كثر الحديث في الايام القلائل الماضية حول مسألة "لاكريمات-المأذونيات" أو "امتيازات الاستغلال" حسب المنطق الاقتصادي. وكان بديهيا أن يتم الربط بين هذه المسألة واقتصاد الريع بصفة عامة. غير انه وبما أننا نعيش زمن l'Hypertexte, فإن تناول هذه المسألة من طرف وسائل الاعلام على الخصوص لم يكن ليعطيه الحيز الكافي لقراءة خصوصياته المغربية و سيرورته وملابساته وتعقيداته الموضوعاتية. كل انواع الرخص ذات الطابع الامتيازي المبنية على النسب أو العائلة أو الجنس أو الدين أو الثقافة أو غير ذلك, تعتبر ريعا في وجهة النظر الاقتصادي, وتتنافى بذلك ومبدأ المنافسة التامة والصافية حتى وإن كانت قانونية من وجهة نظر ادارية ودستورية. وهي بذلك تؤدي من جهة, الى استمرار عيش طفيليات مجتمعية على حساب الطبقات النشيطة من المجتمع دون أن تدفع لهذا الاخير اية خدمة بالمقابل. ومن جهة ثانية, تعمل على خلق مجالات اقتصادية محمية, في إطار الاحتكار, لا تعبر بالضرورة عن تنافسية حقيقية بل فقط مصطنعة, إرادية وغير طبيعية. وكنتيجة لذلك لا يمكن أن تدفع بالاقتصاد ومن خلاله بالمجتمع نحو التقدم والانعتاق, لكونه سينهار أمام أول مواجهة مع منافسين حقيقيين تتوفر فيهم الخصائص الاقتصادية السليمة (وهو ما يقع الان في المغرب بالنسبة لقطاعات متعددة بما فيها النقل). حول الريع فالريع هو أجرة كرائية كانت تدفع لملاك الاراضي (عن طريق التوارث) والنبلاء والعائلات الكبرى ورجال الدين والسلطة بأوروبا, خلال القرون الوسطى, من طرف الفلاحين النشطين والمزاولين فعلا لأنشطة الفلاحة, مقابل استغلال الارض. فمن الناحية الاقتصادية ليس هناك ما يبرره سوى كون فلان هو من ابناء علان. لذلك ومنذ القرن 18 انتفضت المدارس الاقتصادية المعاصرة كلها (منذ الكلاسيكيين الى اليوم) على مسألة الريع باعتباره, من جهة يتنافى ومبدأ الحرية (يولد كل الناس متساوون في الحقوق والواجبات) ومن جهة أخرى, لكونه يعتبر في نظرهم (الاقتصاديين) سرقة في حق الاستثمار الواجب لإعادة تشكيل دورة الانتاج, وتطويرها في وجه المنافسين المحتملين. حول المأذونيات ان مسألة المأذونيات بالمغرب كان المراد بها التآزر الاجتماعي (تجاه ذوي الاحتياجات الخاصة والمعوزين) وكذا التعويض عن الخدمات التي قدمت للوطن في اطار تحريره أو صيانة وحدته. وحتى وإن كان هذا الهدف حميدا في حد ذاته, فانه يتنافى والمنطق الاقتصادي السليم الذي يفضل خصم "المعونات" من القيمة المضافة المنتجة – لإعادة توزيع الثروات - في اطار اقتصادي سليم, عوض خلق محميات هشة وغير دائمة. هذا المبدأ ظل بعيدا عن الواقع في بلادنا, ولقد استغلت هذه الامتيازات لكسب الولاءات وتثبيت نفوذ المخزن وبعض الاحزاب المتعاقبة على سدة الحكم. وكان من نتائج هذه الممارسة تكريس مبدأ اعادة الانتاج المجتمعي Reproduction sociale (المصطلح العزيز على كارل ماركس) فاصبح الامتياز كذلك يتوارث في تناف مطلق مع مبدأ التساوي بين البشر وغير خاضع للضريبة وخارج عن كل الحسابات الاقتصادية. حول المأذونيات المجتمعية والسياسية حتى وإن كان مجمل الاقتصاد الوطني, بل والمجتمع والسياسة والثقافة وغير