برحيل الفنان التشكيلي محمد المليحي، فَقَدَ المشهد الفني المغربي والعربي والعالمي مبدعا جالت أعماله كبريات المعارض، وساهم طيلة ما يزيد عن ستّين سنة فنّا، وبحثا، وتدريسا، ودعما في تغيير مسار الفنون التشكيلية بالبلاد، والارتقاء بالذائقة البصريّة، وخلقِ حركيّة ثقافيّة جديدة في مغرب ما بعد الاستقلال. 60 سنة من الإبداع انطلاقا من الخزانة الأمريكية بطنجة، في نهاية الخمسينيات، عُرِضَت أعمال المليحي الفنية بدول عديدة؛ من بينها إيطاليا، المكسيك، العراق، الكويت، الإمارات، الجزائر، البرازيل، أمريكا، فرنسا، وإسبانيا، وتحضر لوحاته بمتاحف ومراكز فنية عالمية كبرى مثل: متحف الفن الحديث بنيويورك الأمريكية، ومركز جورج بومبيدو للفنون والثقافة بباريس الفرنسية، ومتحف تيت مودرن في لندن البريطانيّة. وبعد مدرسة الفنون الجميلة بتطوان، انتقل ابن مدينة أصيلة الشّماليّة في مساره الدراسي بين دول عديدة، مِن إسبانيا، إلى هنغاريا، وإيطاليا، وصولا إلى الولاياتالمتحدة الأمريكية. واشتغل في فنّه على رموز الثقافة الأمّ للمغاربة، والحرف العربيّ، وإنتاجات الصّناعة التّقليديّة، دون أن يقتصر عطاؤه على مجال التّشكيل والنّحت والجداريّات، وتطوير التّعليم الفنّيّ، بل صمّم مجلّات وكتبا ومناشيرا وشعارات مؤسّساتيّة، وتوشّحت بأعمالِه كثيرٌ من الكتب الأكاديميّة والمدرسيّة. ويرتبط اسم المليحي بمجموعة من المحطّات الثقافيّة البارزة؛ مِن بينها الحركة الفكريّة الجديدة المنبثقة عن مدرسة الدارالبيضاء للفنون الجميلة ومحيطها الثٌّقافيّ، وحلقة 1965، ومجلّتَي "أنفاس" و"أنتيغرال"، وتأسيس موسم أصيلة الثقافي، وصولا إلى تنظيم خمسينية الفنّ التشكيلي بالمغرب، قبل خمس سنوات. كما يرتبط اسمه بمسؤوليّات إداريّة كمدير للفنون بوزارة الشؤون الثقافية في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، ومستشار ثقافي لوزارة الخارجيّة في نهاية التسعينيات وبداية الألفية الثالثة، ورئيس للجمعيّة المغربيّة للفنون التّشكيلية، الموقع الذي استمرّ فيه إلى أن وافته المنيّة. ووجد المليحي ضالّته في الأمواج التي ارتبطت بشكلِها معظم أعماله، وتحضر في تجريده الهندسيّ الحداثيّ رموزٌ وأشكال استقاها مِن سعيه، وأقرانه، إلى نزع أثر الاستعمار على الثقافة المغربية، عن طريق البحث في الموروث الثقافي للبلاد ببعده الأمازيغي والعربي الإسلامي والإفريقي والمتوسّطيّ، الحاضر في المنسوجات والنّقوش والحليّ، مثل الزّرابيّ على سبيل المثال لا الحصر، إلى الهرم الذي يرى فيه ذكرى تاريخ جمع الممالك الأمازيغيّة بمصر الفرعونيّة وروما اللاتينية، بعد زواج جوبا الثاني بابنة كليوباترا التي كانت زهرة زواج مختلط. ولَم يؤمن المليحي بالإبداع الفنّيّ من أجل الفنّ وحدَه، بل دافع في بعض أعماله عن قضايا مثل القضيّة الفلسطينيّة، فصيّرَ الأمواج المائيّة "أمواجا" ناريّة. وعمل من أجل دمقرطة الولوج إلى الفنون بجعلِها جزءا مِن الفضاء العامّ، واستثمارها في استنهاض المسؤوليّة الاجتماعيّة تجاه المجال المشترَك، بمبادرات بدأت بالمحطّة البارزة في تاريخ الإبداع بالمغرب؛ عندما عرض مع مُجَايليه في "حلقة 65" أعمالهم بساحة جامع الفنا بمراكش في رسالة "عمّا يُمكِن أن يكونَه الفنّ"، واستمرّت مع عمله في سبيل إعمار مدينة أصيلة، وجعلها محجّا فنّيّا وثقافيّا، يُحمَّل قاطِنُوه مسؤولية الحفاظ عليه. وفي سنته الرابعة والثمانين، والأخيرة، بدنيا النّاس، في خِضَمّ الجائحة