كلما بدأت وسائل الإعلام، ومصادر المعلومة، وتقارير وزارة العدل، بالحديث عن بوادر الإفراج عن نيني بعفو ملكي، كثرت خوالجي بتمني العكس، وصدحت بطلب بطلان الخبر، أو رفضه من قبل سجين الكلمة... ولم أحقق قط فيما إذا كان الصحافي الأول، كما صنفه القراء، قد يعجبه التمني، ولم أفصِل فيما إذا كان من العدل ومن الصواب طرح هذا الطلب المكنون، في قضية وبلاء يتمنى فيه العقلاء الفرج وتبديل محنة القضبان بمنحة الحرية. لكن كثيرين تمنوا أن يخرج رشيد نيني مرفوع الرأس، ويرفع رأس الجسم الصحافي الذي لا يزال يجتر غصة الصحافي إدريس شحتان، وهو يشكر الجلاد على منه وفضله، بيد أنه قضى ثلاث أرباع المدة المحكوم بها، ورغم مناجاة عائلته وابنته التي اغرورقت عيون الغيورين لنداءاتها المتكررة، لم يطلقوا سراحه إلا بعد الإذلال والتنكيل وقضاء جزء كبير من المدة المحكوم بها، ليخرج موقعا على الصمت، والسير "جنب الحائط"، ولا زلنا نجتر مرارة ترحيل أبو بكر الجامعي بمؤامرة فجة، اضطر معها إلى حمل أبنائه ومغادرة الوطن، وتحول رواد صاحبة الجلالة إلى مسجون ومنفي ومعتقل مع وقف التنفيذ... ومكمن العلة في تمني عدم خروجه بالعفو تتجلى أولا في رفض اعتباره (أي العفو) صدقة يتبعها المن والأذى، ومركبة يمتطيها من فرغ من المآدِب السياسية، ثم ورقة يلوح بها القصر على من يعتبرهم رعيته، يُمنِّي بحريتهم متى يشاء ويسلبها أنى يريد،... خصوصا أن القضية لم يحكم فيها القضاء باستقلالية، بل تذكرنا بسجون السلاطين والأمراء أسفل القصور، والتي تخضع فيها الأحكام لهوى القائمين عليها، ولميزاج وميزان الرضى عند أصحاب الأعتاب الشريفة... والعلة الثانية، أن يكون العفو على رشيد نيني، تثبيتا للحكم في التهم التي جر بها قلم القضاء بأوامر فوقية، وزيادة في إقرار "الجريمة"، وإعطاء صفة الصواب والصحة للعقاب، ومن الضروري وحُسْنِ الذكرى الإشارة إلى استنجاد القضاء بالقانون الجنائي لتثبيت تهمه الثِّقَال... وستكون، من ناحية أخرى، سنة سيئة أخرى تجر وبالها على الجسم الصحافي الذي يزداد ترهلا... الجسم الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه، واستقلاليته، وقوته كسلطة رابعة، لا يمكنه مدافعة السلط الأخرى، ولعب دوره الرقابي في مختلف المجالات... وزاد من العلل لجوء القصر إلى تبرير رفض العفو على نيني باعتباره "أساء إلى أشخاص آخرين"، فماذا عن الذين أساؤوا إلى ثلاثين مليون مواطن، وسلبوا الناس نعمهم، وظلوا نقمة مسلطة على البلاد والعباد، وحتى لو تبينت فضائع ما يصنعون، ظلوا يرتعون تحت حماية السلطان، بل منهم من ترقى في مدارج الحكم وتربع على عروش السُّلط دون أن يساءل أو يقدم في حقه ما يُحِقُّ العدل ويرفع رايته... يخرج نيني اليوم من محاكمة كان من يستحقها هم الذين ذكروا ونشرت أسماؤهم في العمود الصحافي الذي اتسم بالجرأة، والذين بدأوا بتوقيع عريضة، تطالب بإدانة نيني، فلم تخرج إلى الوجود، لما التقى هوى البطانة برغبات الحواشي... عريضة تم إقبارها بمجرد العلم ببوادر القبض على نيني، كان مضمونها تحامل لم تشهد الصحافة مثيلا له من قبل على أحد أجرأ أقلام الرأي. بعد أيام يزفك الشرفاء في موكب الحرية، بين قلوب مبتهجة وأخرى وجلة، فالذين يخشون الحقيقة وحدهم تجل قلوبهم، وبعد أيام يصير من حقي (وأستسمح للمرة الألف على الضمير) أن أفرح فرحتين، فرحة معانقة القلم الشهم للحرية، وثانية لخروجه مرفوع الرأس لا يأبى الخنوع، أدى جزءا من الضرائب التي يؤديها الشرفاء في سبيل الوطن... لقد عفى الملك على نيني بحرمانه من العفو... لقد عفا عنه من الإدلال، ومنحه وسام الشهامة والشرف... وعلى مقياس المقولة الشهيرة لأحدهم: إنهم يحرموننا رغيف الحرية، فيقدمون لنا منه كسرا ثم يطلبون منا أن نشكرهم عليه... [email protected]