منذ أن غادرت المعتقل، وأنا أحاول التعرف على المغرب الجديد، المغرب الذي ودعته منذ تسع سنوات، ولم يربطني به إلا أخبار متناثرة يحملها الزوار، أو لقطات من هنا وهناك على شاشة الأخبار، ولكي أكون منصفا،وهكذا تربيت أن أكون، فقد لحظت تطورا عمرانيا لا تخطئه العين، وبنية تحتية تشرف كل منتم لهذا البلد،رأيت المؤسسات التعليمية المتطورة، والمنشآت الصحية الشامخة، والامتداد العمراني المهول، والطرق السيارة المريحة، والمركبات التجارية الفخمة، والملاعب الرياضية الراقية ، وغير ذلك مما سجلته بإعجاب وافتخار. لكنني كنت أظن أن هذا التطور الملحوظ في بناء المنشآت والمركبات، رافقه ما هو أهم من ذلك كله، وهو العناية بالإنسان وآدميته وكرامته ، وكنت أظن أن بعض التصرفات المتخلفة قد تركتها خلفي في السجون ، بحكم وضعها الخاص، وحاجتها لإصلاح جذري ليس هذا وقت الحديث عنه، وكنت أظن أن الربيع العربي قد أعطى درسا مفيدا لكل موظف أو عامل في أي مصلحة أو إدارة، واعتقدت أن تشكيل الإسلاميين للحكومة، ونحن لا نعرف من سيرهم إلا الحزم و الصدق والجدية، سيجعل أخبار الإهمال و إهدار الكرامة والاستهتار بالأرواح ماضيا وتاريخا للنسيان والإلقاء في القمامة ، حتى أصبت ليلة الجمعة الماضية بتسمم غذائي حاد ، بسبب طعام لا أعرف ماهيته إلى اليوم، فاتصلت بأحد أصهاري ليحملني سريعا إلى أكبر مستشفى عمومي بمدينة فاس، وهو المركز الاستشفائي الجامعي، والذي طالما سمعت و أنا بالسجن عن بناياته الضخمة ، وأجهزة الفحص والتشخيص المتطورة ، فحسبت أن ذلك رافقه تغير في الأداء والعقلية ، لكني رأيت في ذلك الصباح ما جعل ظنوني أحلاما، و توقعاتي سرابا. فقد وصلت قسم المستعجلات وأنا في حالة مزرية ، تتقطع أمعائي وتتمزق معدتي، والألم قد بلغ مني مبلغا لا يمكن تحمله، وأنا لا أكف عن التقيئ حتى وأنا على باب القسم المذكور، و وجدت رجلا وامرأة قد سبقاني إلى المكان لا يقل ألمهما عن ألمي ، بل قد تفوق معاناتهما ما بي، وحين طالبنا بالدخول المستعجل على الطبيب لشدة الألم أخبرنا بضرورة انتظاره إلى ما فوق التاسعة صباحا، مع أن الساعة حينذاك لم تبلغ السابعة ، و أفظع من ذلك ، أني لما طلبت من الموظف الجلوس على مقعد من مقاعد القسم رفض ذلك بحجة أن الوقت وقت التنظيف وليس لنا إلا الوقوف خارج القسم ، وانتظار وصول طبيب المستعجلات بعد ساعتين أو أكثر. ولأنني لم يكن بإمكاني تحمل الألم الذي يمزق معدتي، و لا معاناة الرجل والمرأة رفيقاي في هذه المحنة، فقد استرجعت شيئا قليلا من دروس النضال التي أصبحت بها خبيرا بعد تجربة طويلة في السجون، فرفعت صوتي محتجا ، وهددت بالاعتصام على باب المستشفى ، و نددت بهذه السلوكيات المتخلفة ، وسط ذهول من الموظفين الذين لم يتعودوا ربما مثل هذه النبرة من الاحتجاج، فما كان إلا أن تغيرت الأحوال بقدرة قادر، وأصبح الطبيب موجودا بعد أن كان مفقودا، ولم يبق الانتظار لازما، فتم احتواء غضبي بإ دخالي على طبيبة لم تكلف نفسها عنت الفحص والمراقبة، بل اكتفت بأسئلة روتينية شفوية ، لتحيلني على قسم التمريض من أجل حقنة على العضل. وحين ظننت أن محنتي ستنتهي مع هذه الحقنة المهدئة ، لم أتوقع محنة أخرى، أنا ومن معي، ذلك أن تناول هذه الحقنة لا بد أن يسبقه التسجيل وأداء مبلغ ستين درهما، فلما توجهنا لمكتب التسجيل بقسم المستعجلات، أي الحالات العاجلة التي قد تفد ليلا أو نهارا، وجدناه خاويا على عروشه، ليس به أثر حياة، فلما استفسرنا عن ذلك والألم قد زادت حدته، والحقنة هي الأمل بعد الله في ذهابه، قيل لنا بأن الموظفين لن يحضروا إلا عند ابتداء الدوام الرسمي، أي بعد ساعة أو أكثر من ذلك الوقت، وأنه لا حيلة لنا إلا الصبر، فطلبنا منهم تناول الحقنة ثم انتظار الموظف وقتما تيسر ، على الأقل لتهدئة الألم، فرفض طلبنا رفضا قاطعا ، مع أنني كنت أتطلع إلى الحقنة في يد الممرض والتي أرى فيها خلاصي، لكن غياب موظف المستعجلات عن مكتبه زاد في معاناتي وألمي. فلم أصبر مرة أخرى ، ورفعت صوتي بالاحتجاج ، وطالبت بمقابلة المسؤولين عن المستشفى، إذاك تدخل أحد الموظفين ليدخلني إلى قاعة التمريض ، لأتناول الحقنة بعد طول معاناة مع الألم و مع اللاإنسانية التي عوملت بها ومن معي ، و الأعجب من هذا، أن تلك الحقنة لم يكن لها أي مفعول، بل اشتد الألم ، ولم أتوقف عن إلقاء القيء، مما اضطرني للتوجه مرة أخرى إلى مصحة خاصة، حيث لقيت عناية لا ئقة، واستقبالا مناسبا، ومع ذلك لم يتوقف الألم إلا يوما بعد ذلك، ولا زال يعاودني أحيانا لحد الساعة. هكذا وجدت بلدي بعد سنوات من الانقطاع، تغيرت الأشكال والرسوم ، ولم تتغير الذهنيات و العقليات و السلوكيات، لقد كتبت هذه الكلمات وأنا أعلم أن ما وقع لي يقع لآلاف غيري، لكن لا يسعفهم القلم لتسطير ما جرى لهم، فلذلك حملت قلمي نيابة عنهم، ليصل الصوت لمن بيده أزمة الحكم، تعاونا على البر والتقوى، ونصيحة لله ورسوله، فأنا أعلم أن الحمل ثقيل، و أن الإصلاح يحتاج لمزيد من الصبر والتأني، لكن كرامة الإنسان و آدميته من الأولويات التي لا يمكن تأجيل النظر فيها ، أو إخضاعها لأي حسابات سياسية أو استراتيجية، فالخالق عز وجل هو من كرم الإنسان وعظمه على سائر الخلق، وصيانة هذه الكرامة ورعايتها من أوجب الواجبات و أولى الأولويات .