الرّاهنة، ظلَّ اسم المليحي حاضرا بمداخلاته الثقافية، وأخبار بيع عملين له في مزادات عالَميّة بملايين الدّراهم، وتوقيعه على بيان "الفنانون والمبدعون المغاربة يثقون في مؤسّسات الدولة"، وتصميمه شعارا خاصّا بمدينة أكادير. رحيل رائد نعى المهدي قطبي، رئيس المؤسسة الوطنيّة للمتاحف، "الفنان البارز"، الذي "طبع أجيالا متعددة من الفنانين المغاربة"، بعدما كان من الأوائل الذين ذهبوا إلى الولاياتالمتحدة الأمريكية، واحتكّوا بمدارس أمريكية مهمّة جدّا، وهو ما جاء به إلى المغرب، مسائلَا منهَج التدريس الذي كان قد جاء به الفرنسيّون آنذاك. ويزيد قطبي في حديث مع جريدة هسبريس الإلكترونيّة: "مكّن هذا مِن إنشاء مدرسة مغربيّة في الفنون مع جيله، في وقت لَم يكن في العالَم العربيّ إلا مشهدان فنّيّان، مدرسة الدارالبيضاء ومدرسة بغداد"، وقدّم مع جيله في مدرسة الفنون الجميلة بالدارالبيضاء "رؤية مختلفة للأشياء". ويضيف رئيس المؤسسة الوطنيّة للمتاحف: "مِن الحزين أن نرى شخصيّة مهمّة مثل المليحي ترحل، وسنفتقد ألوانَه"، آملا "أن تستمر في إعطاء البهجة في فترتنا هذه". بدوره، يقول يونس اجراي، مقاول ثقافي صديق الفقيد، إنّ المغرب برحيل المليحي قد فَقَدَ "رائدا كبيرا من رواد الفن التشكيلي، والمعاصَرة في المغرب"، بعدما كان "من الأوائل الذين شاركوا في النهوض التشكيلي والثقافي، وفي السينما والتصوير والمجلّات"، كما "لا يمكن نسيان دوره في "أنفاس" و"أنتيغرال"، ودوره الكبير في مدرسة الدارالبيضاء وعصرنة التعليم في المغرب". ويزيد أجراي في تصريح ل هسبريس: "فقدنا إنسانا له وجوه كثيرة ومتعددة، وحاول أن يزيد بالبلاد إلى الأمام في العديد من الميادين، وكان يعطي، ولا يأخذ فقط، بل يقسم ويتقاسم مع الناس كثيرا من الأمور، وعشت معه كثيرا من التجارب مع فنانين وفنانات شابات بدؤوا لتوهم في مجال الفن التشكيلي، وساعدهم بالتوصية والمال والإقامات الفنية"، ويضيف: "كان سخيا في عطاءاته". ويتذكّر أجراي التزام المليحي مع "مجموعة من الجمعيّات، في المغرب بأكمله، حيث كان يساند جمعيات تساعد فتيات القرى في التعليم، أو مراكز ثقافية في فاس وأكادير وطنجةوالبيضاء يعطيها تحفا ليصل الأطفال إلى ما هو جميل". ويضيف المتحدّث: "كان المليحي جميلا، وجميلا جدا، وكان من أطيب الناس، وحضرَت عنده النكتة والفكاهة وراحة البال، وفقدتُ برحيله أخا كبيرا، كانت لي معه تجربة كبيرة هي تنظيمنا مع عبد اللطيف اللعبي ومصطفى النيسابوري معرض خمسينيّة أنفاس"، قبل أن يُجمِل قائلا في ختام شهادته: "فقدنا إنسانا كبيرا جدا". من جهته، يعود محمد المنصوري الإدريسي، رئيس النقابة المغربيّة للفنانين التشكيليين المحترفين، إلى بداية "المسار الحافل" للمليحي منذ أواسط الخمسينيات عندما التحق بالمدرسة التحضيرية للفنون الجميلة بتطوان، ليعرج في شهادته على مجموعة من المحطّات التي عاشها الفقيد، والتي كان من أهمّها "تأسيس حلقة 1965، التي هي علامة بصمت التشكيل المغربي"، مع فريد بلكاهية، ومحمد شبعة، ومحمد (رومان) أطاع الله، ومصطفى حفيظ، وطوني ماريني، من "منطلق قناعة ثقافية والتزام فكري مسؤول؛ وهو ما يُظهر بداية وعي فكري مسؤول، يدافع حقيقة عن قطاع الفن الحديث بالمغرب". ويذكّر المنصوري الإدريسي، في تصريحه ل هسبريس، ب"إخراج هذه المجموعة الفنَّ التشكيليَّ إلى الساحة العمومية، في معرض جماعيّ بساحة جامع الفنا، في سنة 1969"؛ وهو ما وصفه ب"المأثرة الحداثيّة والطليعيّة"، في