لا يختلف أحد على أن العدالة في مفهومها العام ولاعتبارات متعددة تعد شأنا مجتمعيا مطلوب من الجميع المساهمة فيه، ويحق للكافة الاطلاع على تفاصيله بكل شفافية. وفي هذا السياق فإن أهمية المرحلة التي يعرفها المغرب الآن وهو يفتح حوارا وطنيا حول إصلاح منظومة العدالة برعاية ملكية سامية من خلال لجان تركيبية متعددة وموسعة ووثائق مرجعية وأهداف مسطرة ومنهجية محددة، تقتضي من الجميع المساهمة في هذا الحراك المجتمعي لما فيه مصلحة هذا الوطن الذي لا نعيش فيه فقط وإنما يعيش فيه أيضا، ويستدعي منا التحلي بالكثير من النزاهة الأدبية والابتعاد عن النظرة المصلحية الضيقة، خاصة عندما نتناول موضوعا كهذا يحمل جوانب قانونية وحقوقية، اقتصادية واجتماعية، دينية وأخلاقية وسياسية، ويكتسي أبعادا وطنية ودولية، ويطرح الكثير من المقاربات والمداخل ويفرض الكثير من الأسئلة والتصورات. وفي هذا السياق أجد نفسي ملزما بالتذكير ببعض المنطلقات الأساسية: أولا: من الناحية المبدئية وباعتبار المغرب يؤسس لمرحلة جديدة لدولة الحق والمؤسسات مبنية على القطيعة مع التردد والانتظارية والأوضاع الملتبسة فإن المنهج والخيار الملائم لهذه المرحلة هو العمل على وضع ميكانيزمات واضحة لا لبس فيها تدعم استقلال السلطة القضائية في مواجهة كافة المؤثرات والشوائب مهما كانت صغيرة أو غير ذات بال قصد استرجاع ثقة المتقاضين. إنه بقدر الحرص على شفافية عمل هذه السلطة يجب الحرص في المقام الأول في المرحلة القادمة من تاريخ المؤسسات بالمغرب على إبقاء هذه السلطة بعيدة بشكل قاطع عن أي وضع يحتمل معه المساس باستقلال مكوناتها وقراراتها، وهو ما أكده تقرير لجنة Venise سنة 2010 حول استقلال القضاء، الذي ميز بين نوعين من الدول، الدول الحديثة العهد بالديمقراطية والتي لم تطور تقاليد قانونية وثقافية تضمن استقلال السلطة القضائية، فإنها تنحو إلى اعتماد نصوص واضحة خالية من اللبس حاسمة وغير مترددة في مسألة الفصل بين السلط حماية للسلطة القضائية من أية محاولات للتأثير على منهجية عملها. أما في الدول ذات التقاليد الديموقراطية القديمة فإنها لا تتعامل بنفس الطريقة لأن مختلف السلط تحدها هذه التقاليد والموروثات الثقافية والقانونية المتراكمة عبر السنين. ثانيا: الحديث عن استقلال السلط القضائية يقتضي البحث عن الآليات التي تخول لنا الوصول إلى «التركيبة الثلاثية» المنصوص عليها في الدستور ألا وهي فصل السلط وتوازنها وتعاونها، لأن الفصل يتضمن الاستقلال والتوازن يستتبع وضع الحدود ويجنب الانحراف والتعاون يقصي المواجهة، وهذه ليست بالمهمة اليسيرة لأنها تتجاوز النصوص القانونية وتتحكم فيها قواعد اللعبة السياسية وأدوات الرقابة المجتمعية ومدى قوتها التأثيرية. ثالثا: لا يمكن ونحن نتحدث عن التأويل الديموقراطي للدستور أن نغفل عن مضامين الخطاب الملكي السامي الذي وجهه جلالة الملك في يوم تاريخي مشهود وهو 10 مارس 2011 لأعضاء اللجنة الاستشارية المكلفة بإعداد مشروع الدستور حين دعاهم إلى«الاجتهاد الخلاق لاقتراح نسق مؤسسي مضبوط يقوم على التحديد الواضح لسلطات المؤسسات الدستورية بما يجعل كلا منها يتحمل مسؤولية كاملة في مناخ سليم». هذا الاجتهاد الذي في نظري يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أن هدف السلطة القضائية ليس هو القيادة وإنما المراقبة والتدقيق والتطبيق العادل للقانون كما جاء في الباب السابع من الدستور« «Elle n'est pas une force mais frein. ولاشك أن آليات الحوار الوطني الذي سينطلق الآن ستستحضر المرجعية الدولية المتوافق عليها عالميا وكذا الأدبيات القضائية المتواترة التي أفرزتها التجربة الأروبية ولن تغفل أيضا عن التراكمات الكبيرة