يعتقد أغلب الناس وهذا خطأ شائع، أن النقابات عبارة عن تنظيمات تجمع عمالا ومهنيين في إطار معين، بهدف المطالبة بالزيادات في الأجور أو التمتيع بحقوق وتحقيق مكاسب مادية بحتة، بمعنى أنها ليست سوى حركات "خبزية" لا ترقى إلى مستوى الحركات التي غيرت التاريخ وطبعت قدر الإنسانية، ولأصحاب هذه الأحكام عذرهم، فقد ارتبطت النضالات النقابية على مر السنين بطبقة عمال أميين في الغالب، ملطخة وزرهم بشحم الآلات وزيتها، ومغبرة وجوههم من أثر الاسمنت أو تراب الارض. كما أن حظ الحركات النقابية العاثر ربما، أنها لم ترتبط مباشرة بمفكر أو مثقف بعينه، أو أحد سلاطين التنظير والتأليف، كما هو حال الفكر الاشتراكي أو الرأسمالي، وعلى ذلك نشأ هذا الحكم الخاطئ. والحق أن الحركة النقابية حركة إنسانية بكل المقاييس وعلى جميع المستويات، وأحد دلائل صحة هذا القول مسألة ضمها لكافة الأعراق والأديان والأيديولوجيات، دون تمييز أو تفضيل لأحد على آخر، وتأطيرها لمختلف التخصصات والأعمال، طالما يجمعها مقر عمل واحد، أو مؤسسة تشغيل أو ممارسة واحدة. إن الحركة النقابية تتمحور حول تيمة العمل، وتجمع بين مختلف الأطياف باسم المشترك الواحد الذي يسمو فوق كل الاعتبارات الميتافيزيقية أو غيرها، والحسابات البعيدة عن أرض الواقع، لقد ارتكزت على هذا المشترك الإنساني في مفهومه الشامل، وهمت كل نشاط داخل المصنع أو الإدارة، وحتى ذلك الحرفي الذي يعمل لحسابه الخاص. إن العمل المأجور خاصية إنسانية، وجعل العمل مركز التنظيم النقابي يجعل من هذا الأخير حركة إنسانية بكل المقاييس، فالعمل أساس سعادة الإنسان وإنسانية الإنسان، كما أن العمل وحده الكفيل ببلورة ملكات الإنسان ومواهبه وترجمة رغبته في التقدم والسمو وإشباع الحاجيات. العمل هو التنزيل لآمال وتطلعات الإنسان، ولولا العمل لما استطاع الإنسان الانتقال من العصور البدائية القديمة أو الحياة التقليدية البسيطة إلى شكل الحياة التي نحن عليها الآن، وبالعمل ستتطور الحياة أكثر وتحقق الإنسانية رفاهية وفتوحات أعظم. واليوم، يعتبر غريبا كل الغرابة وعجيبا غاية العجب أن لا ينتبه العاملون، لأهداف النقابات، ولا يعتبرون الانخراط في العمل النقابي فرض عين، أولا لكونه وسيلة من وسائل إنقاذ الانسانية من شرور أنفسها، وإنقاذ الإنسان من أخيه الذئب للإنسان بعبارة بلوتس، عبر الوجه المظلم للاقتصادات الرأسمالية التي تقدس الربح المادي على الإنسان العامل ووضعه الإجتماعي، إلا بما يخدم حساباتها في رفع الأرباح، وتحريك عجلة الاقتصاد كأنه الأساس ومركز عجلة التاريخ، وليس الإنسان نفسه الذي يجب أن تنطلق منه كل السياسات والأهداف لتنتهي إليه، ولكن شاءت الصيرورة الماكرة أن تكون التجاوزات والمظالم هي الأصل في الاقتصادات الحديثة، والحركات العمالية الكابح لجماح هذه الاقتصادات المتوحشة. هل يخفى على أحد أن النقابات الانجليزية هي التي انتشلت العامل الانجليزي من مستنقعات الساعات الطويلة في المصانع، بعد أن اقتلعته من حقله وحياته البدوية البسيطة، إلى حيطان المصانع والآلات المدوية من أول الفجر إلى آخر الليل مقابل أجر زهيد. يحكي الباحث المصري جمال البنا قصة تاريخية مفادها أن رجلا كان يعيش على خدمة الأرض والزراعة ورعي بعض الأغنام في إحدى مدن إنجلترا البعيدة، يساعده إبنه طوال اليوم في الحقل، تاركا في الكوخ زوجة تعد الطعام مما توفر من أساسيات تحقق الاكتفاء الذاتي، وفي وقت فراغها تصبوا إلى مغزل ومنسج في ركن الكوخ، تستخدمه المرأة في تحويل صوف الغنم إلى خيوط ثم إلى أثواب يتم بيعها إلى التجار مما يشكل موردا إضافيا للأسر الانجليزية. ولكن صدفة ماكرة أرادت لسكون هذه الحياة الريفية الوادعة أن تتكسر للأبد. ففي لحظة كان الإبن يساعد في إعداد الصوف للغزل بوضعه فوق بخار الماء حتى يسهل توضيبه من طرف الوالدة، كما جرت العادة عند من أتقن مع السنوات الغزل، وتمكنت يداه من الحرفة، وبمحض الصدفة أطار البخار المكتوم داخل القدر المحكم الإغلاق غطاءه عاليا، ولفتت الظاهرة انتباه الطفل الذي طبق نفس الفكرة بحبس البخار في أنابيب حديدة لتحريك صفيحة ولدت قوة دفع مكنت من تدوير آلة حديدية تقوم مقام النساج الذي يقوم بغزل الصوف ونسجه وبشكل أسرع وليل نهار، أسالت الآلة لعاب التجار الذين تحولوا لاقتناء كل الصوف وغزله ونسجه في بيوت خاصة بواسطة هذه الآلات، وتحول كثير من الفلاحين صوب هذه البيوتات، للسهر على سير عمل الآلات وإنتاج النسيج مقابل أجر مادي. وهكذا نشأت المصانع، ونشأت طبقة عاملة، وتحولت المجتمعات إلى نسق جديد، وعالم جديد مختلف تماما عن العالم الذي سبق. إنها الثورة الصناعية. الآلاف من العمال، أميون في الغالب، فقراء لا معيل لهم، نزحوا نحو المدن، حيث تجمعت المصانع، نساء وأطفال، انتظموا في طوابير عند الساعات الأولى للفجر، للالتحاق بماكينات النسيج، الأفران عالية الحرارة لصهر المعادن، صناعة الزجاج، إلخ.. ويستمر العمل إلى آخر الليل، كان العامل مقابل أجرة زهيدة ودون أي ضمان، يحرك الآلات الصماء لأكثر من خمس عشرة ساعة في اليوم. إذا تأخر عن عمله يطرد، وإذا سقط مريضا يطرد، إذا أبدى تعبا أو ضجرا يطرد كذلك، ومن دون رحمة أو شفقة. كان من الممكن أن يستمر هذا الجنون إلى اليوم، لولا أن تواجدت النقابات. ذلك أنه، قبل أن تظهر النقابة، لم يكن أمام العمال خيار، لا سبيل سوى الاستسلام والقناعة بالموجود، وقبول إرادة صاحب المصنع، ولكن النقابة اخترعت ممارسة جديدة كان لها المفعول السحري، اسمها الإضراب، بعد أن ضاق العمال ضرعا، وتوحدوا في إطار تنظيمات، ليجد أصحاب المعامل أنفسهم جالسين على مائدة واحدة، يتفاوضون حول المطالب، هكذا فجأة، ويعترفون للعمال ببعض الحقوق، لعلهم يعودون لتشغيل الآلات وتدوير عجلة الإنتاج، وعدم العودة إلى الإضراب، وهكذا قام الطرفان بتوقيع : اتفاقية جماعية. كان فتحا عظيما أن انتبه العمال إلى قوتهم، وآمنوا بالتوحد في إطار تنظيم يجمعهم ويؤطرهم لما فيه صالحهم. كان فلته الزمان أن تم تأسيس أول نقابة، في غفلة عن أصحاب المصانع، حتى أعلنت إضرابها الأول، والذي كلل بالنجاح. وبالإضراب، انتهى على يد الحركة النقابية فصل كئيب من الفصول المأساوية للبشرية، حيث أنه من لحظتها، بدأت الأجور في الارتفاع، وساعات العمل في التقلص، والاستبداد بالقرار في المصانع انقضى، إلى غير رجعة. هل هناك ملحمة أكثر إنسانية من هذه ؟ ولم تقف الحركات النقابية عند هذا الانتصار، بل فرضت أن ترتبط الزيادات في الأجور بالزيادات في الأسعار، وذلك حتى لا يلجأ أصحاب المصانع، الدهاة الماكرون، لأن يسترجعوا بايديهم اليمنى، ما قدموه للعمال على مضض من زيادات باليد اليسرى. إضافة إلى ذلك، انتبهت الحركات النقابية أيضا إلى كونها شريكة صاحب المصنع في مصنعه، والمدير العام في إدارته، ورئيس الحكومة في حكومته، فالطرف الأول شريك بأمواله وماكيناته، أو استثماراته ومؤسساته، أو مسؤولياته ومناصبه، والثاني بالعمل والإنتاج، وضمان سير مختلف الأنشطة الحيوية، ومادام الأمر كذلك، فإن من حق العمال اقتسام الأرباح، والحصول على علاواة مع كل مناسبة تقفز فيها مؤشرات الإنتاج أو الربح. وهكذا ابتكرت النقابات وفرضت على صاحب المعمل أو المؤسسة علاوات دورية ومنحا سنوية، وزادت عليه مبدأ تضامنيا آخر، مفاده أن ما تحققه نقابة النسيج من مكاسب، تصير حقوقا مستحقة لعمال المناجم، وما تحققه نقابات رجال التعليم من زيادات في الأجور أو حقوقا اجتماعية، يسير مثله على موظفي وزارة الصحة. لقد مثلت فتوحات الحركة النقابية بحق، ثورة سلمية أعادت توزيع الثروة وحققت العدالة الاجتماعية بالنسبة للعمال، وبالنسبة لكل فئات المجتمع، بما فيهم الرأسماليون الذين كادوا يصلون إلى تدمير أهم عنصر منتج هو الرأسمال البشري، ولم تتجاوز النقابات الرسالة التي أعدت لها، فالحركة النقابية جعلت هدفها الأسمى تحقيق العدالة، لأن مطلبها كان ولا يزال، ممثلا في محاربة الاستغلال البشع، وليس بالضرورة محاربة الرأسمالية أو الرأسماليين، إنما هدفها جعل حقوق العمال واجبات مفروضة على أصحاب المصانع والأعمال، وحقوق أصحاب المصانع والأعمال واجبات ملزمة على العمال، وهكذا فرضت نفسها كشريك إجتماعي، تغلب مبدأ الحوار أولا، وتنبني على مبدأ الأخذ والعطاء، وهو أسلوب "حضاري" و"إنساني". أوليس هذا دليلا آخر على عمق إنسانيتها، ونبل رسالتها ؟ وأكثر من ذلك، استطاعت الحركة النقابية على مر العصور تربية الطبقات العاملة على الديمقراطية، ذلك أنها أنتجت بفضل نضالاتها وحققت جوا ديمقراطيا نقيا وصافيا داخل المعامل ومؤسسات الشغل، خصوصا وأن الانتخابات التشريعية في كل البلدان ينتهي ذكرها بمجرد انتهاء التصويت، في مقابل العمل النقابي الذي يخول للمستخدمين والعمال تواصلا دائما فيما بينهم، ومع مكتبهم النقابي، وبين هذا الأخير والإدارة العامة، سواء تعلق الأمر بمصنع أو إدارة عمومية، وبما أن العمال والمستخدمين يمضون معظم أوقاتهم في مكان العمل، فإن الحركة النقابية تعمل على جعل المناخ الذي يكتنف الجميع ديمقراطيا، لدرجة إعلان الحرب على ديكتاتورية صاحب العمل سواء كان مالكا للمصنع أو رئيسا معينا، وحتى يكون للعمال صوت في التوجهات العامة، ولهذا يمكن القول أن الحركة النقابية هي التي نجحت في غرس بذرة الديمقراطية في المواطنين أكثر مما فعلته الأيام المعدودة للحملات الانتخابية المليئة بالوعود المعسولة ليس إلا. إن الحركة النقابية ليست حركة فئوية أبدا، بل هي حركة جماهيرية، تمثل الشعب العامل، ومن هنا فإن دعوتها لرفع الأجور وتحسين ظروف العمل وأن يكون للعمال صوت استشاري في الإدارة والتسيير هو ما يمكن أن يترجم سياسيًا بأفضل ما تهدفه