تُواجه كافة قطاعات الاقتصاد العالمي منذ ربيع 2020 صدمات عميقة بفعل انتشار فيروس "كورونا"، لكن يبقى نظام الطاقة العالمي الأكثر تضرراً على الإطلاق، حيث أُغلقت معظم مدن العالم، وتم فرض قيود السفر على نطاق واسع، وتوقف الناس عن قيادة سياراتهم إلى العمل، كما توقفت رحلات الطيران، وأُغلقت المصانع ومراكز التسوق، وهو ما قلّل بشكل كبير الحاجة إلى الطاقة بجميع أنواعها. وحسب ورقة بحثية لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، فإن دراسة تأثيرات جائحة "كورونا" على قطاع الطاقة، ومحاولة استكشاف مستقبل ما بعد الجائحة، ليست قضية اقتصادية بحتة، بل نقطة تحول مركزية في تاريخ العالم. وتشير الورقة البحثية إلى أن هذا التحول قد نشهد على إثره تحولات جيوسياسية هامة، وتغيرات في مراكز قوى النظام العالمي، وهذا ما ركّز عليه مايكل ت. كلار، أستاذ دراسات السلام والأمن العالمي في كلية هامبشاير بأميرست بالولاياتالمتحدةالأمريكية، في ورقته التحليلية المنشورة في دورية Current" History"، عدد نونبر 2020، تحت عنوان "الطاقة بعد كوفيد: بداية نهاية النفط". أسواق الطاقة تكشف توقعات الوكالة الدولية للطاقة أن صافي الطلب العالمي على الطاقة سينخفض بنسبة 6 في المائة عام 2020 مقارنة بسنة 2019، وهو أكبر انخفاض منذ 70 سنة من حيث النسبة المئوية، وأكبر انخفاض على الإطلاق تاريخياً. ورغم أنه من المتوقع حدوث بعض الانتعاش السنة المقبلة بافتراض استئناف النشاط الاقتصادي العالمي، فإن الأضرار التي لحقت بصناعة الطاقة خلال أزمة "كورونا" كانت شديدة، ومن المُرجَّح أن تستمر في السنوات القادمة، وقد تستمر إلى الأبد، وفق سيناريوهات أسوأ. وقد تضرر قطاع النقل، بما في ذلك الطرق البرية والجوية والبحرية والسكك الحديدية، بشكل كبير من عمليات الإغلاق، كما انخفض الطلب على البنزين والديزل ووقود الطائرات بشكل ملفت. وأوضحت الوكالة أن الاستهلاك العالمي للنفط انخفض في شهر أبريل 2020 بنسبة بلغت 29 في المائة مقارنةً بالشهر نفسه من سنة 2019، وفي ماي 2020 كان الانخفاض بنسبة 26 في المائة. ونظرا لكون إمدادات النفط كانت وفيرةً على نطاق واسع في بداية السنة الجارية، فقد أدى انهيار الطلب إلى انخفاض الأسعار بشكل غير مسبوق، مع عواقب وخيمة على الشركات التي تستخرج المنتجات البترولية وتقوم بتكريرها وتوزيعها. وتُقدِّر وكالة التصنيف الائتماني "فيتش" أن شركات استكشاف وإنتاج النفط والغاز في جميع أنحاء العالم ستخسر 1.8 تريليون دولار من العائدات عام 2020 بسبب الوباء، مع تداعيات واسعة النطاق ستشمل إفلاس الشركات، ومشاريع الحفر المهجورة، وتدمير الوظائف على نطاق واسع. تراجع هيمنة النفط ويورد المركز ذاته أنه في بداية هذا القرن كان خُبراء الطاقة قلقين بشأن قضية مركزية، هي خطر الوصول إلى "نقطة الذروة في صناعة النفط"، وهي اللحظة التي سيبدأ فيها إنتاج النفط العالمي في التراجع، مما قد يؤدي إلى فوضى اقتصادية حول العالم. وتوقع بعض المحللين أن تأتي هذه اللحظة في وقت مبكر من عام 2015 أو عام 2020، لكن إدخال تقنيات استخراج جديدة، لا سيما التكسير الهيدروليكي ونشر منصات الحفر في مياه المحيطات العميقة، مكّن شركات الطاقة العملاقة في العالم من توسيع الاحتياطات العالمية من "النفط القابل للاستخراج" بشكل كبير، وهو ما أدى إلى تراجع الحديث عن "شبح ذروة النفط". وبعد فيروس "كورونا" ظهر شبح جديد، هو "ذروة الطلب على النفط"، وهي اللحظة التي يصل فيها تعطش العالم للبترول إلى ذروته، ثم يبدأ في "الانحدار الذي لا يرحم". فقبل الوباء كانت شركات النفط الكبرى تعتقد أن هذه اللحظة لن تأتي إلا في المستقبل البعيد، أمّا الآن، وبسبب فيروس "كورونا"، فقد صارت هذه اللحظة على مسافة قريبة جداً. وقد كان تراجع هيمنة النفط واضحاً في التوقعات الصادرة عن وكالة الطاقة الدولية في نونبر 2019، قبل ظهور فيروس "كورونا"، بسبب ظهور المعايير الجديدة الخاصة بكفاءة وقود السيارات في أوروبا واليابان وأمريكا الشمالية، ناهيك عن الشعبية المتزايدة للمركبات الكهربائية. وقد توقعت الوكالة انخفاض الطلب على النفط في تلك المناطق بين عامي 2020 و2040. كما تنبأت أيضاً بأن الطلب في العالم النامي سيرتفع