ذلك, يخضع في بلادنا لمبدأ المأذونيات معلنة كانت أو غير معلنة, فان الحديث انحصر فقط على ميدان النقل. وكان واجب علينا فضح كل المسكوت عنه. ان الفلاحة في المغرب تخضع لمبدأ المأذونيات, خاصة في قطاعها المصنع والموجه نحو التصدير, فكيف يعقل ان تمنح لكبار الفلاحين مأذونية لاستغلال اراضي الدولة من دون اداء الضريبة. والسياسة في المغرب كذلك تخضع لمبدأ المأذونيات العائلية والحزبية (التي تشبه نظام الزوايا وحكم اللوردات), فما كان لساركوزي مثلا أن يصل الى ما وصل اليه لو ولد بالمغرب. وما كان لرشيدة داتي أن تنجح لو ظل ابوها في حي سباتة بالدارالبيضاء. وكبار الوظائف, وخاصة السامية منها, تخضع كذلك لنفس المنطق, "منطق الريع" أي دون أن يكون هناك استحقاق مبرر وفق المعايير المستعملة عالميا ولكن فقط لوجود وسيط في المكان المناسب. ان المنطق الاقتصادي السليم في كل القطاعات يقتضي العمل على "وتنافسوا", "ولا تنفذوا الا بسلطان", "سلطان العلم والعمل والمثابرة والاجتهاد طبعا", "لأن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة". ذاك هو مبدأ المنطق الاقتصادي الذي هو كذلك مبدأ ديننا الحنيف, فالزكاة يؤديها الاغنياء بعد عملية الانتاج وليس قبلها. حول مأذونيات النقل الى حدود 2003 في قطاع نقل البضائع والى يومنا هذا في قطاع نقل الاشخاص, يخضع قطاع النقل لنظام المأذونيات أو الامتيازات الممنوحة للأفراد (الذاتيين أو المعنويين) لاستغلال خط بعينه. وقد كان من شأن هذا الامتياز أن يحمي الناقل ضد كل منافس محتمل على طول خط الاستغلال. ويمكن للشخص "المميز" أن يستغل الخط لحسابه وبنفسه أو يقوم بكرائه لغيره. وبما أن أغلب "المميزين" هم ليسوا من أهل الحرفة, فإنهم يقومون في أغلب الاحيان بكراء "الامتياز" الى النقالين الحقيقيين والحرفيين. هذا التصرف يخلق مجالات احتكار تتنافى ومنطق النمو الاقتصادي السليم. وتكون النتيجة في كل الاحوال في غير صالح القطاع والاقتصاد عامة, وكذلك في غير صالح المستعمل و المستهلك وحتى الامة بصفة عامة. كيف ذلك؟ إن الأجرة الكرائية الممنوحة لصاحب المأذونية (والتي قد تفوق 120 الف درهم في السنة بالنسبة للحافلات و1.2 مليون درهم في العشر سنوات = ثمن شراء حافلة جديدة) تخصم من امكانية الاستثمار في العربات لتطويرها وصيانتها واستبدالها بعد استهلاك مدة عملها النظري ( (Amortissement, كما تخصم من اجرة العاملين بالقطاع على حساب تأهيلهم وتكوينهم وسلامتهم ليكونوا في المستوى المطلوب. ونتيجة لقلة الاستثمار في العربات وفي المشتغلين عليها, تقل تنافسية القطاع بحكم تهالك العربات وعدم جاهزيتها وضعف كفاءات موارده البشرية. يرتفع بذلك الثمن بحكم قلة الانتاجية وتقل الجودة لغياب المنافسة في وضع الاحتكار هذا, فيخسر أولا المستهلك ماديا (غلاء الثمن) ثم يخسر بعد ذلك حياته في حوادث السير التي يكون المسؤول عنها مثل تلك العربات المنتمية لزمن غابر. ويخسر اقتصادنا الوطني ثانيا, الذي يكون مجبرا لمعالجة ما يسمى في الاقتصاد "بالبط الاعرج"canards boiteux من خلال منحه تسهيلات جبائية وضرائبية ومساعدات مادية غير مبررة ,لإنقاذه