التي عرفها المغرب في هذا المجال وتوصيات هيئات الإنصاف والمصالحة التي تمت دسترتها. لن تكون المهمة سهلة بالتأكيد فالموضوع له جوانب كثيرة مرتبطة ومعقدة ذات أبعاد قانونية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، سياسية ويطرح الكثير من المقاربات والرؤى ويستدعي الكثير من الموضوعية والواقعية والبحث عن المآلات والنظر في المقاصد، ويقتضي بالخصوص شيئا من الوقت وكثيرا من الصبر والصدق والمسؤولية. وهنا أتساءل هل سنستطيع الانفتاح على كافة التجارب العالمية ونبتعد شيئا ما عن مصادرنا اللاتينية التقليدية؟ كيف السبيل إلى سلطة قضائية تكون في منأى عن التسييس (politisation)وعن التأثير (manipulation)؟ وأي دور للجمعيات المهنية بهذا الخصوص؟ هل سنضع فعلا قطيعة مع الترددية والانتظارية ونفتح ورش التخليق بكل جدية في مجال العدالة انطلاقا من المفهوم الدستوري "المسؤولية والمحاسبة"؟ وهل يمكننا الذهاب بعيدا إلى درجة فك الارتباط النهائي عن وزارة العدل على جميع المستويات وليس فقط في علاقتها بالنيابة العامة؟ هل يمكن أن نتصور حكومة مغربية دون وزارة العدل؟ ألا يخول الوضع الديني والدستوري للمؤسسة القضائية بالمغرب الارتباط المباشر برئيسها الروحي والدستوري جلالة الملك الضامن لاستقلالها؟ لكن أيضا أليس من التجني وعدم الموضوعية اعتبار مؤسسة وزير العدل هي كل المشكل؟ ثم كيف يمكننا الاطمئنان إلى استقلال المؤسسة القضائية. ونحن نخرج مؤسسة وزير العدل ولا نتحدث عن المؤسسة التشريعية بكل حمولتها السياسية؟ لا شك أن المتتبع للمناظرة التي تمت بين ساركوزي وهولاند بفرنسا سيصدم بالكيفية التي أقحم بها القضاء الفرنسي واتهم في استقلاله ثلاث مرات في لقاء يفترض فيه أنه لعرض برامج المرشحين وتصوراتهم. وهو ما أكد بالنسبة لنا ما ورد بالتقرير الذي صدر سنة 2010 تحت عنوان Justice : un livre blanc très noir حيث أصبحت العدالة الفرنسية تحتل الرتبة 38 من ضمن 47 دولة أوروبية. كما أن جيراننا باسبانيا لم يسلموا من هذا النقاش أيضا حيث أكد 64% من الإسبان المستجوبون في استطلاع للرأي منجز من طرف مؤسسة Metroscopia (المنشور يوم 7/3/2010) بجريدة البايس أن المجلس العام للسلطة القضائية (CGPJ) هو رمز " لفقدان الاستقلالية " بعدما أصبح تدريجيا مقرا للبرلمان. وهو ما دفع 1400 قاض اسباني إلى توقيع عريضة تحت عنوان " ضد تسييس القضاء". وهو أيضا ما سبق أن خلص إليه المؤتمر الأبيري للسلطة القضائية في 25/1/2008 حيث جاء في توصياته الرابعة والخامسة وهو يتحدث عن القضاة: 4- « doivent exercer leur activité indépendamment des autres pouvoirs de l'état et être responsable de l'auto gouvernement et de la tutelle de l'indépendance externe et interne du pouvoir judiciaire. 5- la fonctionnarisation et la politisation des juges à n'importe quel niveau est inacceptable» إذن لا بد من البحث عن النموذج المغربي للإصلاح ويضمن ولو مبدئيا حدا أدنى من الواقعية والموضوعية والقدرة على التنفيذ. ثم ألا يفرض علينا هذا الحوار أن نطرح سؤالا بسيطا: أليس التنصيص على القضاء كسلطة مستقلة يفترض بأن هذه السلطة لها القدرة على إدارة نفسها وتسيير عنصرها البشري والمالي؟ لا شك أن العديد من الآراء ستجيب بالنفي على هذا التساؤل استنادا على مبررات وأسانيد من قبيل: أولا: القضاة ليست لهم المؤهلات الإدارية والتسييرية وليس لديهم الوقت الكافي لذلك، هذا الوقت يجب استثماره للبت في الملفات والقضايا. ثانيا: هناك مفارقة تثمتل في كون القضاة مسؤولون عن إنتاج العدالة دون أن يتحملوا أية مسؤولية بخصوص تمويل هذا الهدف، والجهاز التنفيذي مسؤول عن التمويل دون أن تكون له أية كلمة بخصوص المنتوج "العدالة". ثالثا: الحكومة لها شرعية ديمقراطية (منتخبة ) وملزمة بإعطاء حساب ومسؤولة عن برنامجها وعن تسييرها، في حين وجود جهاز للتسيير أغلبه قضاة ليست له هاته الشرعية (الديمقراطية) وغير ملزم بإعطاء هذا الحساب سواء سياسيا أو ماليا. رابعا: المحاكم يجب أن تشتغل بتنسيق مع مؤسسات أخرى مثلا في المادة الجنائية نجد الشرطة، النيابة العامة، إدارة السجون....وهذا يتطلب تجميع هذه المؤسسات تحت أشراف جهاز سياسي واحد يستطيع التنسيق بينها هو وزارة العدل. حقا إن القراءة الأولية لفصول الدستور المتعلقة باختصاصات الحكومة والبرلمان بالنسبة للميزانية وكذا فصول الباب السابع من الدستور المتعلق بالسلطة القضائية ومقارنة مع باقي التشريعات خاصة اللاتينية والجرمانية القريبة يمكن القول أن: هناك حصر لاختصاصات المجلس الأعلى للسلطة القضائية في تحقيق الضمانات أي أن له دور الضمانة أكثر من دور التسيير والإدارة القضائية. " C'est un organe de garantie plutôt qu'un organe de gestion" لكن لابد من التذكير أيضا بأن المجلس الاستشاري للقضاء الأروبي أكد على ما يلي: « Les décisions relatives à l'affectation de ressources financière aux tribunaux doivent être prises dans la plus strict respect du principe de l'indépendance judicaire, le système judiciaire devrait avoir la possibilité de donner son avis sur la proposition de budget soumise au parlement éventuellement par l'intermédiaire du conseil de la magistrature ». كما أن الممارسة في أوروبا أفرزت نماذج وتطبيقات مختلفة يمكن توزيعها مبدئيا إلى: 1. دول تكون وزارة العدل هي المكلفة والمسؤولة عن تسيير وإدارة المحاكم )ألمانيا، النمسا، كندا، مالطا، لكسمبورغ، تشيك، بريطانيا، فرنسا...( 2. دول تتوفر على إدارة خاصة بتسيير المحاكم )الدنمارك، ايرلندا، النرويج، السويد( 3. دول تتوفر على مجلس للقضاء أو مؤسسة تحت إشراف القضاء تقوم بتسيير المحاكم من خلال جهاز إداري محترف كما تبقى تجارب بعض الدول الأخرى في آسيا كاليابان أو إفريقيا كالكونغو كنشاسا والسودان هذا فضلا عن التوصيات الصادرة عن المجلس الأوروبي عدد 10 تحت عنوان ِConseil de la justice au service de la Société وكذا توصيات إعلان بيروت 1999 كلها جديرة بالاهتمام والدراسة. إنها أسئلة من جملة أسئلة كثيرة تتناسل عنها أخرى فرعية تستدعي مقاربة شمولية من خلال منهج تشاوري لا يقصي أحد من الفاعلين في جو من الحوار الموضوعي بعيدا عن لعبة الخطأ والصواب وعن وضع سقف وحدود للنقاش منذ البداية، هدفنا جميعا تحقيق الأمن القضائي واسترجاع ثقة المواطن. هذا المواطن الذي يجب التفكير في آليات إقحامه في عملية إنتاج العدالة على غرار ما أسسته الأنظمة القضائية الأنكلوساكسونية لأنه سيخول لنا أولا شفافية أكثر للعمل القضائي (وقد ظهرت ملامح هذه المقاربة في التركيبة المختلطة لمؤسسة المجلس الأعلى للسلطة القضائية) ومن جهة ثانية ستتيح للمواطن التعرف على الصعوبات الحقيقية والإكراهات العملية التي تعرفها عملية إنتاج العدالة وسيخلق جوا إيجابيا بين الطرفين من خلال علاقة أفقية بينهما ترتكز على التشارك. نعم لدينا حلم كما قال مارتن لوثركنغ ذات يوم، حلم يتجسد في مشروع مجتمعي قوامه الحرية والكرامة، وضع أسسه صاحب الجلالة الملك محمد السادس وتوافق عليه الشعب من خلال وثيقة دستورية بنفحة حقوقية إنسانية عالمية. وثيقة تلزمنا جميعا بالمبادرة الإيجابية وعدم تضييع الفرص والمناسبات وحماية حقوق الأجيال القادمة. إنه ربما حوار الفرصة الأخيرة لإعادة الثقة، إنه المسؤولية الوطنية النبيلة. *قاض