بمعدلات كبيرة، لا سيما في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط، بما يُعوِّض الانخفاض في أماكن أخرى، لتحقق الصناعة العالمية مكاسب صافية. صُعود الطاقة المتجددة في مرحلة ما قبل الوباء كان هناك تراجع في الطلب العالمي على الفحم نظراً لكونه أكثر أنواع الوقود الأحفوري كثافةً بالكربون، وبالتالي فهو مسؤول عن أعلى نسبة لانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون عند الاستهلاك. وقد أصبح الفحم هدفاً أساسياً للنشطاء البيئيين وصُنّاع السياسات الحكومية، الذين يسعون إلى تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وقد اكتشف صنّاع السياسة أن إحدى أسهل الطرق لخفض الانبعاثات هي أن يحل الغاز الطبيعي محل الفحم في توليد الكهرباء. وفي العديد من المناطق أصبحت طاقة الرياح والطاقة الشمسية مصادر أرخص وأكثر جاذبية للكهرباء. وقبل الجائحة كانت توقعات وكالة الطاقة الدولية تشير إلى أن الفحم سيظل مصدراً رئيسياً لطاقة العالم، ربما لعدة عقود، لكن فيروس "كورونا" جاء وأفسد هذه التوقعات، وجعلها غير صالحة لتفسير الوضع الراهن. فمع انتشار الوباء في أوائل عام 2020 وتراجع النشاط الاقتصادي، انخفض استخدام الكهرباء في جميع أنحاء العالم بشكل كبير. ومع استعادة النشاط الاقتصادي مُجدداً في سنة 2021، قد يستعيد الفحم جزءاً من عافيته، لكن يبدو أن جهود الحد من انبعاثات الكربون، وابتعاد كبار المستثمرين عن مشاريع الفحم الجديدة، ستجعل عام 2020 نقطة فاصلة في مسيرة "اختفاء الفحم"، كمصدر رئيسي للطاقة، وهو ما يصب كُلياً في صالح انتعاش مصادر الطاقة المتجددة، وتحديدا الطاقة الكهرومائية وطاقة الرياح والطاقة الشمسية والطاقة الحرارية الأرضية المستخدمة لتوليد الكهرباء. وظهرت لمصادر الطاقة المتجددة خلال الجائحة سمتان مهمتان: الأولى تتعلق بالتكلفة المنخفضة مقارنةً بالفحم والغاز الطبيعي، والثانية تتعلق بسرعة التركيب والتشغيل، ومن ثَمَّ تحقيق عائدات أسرع بكثير. ففي الولاياتالمتحدة يُكلِّف تركيب طاقة الرياح الآن 40 في المائة أقل مما كان عليه عام 2010، وتستمر الأسعار في الانخفاض مع قيام المشغلين ببناء توربينات أكبر وأكثر كفاءة. صدمات جيوسياسية وتؤكد الورقة البحثية أن جائحة "كورونا" صارت بلا شك أحد الأحداث التاريخية النادرة، على غرار الحروب العالمية أو الكساد العالمي، التي قامت بإعادة تنظيم الاتجاهات الرئيسية لسوق الطاقة، ففي مرحلة ما بعد "كورونا" ستتغير الحصص النسبية لمصادر الطاقة المختلفة في السوق، كما أن توقعات الإنتاج والطلب ستختلف كليا. وبالنظر إلى الحجم الواسع لمؤسسة الطاقة العالمية، مع تريليونات الدولارات من الإيرادات السنوية، فإن أي تعديل بهذا الحجم ستكون له آثار اجتماعية وسياسية عميقة، إلى جانب العواقب الاقتصادية الواضحة. كما ذكر المركز البحثي أن الانخفاض السريع في استهلاك الفحم سيؤدي إلى حالات إفلاس إضافية في الصناعة "المنكوبة بالفعل"، مما سيؤدي إلى توقف المزيد من عمال المناجم عن العمل، الذين عبّروا عن يأسهم من خلال الوسائل السياسية، والضغط على صنّاع السياسة لإبقاء هذه الصناعة قائمة. ومن المُرجح أن تشعر البلدان المصدرة للنفط بأكبر قدر من الآثار المباشرة لانحدار الصناعة، فهي تعتمد على عائدات النفط لتمويل جزء كبير من ميزانيات حكوماتها، بما يصل إلى 40 في المائة في حالة روسيا، و60 في المائة في نيجيريا والمملكة العربية السعودية. لذلك، فإن أي انخفاض كبير في مداخيل النفط سيحد من قدرة القادة السياسيين على القيام بوظائفهم الرئيسية والاحتفاظ بالدعم العام. وبالرجوع إلى الأزمة المالية العالمية لعام 2008، نرى أن انخفاض أسعار النفط أدى إلى تقويض قدرات الأنظمة الحاكمة للدول الرئيسية المصدرة للنفط، بما في ذلك الجزائرونيجيريا وسوريا وفنزويلا، مما ساهم في انتشار الاضطرابات المدنية. ومع احتمال حدوث المزيد من الانكماشات في سوق النفط العالمية في السنوات المقبلة، يُمكن توقع نزاعات أخرى من هذا القبيل، ويُحتمل أن تكون لها نتائج أكثر خطورة. ولذلك فإن أسواق الطاقة العالمية لم تكن تتوقع أن يأتي "فيروس" ليُحدِث تحولات وتغيرات ضخمة، كان من المفترض أن تأتي بعد عقود من الزمن وليس الآن.