إن تحليل العمل النقابي من منظور اليمين, يستدعي التمييز بين مكونات ثلاث أساسية لليمين ألا وهي: الأحزاب الإدارية, الأحزاب الليبرالية والأحزاب التي كانت محسوبة على قوى اليسار قبل أن تتطابق مصالحها وتتشابك مع مصالح الطبقة الحاكمة. هذا التصنيف يبقى ناقصا نظرا للفوارق والاختلافات الكبيرة الموجودة داخل كل قطب منها, ولكنه يعطي على الأقل فكرة عن فهم كيفية تعاطي هذه التوجهات للعمل النقابي. أ_ العمل النقابي لدى الأحزاب الإدارية: إن اغلب هذه الأحزاب هي نتاج صنع الإدارة لتلميع صورتها ومضايقة القوى الوطنية والتقدمية في الميدان السياسي والاجتماعي. وهذا الصنع يكون في غالب الأحيان غداة الانتخابات التشريعية والجماعية. ومن غريب الصدف أن أحزابا كهاته والتي يتم طبخها في كواليس وزارة الداخلية ثلاثة أو أربعة اشهر قبل الانتخابات, ليفاجأ الجميع باحتلالها للصف الأول وبأغلبية مريحة دائما معتمدة في ذلك على طاقم الشيوخ والمقدمين والقواد الذين يوفرون كل الدعم اللوجيستيكي الضروري ومعه الضغط اللازم على بعض المعارضين وصولا إلى التزوير المباشر إن لم توفق الطرق الأخرى. لقد كان اهتمام هاته الأحزاب متجها إلى ما اصطلح علية جمعيات السهول والوديان المدعمة من الدولة والمؤسسة من طرف مقربين منها أو من طرف ابرز رجالاتها. واستغلت إمكانياتها للتقرب من بعض السكان والقيام بأعمال اجتماعية هي اقرب إلى الصدقة والإذلال منها إلى تلبية حقوق المواطن في عيش كريم ولائق. ان مجموعة من المتغيرات وعلى رأسها مدونة الشغل, دفع بالعديد من هذه الأحزاب إلى خلق بوتيكات نقابية تابعة للحزب وتعطي شرعية لتمثيلية مشوهة للعمال, حيث يصبح المستغل (بكسر غ) وممثل المستغل (بفتح غ) وجهان لعملة واحدة يستحيل معه خوض أي شكل نضالي من أجل تحسين الوضعية المادية والمعنوية للطبقة العاملة. نفس المنحى ستأخذه مجموعة من الوزارات عبر خلق نقابات موالية يتم ارشاء قيادتها ماديا أو بمناصب في المسؤولية... لتبقي القاعدة في منأى عن الصراعات الجارية في المجتمع وعن المطالب الملحة للعمال وعموم الشغيلة. الا أنه, ورغم كل هذا الدعم الذي تتلقاه هذه الأحزاب وبوتيكاتها, فان تأثيرها على ساحة المطالب الاجتماعية واستقطابها للموظفين والعمال, يبقى هزيلا جدا. كما أن قدرتها على تكسير الاحتجاجات شبه منعدم في غالبية الإدارات والمعامل والضيعات لكون الواقع المادي يحتم على العمال والفلاحين والموظفين مسايرة الطروحات الأقرب الى وضعيتهم ومحاولة تحسين شروط عملهم. ب_ العمل النقابي لدى الأحزاب الليبرالية: إن منطق الليبرالية ينبني على المقولة الصريحة دعه يعمل دعه يسير, هذا المنطق الذي تترتب عليه خلاصات أهمها أن الاستغلال لا حدود له, وان المهم هو الربح الذي يحصل عليه الرأسمالي من عملية الإنتاج دون مراعاة شروط العمل والعمال وكذا وضعهم المادي ومتطلباتهم الاجتماعية. ان الحديث عن الأحزاب الليبرالية بالمغرب فيه كثير من التجني على الفكر الليبرالي وطبقته الاقتصادية والسياسية. حيث ولد هذا الفكر في مخاض عسير ضد النظام الإقطاعي المدعوم من طرف الكنيسة. وقد نتج عنه دولة رأسمالية تقودها طبقة من الرأسماليين, انتقلت بفعل الاحتكار والمضاربات وتوسع الأسواق إلى إمبريالية. إن أحزابنا المسماة تجاوزا ليبرالية تفتقر لكل شيء, فهي فقيرة فكريا وسياسيا. إلا أنها تجد ضالتها في اتباع والانصياع لتوجهات الدولة التي تحميها وتمدها بمقومات