تشكّل مغادرة بريطانيا خسارة لا يمكن إنكارها للاتحاد الأوروبي؛ غير أن انقطاع هذه الشراكة، التي تشوبها تاريخياً شكوك، قد يشكّل فرصة لدول الاتحاد للتقدم إلى الأمام في ميادين عديدة، كما يرى خبراء. وتعد بريطانيا ثاني اقتصاد في القارة بعد ألمانيا، وإحدى القوى العسكرية العظمى التي تملك السلاح النووي، إلى جانب فرنسا. ويأتي الانفصال بعد 47 عاماً من تحالف مضطرب، وقد يسمح بإحراز تقدم في سياسة الدفاع المشترك. يرى بيار فيمون، الباحث المتعاون مع مركز أبحاث كارنيغي أوروبا، أن "بريطانيا لم تكن يوماً مؤيدة لأمن أوروبي مستقلّ. لطالما دافعت عن الدور الأساسي لحلف الأطلسي". ويشير إلى أن "بعد الاستفتاء حول بريكست، إنها بالضبط اللحظة التي بدأت فيها أوروبا الدفاعية في الظهور". على صعيد السياسة الخارجية، لا يُفترض أن تبتعد لندن عن المواقف الأوروبية في المسائل الكبيرة؛ مثل الملف النووي الإيراني وروسيا والشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال في شتنبر، اصطدمت واشنطن، التي كانت ترغب بإعادة فرض عقوبات دولية على طهران بشكل أحادي، بجبهة موحدة تضمّ باريس وبرلين ولندن. عامل بايدن وضّح بيار فيمون، وهو ممثل سابق لفرنسا لدى الاتحاد الأوروبي، أن "لندن سترغب في الحفاظ على علاقة مميزة مع فرنساوألمانيا والثنائي الفرنسي الألماني لا يرغب في قطع (العلاقة) معها. أملها هو إيجاد طريقة تعود من خلالها إلى اجتماعات الدبلوماسيين الأوروبيين". ويشير فيمون إلى أن "البريطانيين سيدورون حول الاتحاد الأوروبي للحصول إما على علاقات ثنائية أو محاولة إقامة روابط مع مجموعات تضمّ دولاً" على غرار مجموعة فيشيغراد (المجر وبولندا وجمهورية تشيكيا وسلوفاكيا)". ويجب الأخذ بالاعتبار عامل مهمّ أيضاً هو وصول الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن المعارض لبريكست، في يناير إلى البيت الأبيض. ويعتبر إريك موريس من مؤسسة شومان أن بايدن "سيكون أقل ميلاً من ترامب لتقسيم الأوروبيين". على الصعيد الاقتصادي، قد تشهد العلاقات فوضى أكبر في حال حصل انفصال مع اتفاق أو بدونه؛ لكن التوصل إلى اتفاق "تاريخي" على صعيد الإنعاش الاقتصادي لمرحلة ما بعد "كوفيد-19" يخلق ديناً أوروبياً مشتركاً، كان سيمثل تحدياً يستحيل مواجهته في اتحاد يضمّ 28 دولة. ويرى المؤرّخ روبرت فرانك، الذي خصص كتاباً للعلاقات بين الإنجليز والأوروبيين، أن "مع وجود البريطانيين (في الاتحاد) لم يكن بالإمكان حتى التحدث عن الأمر، لكانوا قالوا فوراً (لا). الأوروبيون لديهم احتمالات أكثر للتقدم". وستتغير العلاقة التجارية أيضاً "بشكل جوهري" بين لندن والسوق الموحدة مع فرض إجراءات رقابية جمركية، بالإضافة إلى المعاملات الورقية وتمديد المهل في سلاسل الإنتاج في قطاعات متشابكة للغاية، على غرار صناعة السيارات أو الصناعة الكيميائية. وتتوقع يانايك فاخوفياك من مركز السياسة الأوروبية أن "التداعيات ستكون غير متكافئة"، وستؤثر بشكل خاص على بلجيكا وإيرلندا وألمانيا وهولندا وفرنسا في أدنى تقدير. وتعتبر الخبيرة الاقتصادية أن "بشكل شامل، ستؤثر الصدمة الاقتصادية أكثر على المملكة المتحدة. أما الاتحاد الأوروبي فيُفترض أن يمتصّها بشكل أفضل". كانت المملكة المتحدة ترى أوروبا كسوق كبيرة قبل كل شيء، وبقيت خارج سياسات دمج كثيرة على غرار اتفاق منطقة شينغن لحرية تنقل الأشخاص والعملة الموحدة. والقيمة المضافة التي قدّمتها لبناء المجموعة كانت مرتبطة بأوروبا الليبرالية. ويشير روبرت فرانك إلى أنه "مع الوباء، أدرك (الجميع) أن الدولة ضرورية في نهاية المطاف، ونبتعد عن هذه الرؤية الليبرالية جداً التي ندد بها الكثير من المشككين في جدوى الاتحاد الأوروبي". "لعبة اليويو تستمرّ" وسمحت شدة الأزمة على أية حال باستعادة زخم الوحدة في صفوف الأوروبيين خلال الصيف، حتى لو أن بولندا والمجر تفسدان هذه الأجواء حالياً؛ لكن بعد مرور الأزمة، هل ستميل دول أخرى إلى الاقتداء بالنموذج البريطاني؟. ويحذّر أندرو داف، النائب البريطاني السابق في البرلمان الأوروبي، (ليبرالي ديمقراطي) من أن "توترات ستحصل مع الدول الشرقية" خصوصاً إذا "حققت بريطانيا مطالبها في الانفصال". لكن حتى الآن، حرصت وارسو وبودابست، اللتان تستفيدان بشكل كبير من التمويل الأوروبي، على عدم التهديد بالخروج من التكتل، خصوصاً أن الرأي العام في البلدين مؤيد للبقاء في حضن الاتحاد الأوروبي. وسيشكل انفصال الأول من يناير 2021 فصلاً جديداً في التاريخ المضطرب بين الجزيرة والقارة العجوز؛ لكن قد لا يكون الأخير. ويرى روبرت فرانك أن "البريطانيين، منذ قرون، تارةً في الداخل وطوراً في الخارج. لعبة "اليويو" ستستمرّ، إلا إذا فشلت أوروبا. إذا تمكنت، بفضل بريكست من إصلاح نفسها والعمل بشكل أفضل، سيكون بالإمكان الاعتماد على براغماتية البريطانيين للقول: (سنعود)". *أ.ف.ب