إجراءات لبناء الثقة في العمل السياسي يوازيها تحديات اقتصادية وسياسية بعد مرور مائة يوم الأولى على الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، يظهر أنه من الممكن؛ مع تحفظ عن أي تعميم؛ تقديم قراءة أولية للمشهد السياسي في المغرب، ومن ثمة محاولة تلمس بعض معالم التحول المستقبلية في دولة تعيش حالة انتقالية في ظل سياق اقليمي ودولي متحول وغير مستقر وبدون ضمانات. ثمة ملاحظتان أساسيتان يمكن استخلاصهما بعد مرور حوالي ثلاثة أشهر على تعيين الحكومة. الملاحظة الأولى تتعلق باجراءات بناء الثقة في العمل السياسي، والثانية تتعلق بالتحديات الإقتصادية والسياسية التي تعترض عمل الحكومة على المدى القريب والبعيد. إجراءات الثقة: اعتبر العديد من الباحثين والمحللين أن وصول حزب العدالة والتنمية في المغرب مؤشر دال على بداية تحول سياسي. فوصول حزب سياسي ذي المرجعية الإسلامية إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع يعتبر انفتاحا سياسيا يجسد الإرادة الشعبية لدى فئات واسعة من المجتمع، خصوصا وأن النتائج التي حصل عليها هذا الحزب تعكس تنامي تأثيره، ووصوله لمناطق وفئات اجتماعية جديدة من مختلف الجهات والطبقات الإجتماعية، وتجسيدا لرغبة في التغيير في إطار الإستقرار، خصوصا مع تراجع الاتجاه السلطوي إلى الوراء بعد اندلاع أحداث الربيع العربي، وحصوله على نتائج محتشمة في الإنتخابات الأخيرة. لقد أعطى انتقال حزب العدالة والتنمية من المعارضة إلى السلطة "جرعة" من الثقة في العمل السياسي، وبداية لتصالح المواطنين مع صناديق الإقتراع، تعكسه فعلا نتائج استطلاعات رأي متخصصة، أبرزها الاستطلاع الذي أنجزته مجلة Actuel وجريدة l'économiste ، وقد توصلت إلى أن فئات واسعة من المجتمع تثق في حكومة بنكيران؛ الأولى توصلت إلى أن حوالي 82 في المائة من المغاربة لهم ثقة في الحكومة الجديدة، والثانية 88 في المائة؛ وهو ما يكسبها دعما شعبيا جنبا إلى جنب مع شرعية صناديق الإقتراع. حاولت الحكومة خلال الثلاثة الأشهر الأولى ترجمة العديد من وعودها إلى واقع، من خلال القيام بمجموعة من المبادرات والإجراءات ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية وسياسية. أولا اجراءات اقتصادية من قبيل كشف بعض جوانب اقتصاد الريع المعششة في بنية الإقتصاد، أبرزها مبادرات وزراء في الحكومة عبر الإعلان عن لوائح المستفيدين من اقتصاد الريع في مجال النقل عبر المدن، أو الدعم العمومي سواء بالنسبة للجرائد أو لجمعيات المجتمع المدني، أو متابعة بعض المتهمين في قضايا اختلاس المال العام. مدعمة بإجراءات تقشفية ورغبة في التدبير العقلاني للمال العام، مثل قرار حزب العدالة والتنمية إعادة ملياري سنتيم من أموال الحملة الإنتخابية إلى خزينة الدولة أو قيام بعض الوزراء بالكشف عن أجورهم وتخلي بعضهم عن بعض الامتيازات. ثانيا اجراءات سياسية-أمنية، تتجلى بشكل أساسي في إطلاق سراح المعتقلين ألسياسيين أبرزهم معتقلو التيار السلفي على خلفية قضايا الإرهاب، وأيضا معتقلو مدينة بوعرفة. وأخيرا اجراءات اجتماعية، أبرزها صندوق التضامن الإجتماعي الذي ستضخ فيه الحكومة 2 مليار درهم لدعم العائلات الفقيرة وتقديم خدمات اجتماعية خصوصا في مجال التغطية الصحية، وصندوق التكافل الإجتماعي الذي يشمل حوالي 40 ألف امرأة تعيل أسرة، وكذا الرفع من قيمة منحة الطلبة. وقد غذى هذا العمل تغطية إعلامية دالة على عدد من وسائل الإعلامية التقليدية والحديثة مكنت من نشر والتفاعل مع مضامين هذه الإجراءات، أعطته إشعاعا مقارنة مع الحكومات السابقة. التحديات الذاتية والموضوعية: سيكون من المثالية تقييم أداء الحكومة خلال ثلاثة أشهر من دون الوقوف على أوجه القصور والتحديات القريبة والبعيدة المدى التي تحول دون تحقيق الأهداف المسطرة وتعيق مسلسل الدمقرطة في المغرب. وفي هذا السياق تبرز تحديات ذات طبيعة اقتصادية وسياسية-مؤسساتية. على المستوى ألاقتصادي يمر المغرب هذه من وضع اقتصادي دقيق، مرتبط بحالة المناخ وآثار الجفاف على الاقتصاد الوطني خصوصا في المجال الفلاحي خلال هذه السنة، إلا أن هذا العامل العرضي لا ينبغي أن يغطي عمق الأزمة البنيوية التي يعاني منها الاقتصاد الوطني، المتمثلة أساسا في ضعف التنافسية الإقتصادية وزواج السلطة والثروة، مما يحتاج إلى عملية جراحية نحو تحرير اقتصادي للسوق أكثر فأكثر وفتحها أمام التنافسية، سيسمح ببروز فئات اجتماعية جديدة وتوسع الطبقات الوسطى، مما يؤدي إلى الإستقرار على المدى البعيد. التحدي الثاني يرتبط بالعامل السياسي والمؤسساتي، يبرز على المدى القريب تحدي استمرار انسجام الأغلبية الحكومية وقدرتها على تكوين فريق منسجم وقوي له القدرة على تنزيل البرنامج الحكومي بفعالية، كما تظهر أيضا تحدي التنسيق وتدبير العلاقة مع المحيط الملكي، المواقف المتباينة بين بعض أعضاء الحكومة الحالية وسلوكات بعض الدوائر القريبة من القصر مع الحكومة الحالية ومواقفها المصرفة عبر قنوات معينة، يمكن أن تؤدي إلى تداعيات على مستوى الانسجام الحكومي والثقة بين الحكومة والقصر. أما على المدى البعيد فإن تحدي بناء تقاليد ديمقراطية مؤسسة على التعددية والحكم الرشيد والتداول السلمي على السلطة والفصل بين الثروة والسلطة يعتبر أحد الرهانات التي يفترض على الحكومة الحالية العمل على ترسيخها. بعد مرور ثلاثة أشهر على حياة الحكومة الحالية، يظهر أن ضمانات إنتقال ديمقراطي بالمغرب ما زالت تحتاج إلى المزيد من النضج، فهو يعيش مخاضا سياسيا قويا، يحتاج من الباحثين وقتا كافيا للتقييم الموضوعي للمخرجات الممكنة على مستوى ترسيخ الديمقراطية. إلا أن محددات أخرى مثل دور باقي الفاعلين في المعادلة حاسم (المجتمع المدني، النخب ألاقتصادية المخزن...) ومدى نضج الثقافة السياسية داخل المجتمع نفسه تعتبر حاسمة لمستقبل الديمقراطية، وهو موضوع مقالة لاحقة.