الوجود سياسيا, اقتصاديا وفكريا. فتبني الليبرالية لديها لا تعدو أن تكون مسايرة للدولة وللمؤسسات المالية الدولية في توجهاتها واقتسام ثروات البلاد بطرق شتى. هاته الأحزاب وفي تناقض مع منطق الليبرالية أيضا, خلقت بوتيكات خاصة يحسب منخرطوها على رؤوس الأصابع وتستعمل في غالب الأحيان للتسويق الخارجي ما دامت فاقدة لكل شرعية داخلية, شرعية التكوين والتأسيس كانت أم شرعية النضال والبرنامج. ت_ العمل النقابي لدى الأحزاب التي كانت محسوبة على قوى اليسار: إن مناقشة هذا الصنف من الأحزاب والنقابات التابعة لها لهو من الصعب بما كان, حيث نجد من بينها من أعطى انطلاقة العمل النقابي في قطاعات مهمة بل منها من كان السباق إلى تأسيس الفعل النقابي عامة. كما أن قضية الانتقال من اليسار إلى اليمين ليست دائمة شاملة وعامة, حيث نجد من بين اغلب منخرطي هذه الأحزاب والنقابات مناضلين مبدئيين ذاقوا كل أساليب القمع والاضطهاد وهم على مبادئهم صامدين كما أن وضعهم الاجتماعي والاقتصادي لا يسمح لهم بمعانقة خيارات الدولة والدوائر الامبريالية. إن هاته الأحزاب تشارك في الحكومة اما من منطلق الأقلية او الأغلبية, بل ان فيها من هو على رأس الحكومة,كما هو الشأن بالنسبة لحزب الاستقلال رغم الوضع الخاص لهذا الحزب, وضع يجعله اقرب إلى أحزاب اليمين منه إلى أحزاب اليسار. وقبله بسنوات كان اليوسفي على رأس الحكومة والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية معا. إن مشاركة هاته الأحزاب جاء في إطار ما يسمى بالتناوب/ الإشراك في الحكم الذي نهجه الراحل الحسن الثاني تحت مبرر السكتة القلبية التي كانت تتهدد المغرب والذي كان في الواقع تمهيدا وتوفيرا لشروط الانتقال السلمي للسلطة من الملك الراحل إلى الملك محمد السادس. لقد تم التهيء مبكرا لهذا الإشراك عبر محاولة تحييد النقابات في الصراع كونها الذرع الحصين الذي تعتمد عليه الأحزاب في مفاوضاتها ومناوراتها, وفي هذا الإطار يندرج اتفاق فاتح غشت لسنة 1996. لقد تبين لاحقا أن الأحزاب المنخرطة في التناوب يجب أن تتخذ خطوات طيبة اتجاه الدولة عبر محاولة تجميد الملفات المطلبية ومحاصرة تحرك النقابات عبر خلق بيروقراطية مرتبطة مصلحيا بتوجهات الحكومة, وحين يستحيل ذلك, فتقسيم النقابات وتمييع النضال يبقى الحل الأنجع في رأي مهندسي اللعبة. إلا أن الأمور لا تسير دائما كما يخطط لها, حيث رغم المؤامرات والمضايقات والتمييع, لم تستطع الأحزاب الحكومية الجديدة ونقاباتها توفير السلم الاجتماعي الذي كان شرطا أساسيا أو هدفا محوريا للتناوب. فرغم التراجع الذي عرفه العمل النقابي في فترات معينة نتيجة فقدان الثقة في أصدقاء الأمس وضرورة إعادة بناء وهيكلة ما دمرته حرب المغادرة إلى الضفة الأخرى, فقد بدأ يعود بقوة نتيجة الأزمة الاقتصادية الحادة والتي تحاول الدولة وموظفوها الحكوميون تصريفها على كاهل العمال والفلاحين والموظفين وسائر الطبقات الشعبية. هذا المعطى, دفع بالوزراء الجدد وأصحاب المصالح والمعامل والشركات والضيعات إلى استعمال جل الوسائل الممكنة والغير ممكنة قصد خلق بوتيكات أخرى تتمتع بخاصية تنضاف إلى المال والجاه, ألا وهو قيادة معارك نضالية وهمية في عديد من القطاعات كما هو الشأن في وزارة العدل مع النقابة الديموقراطية للعدل وصانعها الراحل محمد بوزوبع, وقد استطاعت الوزارة والحكومة تمرير قانون 2008 الذي صيغ كنموذج لقانون الوظيفة العمومية الذي تصدت له النقابات ويكرس تراجعات خطيرة, هذا بمباركة من هذه النقابة حيث نجد في بلاغها الصادر بتاريخ 29 فبراير 2008: "التأم المكتب الوطني للنقابة الديموقراطية للعدل العضو بالفدرالية الديموقراطية للشغل في اجتماع له يوم الجمعة 02.29. 