الرطانات الاشتراكية والشعارات الديمقراطية، خصوصا عندما تحافظ على مسافة الأمان بينها وبين العمل السياسي والحزبي المباشر، إن رفع الأجور وتحسين ظروف العمل لكل الشعب هو أسمى الأهداف الإنسانية، وإن إعطاء العامل صوتًا في إدارة المصنع أو المؤسسة هو أفضل صور الديمقراطية وحكم الشعب نفسه بنفسه. إن الإنسان لا يحس بإنسانيته إلا عندما يتذوق حلاوة الحياة، وهل منا أكثر سعادة ممن يغادر مقر عمله ليأخد جولة يستنشق فيها نسمات ربيعية ويقتني ما شاء من طعام وشراب وكتب وكماليات ؟ أليس هذا ما نادت به الحركات النقابية على مر العصور، تقليص ساعات العمل وطلب الزيادة في الأجور ؟ كيف لعامل أن يستشعر إنسانيته إذا أفنى جهده طيلة اليوم ولم يغادر إلا ليلا، نحو بيته، ليرتمي على فراشه كجثة هامدة. هل تختلف حياة هذا العامل عن يوميات الدابة التي تدير الساقية لساعات طويلة، دون أن تستفيد شيئا. لقد شكل مطلب تقليص ساعات العمل أحد الأهداف السامية للحركة النقابية، يوم أعلنته مطلبا واحدا ووحيدا من خلال المظاهرات التي انطلقت شرارتها في سائر تراب الولاياتالمتحدة، وذلك في فاتح ماي سنة 1886، اليوم الذي تقدم فيه الحصيلة المالية للشركات، وينتهي سريان جميع عقود العمل كذلك. لقد اختار العمال وكانوا قرابة 340 ألف، التظاهر منددين بطول ساعات العمل ومطالبين بتخفيضها إلى ثمانية، تحت الضغط بعدم تجديد أي عقد، واستمرت المظاهرات لأيام، شهدت بعض المحطات فيها مقتل عدد من المتظاهرين برصاص الشرطة، وفي منطقة أخرى حصل انفجار قنبلة أودت بحياة رجل أمن، ليتم بعدها التدخل العنيف للشرطة واعتقال عدد من المتظاهرين. وكان من بين المعتقلين خمس نقابيين معروفين، سرعان ما تم الحكم عليهم جميعا بالإعدام، ونفذ الشنق في نفس الشهر، بينما حكم على أربعة آخرين بالمؤبد. وبعد ست سنوات من ذلك اليوم الدموي، والمظاهرات العارمة، اعترفت السلطات بخطئها، وقدمت اعتذارا، وترسخ يوم الفاتح من ماي، كيوم لنضال الطبقة العاملة، وتجديد مطالبها العادلة في تحديد ساعات العمل، واستراجاع انسانية العامل. ولأن تاريخ الحركة النقابية كتب في محطته تلك بدماء الشهداء، وحتى تظل الحركة النقابية رحمة للانسانية جمعاء، توجب على الطبقة العاملة في كل مكان، أن تظل على يقظة تامة، لأن التجاوزات ممكنة في كل ميدان، والسطو على النضالات، وخيانة الرسالات طبع النفوس الشريرة، لذا ينبغي في هذا المقام كذلك انتقاد سلبية كثير من العمال، الذين اختاروا تجنب الانخراط في الحركة النقابية، إن البقاء في موقع المتفرج لا يجدي شيئا ولا يجر منفعة لأحد، مهما بدا الموقف سهلا، إن نضالات الطبقة العاملة على طول العقود والأجيال في سبيل استرجاع إنسانية الإنسان ليس أنبل من الرد عليها بمثلها، واختيار الانخراط في أي من المركزيات، وذلك لسد الطريق على الطفيليات التي تهدد مصائر العامل المقهور وتبيعه لأصحاب الكروش الكبيرة بأبخس الأثمان، باسم عناوين نضالية مزورة، وهذا حال كثير من الزعامات النقابية، سواء الكبيرة أو الصغيرة. إن كل عامل وموظف مدعو لأن يقدم ما يستطيع، لأجل تطهير الجو النقابي داخل مقر عمله، وإعادة الاعتبار للشأن النقابي كأنبل رسالة إنسانية أبدعتها البشرية.