من الانقراض. وتخسر الامة عامة فرص للنمو والانعتاق والتقدم. حول محاربة المأذونيات لقد كان لحكومة التناوب التي ترأسها عبدالرحمن اليوسفي الشجاعة الكبيرة والفريدة لما عملت على صياغة قانون يلغي المأذونيات (وليس فقط يشهر بأصحابها كما تفعل الحكومة اليوم) في ميدان نقل البضائع. انه القانون 16.99 الذي رأى النور منذ 2003 بعد مخاض عسير. هذا القانون ازاح الامتياز والغى المأذونيات والاحتكار في مجال نقل البضائع. حتى وإن لم يستطع هذا القطاع ان يتقدم بالطريقة التي كنا ننتظر (نظرا لاستمرار تسلط غير الحرفيين على الميدان) فإنه من الناحية الاقتصادية, على الأقل, حرره من "صك" (نسبة الى صكوك الغفران) غير مبرر يمكن أن يستغل في تطوير قدراته الانتاجية على المدى المتوسط والبعيد. ننتظر من الحكومة الحالية ان تقوم بسن قانون يسير في نفس اتجاه قانون 16.99 ويلغي كل المأذونيات في قطاع نقل الاشخاص تطويرا للقطاع وخدمة للمستهلك والمواطن والوطن. هذا أمر لا اتوقع حدوثه شخصيا في المدى المنظور على الأقل, لتعقد هذا الميدان من خلال لوبياته وتداخلاته السياسية والمصلحية والانتخابوية (خاصة مع اقتراب الانتخابات الجماعية والجهوية) وغير ذلك. وحتى عملية التشهير فإنها, بعد التمعن في لوائح المستفيدين المنشورة, لم تطل سوى الاشخاص الماديين الذين لا يتوفرون في الغالب سوى على رخصة واحدة أو رخصتين في أحسن الاحوال, وتتعلق في جلها بخطوط غير مهمة ماديا. لذا يتوجب على الوزارة الوصية, في شخص وزيرها, ان تنشر لائحة تكميلية بالأسماء التي تختبئ وراء تسميات الاشخاص المعنوية والشركات (التي تملك عشرات الامتيازات, والتي تختبئ وراءها عائلات وشخصيات نافذة ومعروفة في المشهد السياسي المغربي), تطبيقا للفصل 27 من الدستور الذي يلزم كل إدارة تنتمي للقطاع العام بإخبار المواطنين. حول محاربة اقتصاد الريع لقد أصبح اقتصاد الريع بالمغرب هيكلي وبنيوي وجد لصيق بالهيكل الاقتصادي نفسه. يصعب محاربته دون أن تتهاوى الذات كلها (كما يقع حاليا بالنسبة للنقل البحري والجوي والنقل الدولي للبضائع) تماما كما يحدث في حالة السرطان المعمم في الجسد. لقد أصبح الريع ثقافة وممارسة. استفادة الاغنياء من صندوق المقاصة هو ريع. واستفادة شركة كوكاكولا من دعم السكر من طرف صندوق المقاصة هو ريع أيضا. واستفادة ابن فلان من وظيفة دون أن يستحقها علميا واقتصاديا واجتماعيا هو ريع بالتأكيد. وإحداث منصب غير مجدي اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا هو ريع أيضا. وعدم تطبيق حكم قضائي في حق شخص لنسبه أو لجاهه هو كذلك ريع. والتهرب عن أداء الضريبة هو ريع. وتوارث المناصب والنفود هو كذلك ريع. وامتيازات الصيد والمقالع ونهب الرمال هو ريع ايضا وسيظل كذلك. والاغتناء من خلال المقامرة في البورصة هو كذلك ريع (باعتباره يتم في كثير من الاحيان على حساب الاقتصاد الحقيقي والعيني وتسريح العمال واغلاق المعامل). في اروبا أصبح المنادون بمحاربة الريع يطالبون بسن ضرائب جد مرتفعة في حق الإرث على الورثة المستفيدين قد تصل 75الى في المائة باعتباره ريعا كذلك وامتياز غير مبرر اجتماعيا.