2008 بالرباط للوقوف على تطورات الوضع الاجتماعي بالقطاع ومتابعة نتائج جلسة الحوار القطاعي الأخيرة, وكذا تدارس بعض القضايا التنظيمية, والمكتب الوطني إذ يؤكد على أولوية الحوار المنتج ضمن أجندتنا النضالية يسجل ما يلي: أولا: تلقيه بارتياح مصادقة المجلس الحكومي على مشروعي مرسوم المرتبط اولهما بالقانون الأساسي لكتابة الضبط والثاني المتعلق بتعويضات الحساب الخاص, وإذ يهنئ مناضلات ومناضلي إطارنا النقابي على هذا المكتسب, يجدد اعتزازه بصمودهم ويؤكد لهم من جديد على تجند النقابة الديموقراطية للعدل الدائم لخدمتهم بعيدا عن أساليب التضليل والمراوغة والنفخ في المعطيات وهي الأساليب التي سبق وان قرفت منها قواعدنا في تجارب سابقة..." وللتغطية على هذه الجريمة النكراء في حق الموظفين, ختم البلاغ بمغازلة نساء العدل وخلق حدث يلهي الجميع عن المؤامرة حيث أورد: " ولم يفت المكتب الوطني استحضار اليوم العالمي للمرأة, واذ نقف على ضفاف عطاء المرأة العدلية الممتد في الزمان والمكان, وصمودها المتميز ان في معاركنا الوطنية عموما او في ما تعرضت وتتعرض له من مضايقات بشكل خاص, لا نملك الا ان نقبل جباهكن وننحني لشموخكن المتواضع ولتواضعكن الجميل, مقدمين باسمنا واسم كافة مناضلي النقابة الديموقراطية للعدل احر التهاني بهذه المناسبة, ودمتن بسمة تكسر وجوم المحاكم, وندعو في هذا الصدد كافة المكاتب المحلية لنقابتنا الى الاحتفاء بنساء العدل يوم 07.03.2008 بما يليق بمكانتهن وعطائهن, وذلك عبر توزيع الورود وبطاقات التهنئة بمناسبة عيدهن الاممي جاعلين من هذا الاحتفاء احتفالا بامهاتنا واخواتنا وزوجاتنا وكل النساء" فغذا الجميع يبحث عن الورود, لكن للأسف كانت أول وآخر الورود التي تسلمتها نساء العدل, وتسلمن معه قانونا اضطرهن للانتظار سنوات طوال قصد تحسين وضعهن المادي والمعنوي... الدعوة الى البعد عن أساليب التضليل والمراوغة ما هو إلا تطمين للقواعد ولفت نظرها عن التضليل والمراوغة التي تهيئها هاته النقابة, حيث انه بعد صدور القانون الأساسي لكتابة الضبط الذي تبنته ودافعت عنه وبشرت بالمصادقة عليه, ونظرا للضرر الكبير الذي لحق الموظفين جراءه, فقد حاولت التبرأ منه وانقلبت بسرعة قياسية وأعلنت في بلاغ للمكتب الوطني بتاريخ 30_08_2008 ما يلي: "عقد المكتب الوطني للنقابة الديموقراطية للعدل العضو بالفدرالية الديموقراطية للشغل أولى اجتماعاته للموسم الاجتماعي الحالي وذلك يوم السبت 30_08_2008 بالرباط, وبعد وقوفه على العناوين الأساسية المميزة للدخول الاجتماعي الحالي والتي يظل أبرزها الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش وصدور نصي القانون الأساسي لكتابة الضبط ونظام التعويضات بالجريدة الرسمية...