يوم انتصرنا في عمورية ،سَنَّ لنا أبوتمام الشاعر المعروف قانونا أدْمنَّاهُ حدَّ الوله،ورددناه حد التقديس،وأصبح شعارا لا نمل من تكراره في كل المناسبات.فربما انهزمنا شر هزيمة،ومع ذلك لا يمل خطباؤنا من تمجيد السيف والإشادة به،وربما انتصرنا نصف انتصار أو ربع انتصار أو حتى بمقدار واحد بالمائة انتصار،فنصرخ بأعلى صوتنا،ونردد في كل الآفاق ،صدق من قال : السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب إنه التشبث بالقوة في مظهرها المادي والعسكري ،وجعلِها رمز السطوة والقدرة على ثني الأعداء والخصوم والمناوئين.رغم أن في التاريخ المديد، وفي التجارب الإنسانية المعاصرة ،شواهد عديدة تؤكد أن القوة العسكرية لم تكن دائما عامل ترجيح ،وربما أتت هذه القوة بنتائج عكسية تماما.فدائما هناك قوة معاكسة قد تكون أقدر فتكا وأكثر إحكاما،ولعل ما وقع في الحرب العالمية الثانية يُذكِّرُ كل من له ذاكرة أو بصيرة بما جره غرور القوة العسكرية على بلد قوي مثل اليابان.إن هذه الدولة كانت واحدة من الإمبراطوريات التي استطاع جيشها أن يغزو دول الجوار ويستعمر بعضها.ومع ذلك باد سلطانها،وانتهى زمانها،وكانت عبرة لمن اعتبر،في انتصاراتها وانكساراتها،في صعودها وفي تراجعها المهين. لقد جعلت عقيدة الساموراي من الشعب الياباني شعب محاربين متمرسين على القتال، يرون التضحية بالنفس أرقى تمثل لعقيدتهم،ولم يكتفوا بالموقف الدفاعي المسنود أخلاقيا في كل الشرائع والمبرر قانونيا،بل تمادوا في استعراض قوتهم حدَّ الغرور،وأصيبوا بمرض القوة الرهيب الذي كان سببا في استعلائهم واستباحتهم أراضي الشعوب الأخرى.فماذا كانت النتيجة؟ لقد كانت هذه القوة سببا ،من بين أسباب أخرى لكنه على رأسها،جعل إمبراطورية أخرى ناشئة،هي الولاياتالمتحدةالأمريكية،تصطدم اصطداما عنيفا بقوة الساموراي ،وهكذا عرف العالم أسوأ كارثة جلبتها الحروب على البشرية منذ وجد الإنسان على هذه الأرض.لقد لجأت الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى السلاح النووي لتحسم المعركة سريعا،ولتحطم القوة اليابانية شر تحطيم.لقد تبين بالملموس أن القوة العارية لم تكن،ولن تكون أبدا،مصدر تفوق دائم. وتوصلُ العقل البشري لاختراع هذا السلاح الفتاك واستعماله،كان نقلة خطيرة جدا. (اُستُعمِلَت القنبلة الذرية مرتين في تاريخ الحروب؛ وكانتا كلتاهما أثناء الحرب العالمية الثانية عندما قامت الولاياتالمتحدة بإسقاط قنبلة ذرية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي في اليابان في أواخر أيام الحرب، أوقعت الهجمة النووية على اليابان أكثر من 120.000 شخص معظمهم من المدنيين وذلك في نفس اللحظة، كما أدت إلى مقتل ما يزيد عن ضعفي هذا الرقم في السنوات اللاحقة نتيجة التسمم الإشعاعي أو ما يعرف بمتلازمة الإشعاع الحادة، انتقدت الكثير من الدول الهجوم النووي على هيروشيما وناجازاكي إلا أن الولاياتالمتحدة زعمت أنها أفضل طريقة لتجنب أعداد أكبر من القتلى إن استمرت الحرب العالمية الثانية فترة أطول) أنظر ويكبيديا . أمام هول هذه الفاجعة تابت اليابان إلى رشدها ،وقررت قرارها الأول أيضا من نوعه في التاريخ البشري،المتمثل في جعل السلام عقيدة الأجيال الموالية،وبدل الاستثمار الرهيب في التسلح والتوسع على حساب دول الجوار،آثرت اليابان الاستثمار في حقول المعرفة التي تخدم الإنسانية وترتقي بالعلم والتكنولوجيا (سنوات ضوئية)، بالمقارنة مع الشعوب التي مازالت بدائية في تفكيرها، وترى أن التسلح، ومزيدا من التسلح فقط، السبيل الوحيد لفرض إرادتها على الشعوب الأخرى، وإظهارها بمظاهر القوة والغطرسة والتجبر. في كتابه المتميز : ( العرب،وجهة نظر يابانية ) يقول الكاتب الياباني المستعرب نوبو أكي نوتوهارا : ( كثيرا ما واجهتُ هذا السؤالَ في البلدان العربية: لقد ضربتكم الولاياتالمتحدةالأمريكية بالقنابل النووية،فلماذا تتعاملون معها؟ العرب عموما ينتظرون من اليابانيين عداء عميقا للولايات المتحدةالأمريكية لأنها دمرت المدن اليابانية كافة.ولكن طرح المسألة على هذا النحو لا يؤدي إلى شيء.علينا نحن اليابانيين أن نعي أخطاءنا في الحرب العالمية الثانية أولا ثم أن نصحح هذه الأخطاء لأننا استعمرنا شعوبا آسيوية كثيرة ثانيا.وأخيرا علينا أن نتخلص من الأسباب التي أدت إلى القمع في اليابان وخارجها.إذن المشكلة ليست في أن نكره أمريكا أم لا.المشكلة في أن نعرف دورنا بصورة صحيحة ثم أن نمارس نقدا ذاتيا بلا مجاملة لأنفسنا ،بعدئذ نختار الطريق الذي يصحح الانحراف ويمنع تكراره في المستقبل.أما المشاعر فإنها مسألة شخصية محدودة لا تصنع مستقبلا ) إن الكاتب يطبق القانون المشار إليه في القرآن ( قل هو من عند أنفسكم ) ،أي أن الخلل ذاتي أصيل،وليس طارئا من خارج الذات نفسها.فبدل إلقاء اللوم على الآخر وشيطنته وجعله سبب المأساة،يجدر أن يلتفت الإنسان إلى ذاته المنفردة أو الجمعية، ليعرف مكامن الخلل الأصلية التي كانت سببا فيما حدث.وهو إن فعل،يكون قد قطع ثلاثة أرباع المسافة نحو الحل الصحيح.أما المواقف العاطفية الهوجاء،التي كل ما تفعله،السب والشتم والكراهية لدرجة التطرف،فلا تفعل شيئا غير تأجيج الصراع،وزيادة الأحقاد،خاصة في صفوف المتطرفين من الضفة الأخرى. لقد استطاع اليابانيون استخدام التفكير الموضوعي المجرد،الذي يوازن بين المكاسب والخسائر،بين الواقع كما هو وبين ما يطمح له الشعب،بين أوراق القوة المتاحة ونقط الضعف التي يصعب تجاوزها... وقرروا في نهاية المطاف أن يختاروا أقصر سبيل لإعادة تأهيل بلادهم،وتطوير صناعاتهم،والنهوض بالتنمية والأحوال المعيشية لمجموع المواطنين.لم يلجؤوا إلى النواح والعويل وتأبيد حال الحزن والتباكي .ولم يلجؤوا لمن ينصفهم من الخارج.بل أنصفوا أنفسهم بأنفسهم.وفي برهة قصيرة جدا،استطاعوا إعمار ما تخرب،وبناء ما تهدم،وترميم ما انكسر... بل أصبحت المعجزة اليابانية سابقة من نوعها في تاريخ الحضارات البشرية كلها. أما نحن العرب ... ولست بذلك أجلد ذاتاٌ ولا أندب حظا عاثرا.بل هو تنبيه لعلنا نتدارك بعض ما ضاع.أدمنا البكاء قرونا متواصلة.وأصبح في حياتنا كلها،من بدايتها حتى منتهاها ، لكل شيء إذا ما تم نقصان.وفي القرن العشرين فقط والقرن الواحد والعشرين،خرجنا من النكبة إلى النكسة،ومن النكسة إلى الورطة،ونختزل الصراع كله في بندقية محمولة على الأكتاف نُطهِّرُ بها الأرض والعرض.فلا عجب أن نبقى دائرين في نفس الدائرة الجهنمية.لا نكاد نبرحها جيلا بعد جيل.إنه هوى القوة بدون أسباب القوة الحقيقية،وبكل مقوماتها وأنواعها،وفي مقدمتها قوة التفكير والتحليل والنقد وإبداع الحلول المناسبة والملائمة لكل مرحلة تاريخية. أخي العربي ... آن الأوان ،أن تغير اتجاه البوصلة بعض الشيء: كن يا باني التفكير .... لا تبق عربي الهوى إلى الأبد. [email protected]