فالنضال الحقوقي لا يحتاج إلى دعاية سياسوية لربح المواقع، بل يكفيه ما يتناوله من قيم إنسانية أصبحت تؤسس لكل المجتمعات المتحضرة، وكلما اتسم بالمصداقية والموضوعية كلما كانت النتيجة أحسن وبكلفة أقل. وأحسن خدمة يمكن أن نقدمها لروح الشابة أمينة، ولكل الشابات المغربيات اللائي يعانين من ظلم مجتمع تتحكم فيه الطابوهات، هو أن نعالج المشكل المطروح من حيث يجب أن يعالج. ولنوضح في البداية أن تعريف فعل الاغتصاب وارد في الفصل 486 من القانون الجنائي، كمواقعة رجل لامرأة دون رضاها، ويعاقب عليه بالسجن من 5 إلى 10 سنوات، إذا كانت المرأة المغتصبة راشدة. أما إذا كانت قاصرة، أي دون الثامن عشرة سنة، أو عاجزة، أو معاقة، أو معروفة بضعف قواها العقلية، أو حامل، فإن العقوبة تكون من 10 إلى 20 سنة، وترفع العقوبة في بعض الحالات إلى 30 سنة. وما يجب أن يعلمه الرأي العام بكل وضوح، هو أن جريمة الاغتصاب يعاقب عليها القانون، حتى إذا قبلت الضحية المغتصبة الزواج من مغتصبها. ولمن يتساءل عن الحماية التي يوفرها القانون الجنائي للضحايا من الجنس الآخر، نقول أن الفصل 485 يعاقب بنفس العقوبات المقررة في الفصل 486، إلا أن المشرع عوض أن يستعمل عبارة اغتصاب = viol فضل عبارة هتك العرض = attentat a la pudeur وشمل بها الذكر والأنثى على السواء، واشترط أن يتم هتك العرض بالعنف. أما هتك عرض القاصر، ذكرا كان أم أنثى، بدون عنف، فإن الفصل 484 يعاقب عليه بالحبس من سنتين إلى خمس سنوات، ويعاقب على المحاولة كالفعل التام. ولما يتعلق الأمر بهتك عرض الراشد ذكر كان أم أنثى بدون عنف، فإن القانون الجنائي لا يعاقب صراحة على هذا الفعل ، وكل ما يعاقب عليه القانون هو فعل الشذود الجنسي بين شخصين من نفس الجنس ( الفصل 489: من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات حبسا ) وفعل الفساد الذي وصفه الفصل 490 من القانون الجنائي كعلاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية، والعقوبة في هذه الحالة من شهر إلى سنة حبسا. بعد هذا العرض لا بد من أن نتساءل كيف يمكن أن يحصل فعل هتك العرض بدون عنف؟ أليس التغرير والتحايل، والتهديد المعنوي أنواع من العنف اللين؟ ثم لماذا لا يعاقب القانون عن فعل هتك العرض الممارس بدون عنف على الراشد من الجنسين؟ أليس في الأمر اعتداء بيِّن على حرمة الإنسان، وسلامته الجسدية التي يحميها الفصل 22 من الدستور؟ بعد هذا العرض المقتضب لجرائم الاغتصاب وهتك العرض وباقي الجرائم التي أوردها مشرع القانون الجنائي في فرع انتهاك الآداب من باب الجنايات والجنح ضد نظام الأسرة والأخلاق العامة - عنوان لا يفي بالمقصود في نظري المتواضع – لنلقى نظرة على الحالة التي يعالجها الفصل 475 الوارد في الفرع الرابع من نفس الباب، تحت عنوان في خطف القاصرين وعدم تقديمهم. ولعل التذكير بالنص الكامل لهذا الفصل سيعين على رفع بعض أوجه الالتباس التي تولدت عن ربطه تعسفا بحالات الاغتصاب. يقول الفصل 475 من اختطف أو غرر بقاصر تقل سنه عن ثمان عشرة سنة، بدون استعمال عنف ولا تهديد ولا تدليس ، أو حاول ذلك، يعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات، وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم. ومع ذلك فإن القاصرة التي اختطفت أو غرر بها، إذا كانت بالغة وتزوجت من مختطفها أو من غرر بها، فإنه لا يمكن متابعته إلا بناء على شكوى من شخص له الحق في طلب إبطال الزواج، ولا يجوز الحكم بمؤاخذته إلا بعد صدور حكم بهذا الطلاق فعلا. هذا الفصل الذي أصبح مثيرا للجدل، يجب أخذه ضمن السياق العام للفرع الرابع الذي تضمنه، من حيث أن الفصل 471 الذي يُقابله يُعاقب بالسجن من 5 إلى 10 سنوات على جريمة اختطاف القاصر دون الثامنة عشر عاما أو استدراجه أو إغراءه أو نقله من الأماكن التي وُضع فيها من طرف من له سلطة أو إشراف عليه، باستعمال العنف أو التهديد أو التدليس. بعد هذا التوضيح الذي يفيد أن الاختطاف أو التغرير بالعنف يعد جناية، ولا يُعفي صاحبه من العقاب مهما كانت الظروف والأحوال - كأن يتزوج بضحيته مثلا - لنعرض حصرا للعناصر المادية لجريمتي الفصل 475 وهي: - أن يكون الضحية قاصرا، أي ذكر أو أنثى تقل سنه عن ثمان عشرة سنة. - أن يتعرض لفعل الاختطاف أو التغرير. - أن يتم ذلك بدون عنف ولا تهديد ولا تدليس. إن مجرد عرض العناصر المادية للجريمة يسائلنا في أكثر من منحى. فكيف يمكن أن نتصور فعل الاختطاف بدون عنف ولا تهديد ولا تدليس، أليس الأمر في هذه الحالة مجرد استدراج وكيف يمكن أن نصالح بين مفهوم الاختطاف الذي يعني منطقيا الأخذ بالقوة enlèvement ou rapt ، وما يفرضه النص من انعدام العنف أو التهديد أو التدليس. وبالوقوف عند جريمة الاختطاف، نتساءل كيف يمكن أن نصالح بين الفصل 475 وما ينص عليه الفصل 436 الذي يجرم نفس الفعل ويعاقب عليه بالحبس من 5 إلى 10 سنوات ويرفع هذه العقوبة من 20 إلى30 سنة إذا ارتكب الفعل لغرض ذاتي أو بقصد إرضاء أهواء شخصية، وصدر عن أشخاص يمارسون سلطة عمومية. أليس الفصل 475 في آخر المطاف، مجرد نسخة مستحيلة التطبيق للفصلين 436 ( العام) و 471 ( الخاص بالقاصر). أما جريمة التغرير فإنها تصطدم بنفس الانتقادات، إذ لا يمكن أن نتصور فعل التغرير بدون تدليس، أي استعمال وسائل وحيل لجلب القاصر إلى مرافقة الفاعل. وأخيرا لا بد من الملاحظة من جهة أن المشرع المغربي لم يعرف لا بفعل الاختطاف ولا بفعل التغرير وعاقب على الفعل المجرد وحتى على محاولته، من دون أن يهتم بالأهداف المتوخات منه. أما شروط عدم متابعة الفاعل المحددة في الفقرة الثانية من الفصل 475 فهي: - أن تكون القاصرة بالغة ( والمقصود هنا البلوغ الجنسي). - أن يتم اختطافها أو التغرير بها بدون استعمال العنف أو التهديد أو التدليس. - أن تكون قد تزوجت بالفاعل قبل تحريك المتابعة. ولتحريك المتابعة ضد الفاعل الذي اختطف قاصرة أو غرر بها بدون استعمال العنف أو التهديد أو التدليس، ثم تزوجها، لابد من شكوى من شخص له الحق في طلب إبطال الزواج، وأن يصدر حكما بالطلاق فعلا. إن الجانب الاجتماعي للفصل 475 واضح ويتجلى في إمكانية عدم متابعة المختطِف أو المُغرِّر بالقاصرة بدون عنف أو تهديد أو تدليس، لأسباب لها علاقة بالشرف والاعتبار، وحفظ ماء الوجه. أسباب يمكن أن لا نتفق معها إذا ما اعتبرنا أن هذا التنظير يجب تجاوزه بالنظر إلى تطور المجتمع، وتطور القوانين الوضعية المُرتبطة بالأسرة وحماية الطفولة. ومهما كان الحال فإن غموضا كبيرا يلف جريمتي الفصل 475، ولربما يكون من الفائدة أن تزودنا وزارة العدل بعدد الحالات التي تعرض سنويا على المحاكم المغربية في إطار هذا الفصل المثير للجدل. كما أن هذا العرض التوضيحي لا يمكن أن يصرفنا عن ضرورة ملحة، وهي أن نعمل على تقديم أكبر حماية ممكنة لشبابنا القاصر من الجنسين. فالقاصرة عديمة الأهلية أصلا، والزواج ميثاق مقدس، ينعقد بإيجاب من أحد المتعاقدين وقبول من الآخر. فكيف يمكن أن يصدر القبول عن قاصرة، في حالات الفصل 475، ويقع صحيحا، رغم حضور ولي أمر المغرر بها، وإذن قاضي الأسرة المكلف بالزواج؟ وهنا مربط الفرس، فهل نترك لقاضي الأسرة حق التصرف الذي تمنحه له المادة 20 من مدونة الأسرة، أم نحصره بوضع قيود وشروط للإذن بالزواج. وهل المقاربة قانونية، أم لها طابع اجتماعي بكل تداعياته الحضارية والسوسيو اقتصادية. إنني أعتبر أن حماية الطفولة اختيار حضاري وعلينا أن نقبل به ونمارسه بكل إكراهاته الاجتماعية. إن هناك حالات تفرض على المشرع أن يتدخل ليخلق دينامية التطور، ويعالج عجز المجتمع أو تأخره في الانخراط في هذه الدينامية. وعلينا أن نتحلى بما يلزم من مسوؤلية لمراجعة المادة 20 من مدونة الأسرة، بفرض سن أدنى للإذن بالزواج، وفرض معايير واضحة لهذا الاستثناء. ورغم أن الفصل 475 لا علاقة له بتاتا بجريمة الاغتصاب كمصطلح قانوني، فإنه من الواجب علينا أن نفتح حوارا وطنيا هادئا ومسؤولا عن الجدوى من هذا الفصل في المنظومة الجنائية الخاصة بحماية فلذات أكبادنا القاصرين. *نائب رئيس فريق العدالة والتنمية بمجلس النواب .