يسجل ما يلي: ... ثالثا يسجل رفضه المطلق لنص القانون الأساسي لكتابة الضبط والذي يعد تراجعا خطيرا يقتل آمال شغيلة العدل في العيش الكريم..." فبعد ستة اشهر, نشعر وكأننا أمام نقابتين مختلفتين واحدة حكومية والثانية يسارية. هذا هو المنحى الذي أصبحت عليه الممارسة النقابية لهذه الأحزاب والنقابات, فلا هي تستطيع النضال الى جانب المقهورين نظرا لالتزاماتها السياسية واستفادتها الأكيدة, ولا هي مسموح لها بترك مكانها فارغا فتملأه قوى مناضلة تربك الحسابات الحكومية الرامية الى تمرير مخططات الدولة والقوى الامبريالية. وبالطبع ستجد النقابة مخرجا والتواء ودغدغة لعواطف الموظفين لتبرير ما حصل وإلقاء اللوم على الحكومة بكونها غيرت ما تم الاتفاق عليه. وهذا أيضا مردود على النقابة كون القانون الذي دافعت عنه وأشهرته في موقعها الالكتروني ويتوفر الموظفون على نسخ بتاريخه وقامت بتعليقه في السبورات النقابية, هو نفسه الذي صدر بالجريدة الرسمية. نفس الشيء نجده على مستوى المركزيات أو على المستوى العام وذلك عبر خوض اضرابات عامة في القطاع العام مع استثناء للقطاع الخاص الذي توحد خسائره وأرباحه جل المتدخلين الجدد في هاته المسرحيات النضالية. وقد تتخذ المسرحية بعدا كاريكاتوريا ممسوخا كما هو الشأن حينما تصدى الاتحاد العام للشغالين بالمغرب للإضراب العام الذي أعلنت عنه الكونفدرالية الديموقراطية للشغل عبر إعلانه يوم الإضراب يوم عمل وتعبئة جميع وسائل الإعلام والجيوش المهيجة لكسر الإضراب. ان هذا الوضع الجديد, وضع المسير والمعارض, وضع المالك والمملوك, وضع الجلاد والضحية, وضع التهييج والتوجيه نحو الإخفاق, وضع تمييع جميع المفاهيم والصيغ النضالية... يعبر عنه بكل سخرية حزب الاستقلال. فعباس الفاسي وزير أول, وحميد شباط كاتب عام الاتحاد العام للشغالين بالمغرب, وهو أيضا عضو المكتب التنفيذي لحزب الاستقلال, بالإضافة إلى منصب عمدة مدينة فاس ووو, شارك في اضراب عام في الوظيفة العمومية يوم 3 نونبر 2010, وبرمج إضرابا عاما في 14 دجنبر 2010 إحياء لذكرى 14 دجنبر 1990..., كما تعبر عنه جل الأحزاب الملتحقة بالتسيير الحكومي, لكن بدرجات أقل. وإذا علمنا أن ثلة من مسيري هاته الأحزاب والنقابات هم رأسماليون وإقطاعيون وناهبو أموال عامة ومتملصون من أداء واجباتهم وعلى رأسها الضرائب, ويملكون العديد من المصانع والمعامل ويمارسون أبشع طرق الاستغلال والتحايل على القانون ومنهم من شرد الفلاحين والعمال وجوعهم, نعرف حجم الضرر الذي لحق العمل النقابي, ونفهم أن استمرارهم في ممارسة بعض التسخينات النضالية ما هو إلا من باب الخوف من قوة العدو الذي يملأ الفراغ وان الهدف من كل هذا هو إحباط وتيئيس المنخرطين والمناضلين والمتعاطفين الذي رأوا من تجربتهم نعم المنطلق ويئس المصير. ان القاسم المشترك ببين العمل النقابي لدى الأحزاب الإدارية والأحزاب الليبرالية والأحزاب التي كانت محسوبة على قوى اليسار هو غياب المبادئ الأساسية المؤطرة للعمل النقابي: الجماهيرية, الديموقراطية, الاستقلالية والتقدمية. فجماهيريتها تعني موتها مادامت الجماهير ترزح تحت نير الاستغلال وتبحث عن فرصة للتخلص منه, والشيء نفسه بالنسبة لديموقراطيتها. كما أن تبعية هاته النقابات للأحزاب السياسية التي خلقتها قصد استعمالها لأغراض سياسية محضة تخص خلق توازنات معينة أو بحث عن مواقع داخل الحكومة أو الزج بها في صراعات داخلية تخص الحزب, يجعل استقلاليتها في مهب الريح. وتبقى التقدمية الغائب الأكبر والذي لا يمكن التحايل عليه, فمن يطبق المخططات التصفوية للدولة وللمؤسسات المالية الأجنبية, ويساهم في إفقار الطبقات الشعبية وتضليلها لتأبيد السيطرة الطبقية, لا يمكن أن يكون تقدميا. *موظف بوزارة العدل دبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد