لقد كان اليسار واضحا ومنسجما مع طروحاته الفكرية والسياسية, وجعل من العمل النقابي واجهة للصراع ضد مالكي وسائل الإنتاج ودولتهم الطبقية, وذلك دفاعا عن الطبقة الكادحة المنتجة للثروات والمحرومة منها بفعل ملكية حفنة من الرأسماليين على وسائل الإنتاج. وهكذا عرف اليسار تأسيس أولى النقابات منذ العهود الأولى للماركسية, وتمكن اعتمادا عليها من تحقيق مكاسب هامة للطبقة العاملة كتحديد ساعات العمل, الحصول على عطل مختلفة ومتنوعة, أداء أجور العطل, الضمان الاجتماعي, التقاعد, التغطية الصحية, الأمومة, المساواة في الأجور, الزيادة في الأجور, تحسين شروط العمل... وغيرها من المكاسب التي مازالت تعيش عليها الطبقة العاملة وعموم الموظفين في كل بقاع المعمور إلى يومنا هذا, بالرغم من التراجعات التي تحصل أحيانا كثيرة والتي لم تستطع الشغيلة تحصينها بفعل عوامل ذاتية وموضوعية يبقى التشرذم سماتها الأساسية. ويظهر ذلك جليا في فشل التصدي للزيادة في سن التقاعد في عدد كبير من البلدان وبالخصوص فرنسا ذات الإرث النضالي الطويل, ارتفاع البطالة والفقر, تراجع مستوى المعيشة بفعل الارتفاع الصاروخي للأسعار مقابل تجميد الأجور وتراجع الخدمات الاجتماعية... ولم يقف عمل اليسار عند هذا الحد, وإنما أكد أن الاستغلال الاقتصادي للطبقة العاملة وعموم الشغيلة وكذا الفوارق الطبقية الملازمة له, راجع بالأساس إلى وجود واستمرار دولة الرأسماليين والإقطاعيين التي ترعى الاستغلال وتتغذى عليه. ولذلك فقد جعل من تدمير دولة الاستغلال الطريق لتحرير الطبقة العاملة. فالنضال النقابي يهدف بالأساس إلى الحصول على مكتسبات مادية ومعنوية تهم الطبقة العاملة وعموم الشغيلة, وهاته المكتسبات تتطلب نضالا مريرا وطويل النفس. إلا أن المعالجة الشاملة والاهتمام الفعلي بالطبقة العاملة والشغيلة لن يتأتى في ظروف دولة الاستغلال. لذا نرى أن الإطارات النقابية اليسارية تتفادى النظرة الاقتصادية الضيقة للصراع وتحاول الربط الجدلي بين الصراع السياسي والصراع الاقتصادي, دون أن يعني ذلك القفز على مجال الصراع الطبقي الاقتصادي. وتعتمد الإطارات النقابية في ممارستها للصراع أو بأسلوب مرن, نضالها من أجل تحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي لمنخرطيها ومناضليها على مجموعة من المبادئ وهي: الجماهيرية, الديموقراطية, التقدمية والاستقلالية. ونظرا لكون جميع الإطارات تتبجح بهذه المبادئ دون أن تتماشى وطبيعتها أو دون أن تعيرها أي اهتمام, نرى من الضروري أن نعطي لمحة موجزة عنها. أ_ الجماهيرية: أو بعبارة أدق الطابع الجماهيري للنقابة. ان تحقيق المكاسب المادية والمعنوية لا يمكن ان ينزل صدفة من السماء أو أن تمنح من لدن أي كان, كما أن أي نخبة من النخب لن تتمكن من ذلك مهما بلغت ثقافتها وخبرتها وحسن نيتها واستعدادها النضالي. ولن تتحول إلى قوة فاعلة و فعالة إلا بامتلاكها من لدن الجماهير الواسعة التي تعاني من عدة مشاكل والقادرة وحدها فرض مجموعة من المكتسبات بفضل عملها الجماعي الطويل النفس. فالجماهير لا يجب ان تكون مجرد متلقي بل ذات عارفة تحقق إدراكا عميقا بالحقيقة الاقتصادية-الاجتماعية-الثقافية التي تشكل حياتهم, و يكون لهذه الذات القدرة على تغيير الواقع حتى يتمكن الناس من تحرير أنفسهم بعيدا عن الوصاية. ب_ الديموقراطية: هناك من جهة الديمقراطية كقاعدة للتعامل داخل النقابة لضمان مشاركة كافة الاعضاء في تحديد التوجهات والمواقف الأساسية وفي نقلها إلى حيز الممارسة, ومن جهة ثانية الديموقراطية في العلاقات الخارجية للنقابة في علاقاتها الخارجية للعمل على تطوير العلاقات وطنيا ودوليا وجهويا على أسس الاحترام المتبادل والإقرار الديمقراطي للمهام المشتركة بعيدا عن أساليب الهيمنة أو التهميش, وهناك من جهة ثالثة الديمقراطية كعلاقات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية لا بد من إقامتها للتمكن من التعبير القانوني والعملي للنقابة. فالديمقراطية بمفهومها الشامل لا تعني فقط الحكم السياسي بقدر ما يمكن تعميمها عل كل المرافق وكل التجمعات سياسية، اجتماعية أو مهنية، فلا يمكن الدفاع عن مصالح المنخرطين في غياب الديمقراطية في هيكلة وبنية العلاقات داخل هذه النقابة. فالديمقراطية الحقيقية تعني خلق نسيج علاقات متكافئة ومتوازنة تحسن تدبير الخلافات وتدعم مفهوم احترام الرأي الآخر وتحقق مجتمعا تحترم فيه إرادة المواطنين، وتصبح للمواطن قوة ضغط من أجل تحقيق ديمقراطية ومواطنة فعلية. ت_ الاستقلالية: وهي من جهة الاستقلالية بالنسبة للسلطة, مهما كانت, و من جهة أخرى الاستقلالية بالنسبة لأي حزب أو منظمة أو اتجاه سياسي, و بموجب هذا المبدأ, فالنقابة يجب ألا تستمد مواقفها سوى من مبادئها وقوانينها ومقررات اجتماعاتها واستنادا إلى التحليل الموضوعي للواقع. لكن الاستقلالية لا تعني الانعزالية لان النقابة تستوعب في صفوفها مناضلين مهما كانت مشاربهم الفكرية والسياسية مختلفة. كما ان الاستقلالية إزاء السلطة لا تعني القطيعة معها, فالنقابة يجب ان تكون على استعداد للتعامل مع السلطة في كل ما يمكن ان يحقق ولو جزءا من أهدافها شريطة احترام استقلاليتها وهويتها الأصيلة بعيدا عن عقلية التهميش أو التدجين. ج_ التقدمية: ان الاطارات النقابية يجب ان تشكل جزء من الحركة التقدمية وطنيا ودوليا انطلاقا من ان تحقيق أهداف النقابة على أساس الجماهيرية والديمقراطية والاستقلالية يندرج موضوعيا في إطار الكفاح ضد قوى الاضطهاد والاستغلال البشع ومن اجل تقدم البشرية جمعاء نحو إقامة المجتمع الإنساني المبني على الحرية والمساواة والتضامن. و تجدر الإشارة إلى أن الإطارات النقابية لا يجب ان يغلب عليها الجانب السياسي المباشر كأساس يقوم عليه خطابها مع التأكيد على ان التحليل الاجتماعي يوصل حتما إلى السياسة و ضرورة العمل السياسي النشط الذي يصل إلى درجة مشاركة الكادحين و المهمشين في النضال الثوري فعليا بواسطة الأداة الثورية. ان أكثر الاطارات تقدمية هي المنحازة فعليا إلى جانب الكادحين, وذلك بالمبادرات المتمثلة في تشكيل منظمات ديموقراطية تمتلك فهما علميا للواقع وتحاول تغييره مع الالتزام بقضايا المضطهدين ورفع وعيهم وتنظيمهم وتمليكهم مستقبلهم وإرادتهم على الفعل.