فترة تجلى فيها "ظهور ما يمكن تسميّته بالحداثة الفنية بكل ما تحمله من مفاهيم وتقنيات، لأنّ الخروج من المحترف إلى الفضاء الخارجي شكّل بزوغ الحداثة الفنية، وهو ما طبع الساحة التشكيلية في البلاد". ويعدّد المتحدث ذاته مجموعة من محطّات حياة المليحي "الحافلة والغنية والمتنوّعة، بحكم المسؤوليات التي تقلّدها مِن تأسيسه مع محمد بنعيسى مهرجان أصيلة الذين لا يزال مستمرّا منذ سنة 1978، بصيت عالميّ (...) وإدارته للفنون بوزارة الثقافة، وانتدابه لتمثيل الجناح المغربيّ بإشبيلية، وعمله مستشارا ثقافيّا لوزارة الخارجية والتعاون، وتأسيسه الجمعية المغربية للفنون التشكيلية منذ السبعينيات". ويزيد النقيب صديق الراحل: "عطاؤه مثمر، وهو رائد من رواد الحركة التشكيلية في البلاد، وإنسان مثقّف، ويؤمن بالإنسان المثقف الواعي، والفنّان ذي الفكر والثقافة والقناعات، وهو إنسان وطني، ويؤمن بالقضايا الكبرى (...) العربية وقضايا الوطن، وهو إنسان حقوقيّ يحاول أن يبرز في تصرفه الشخصي وعلاقته بالآخر نموذجا الفنان المغربي المتواضع الذي لا يبخل بنصيحته على أي شاب وأي كان". وينفي المنصوري الإدريسي إمكان حصر العمل الفني للمليحي وطنيّا، ويزيد موضّحا: "حمولته متشبعة بالثقافة الأمريكية وحساسيّاتها الفنية والأدبية، ويحضر فيها تأثير كبير من الفن المينِمالي (فنّ الحدّ الأدنى أو الفنّ الاختصاريّ)، وفنه كوني، وداخل في الحركة التشكيلية العالمية، وكبار المؤسسات العالميّة تعترف به، وعرض في كبار المؤسسات العالَميّة، في أمريكا وأوروبا، وبصمته تدخل في مدرسة كونية لا تحصر محليا، رغم تأثيرها البصري المحلي". ويؤكّد المصرّح أنّ المغرب قد فَقَدَ برحيل محمد المليحي "جزءا كبيرا منه؛ لأنّه كان إنسانا لا يعوّض بفكره وثقافته ووزنه كفنّان وقامة فنية، ولأنّه كان يعطي توازنا لهذه الثقافة بتوفيقه بين الشباب والرواد، وكان يبحث دائما عن جسر بينهما، بجمعهما إما في معرض واحد، أو بالدفع بشباب متمكّنين ولهم وعي فني لربطهم بالرًّوَّاد". وفي ختام شهادته، يستشهد المنصوري الإدريسيّ بما قاله الكاتب المغربيّ الفرنسيّ الطاهر بنجلّون حول عمل المليحي، وانشداده الدّائم إلى الذّاكرة التّاريخيّة، وإلى تربيّته الأمّ: هو "مرتبط بأرضه، ومشدود إلى تراثه، وإلى رموز ثقافته الشّعبيّة". "أثر كبير ومستمرّ" وَفق شربل داغر، الأكاديميّ اللبناني الدّارس لجماليات الفنون، فإنّ محمدا المليحي قد "قام بنشر الثقافة البصرية، في الثقافة المغربية والمجتمع المغربي، وكان له دور مؤثر في التعليم على مستوى مدرسة الدارالبيضاء، وفي نشر الفكر الفني، في مجلتَي "أنفاس" و"أنتغرال"، كما كان له دور مؤسس في ثقافة الصورة الفوتوغرافية". ويزيد الأكاديميّ اللبنانيّ في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونيّة: "أعرف، ويعرف المغاربة القدامى، أنّه كان له دور أساس في المُلصَق في مجالات الانتخابات وغيرها، فضلا عن دوره التأسيسي والقيادي في قيادة وتوجيه سياسات جمعية الفن التشكيلي في المغرب، ودوره في إدارة الفنون أيضا في نهاية الثمانينيات". فضلا عن كونه "معلّما كبيرا للثقافة البصريّة في المغرب، بكلّ أوجهها الفكريّة، وأوجهها الاجتماعية الحاضرة في حياة المغربي اليوميّة". ويزيد المتحدّث: "للمليحي بالنتيجة دور تأسيسي في مجمل نطاقات الثقافة البصريّة؛ وله بالتالي أدوار مؤثّرة في الفنّ المغربي والثقافة المغربيّة، فضلا عن عمله في قضايا المعمار والمنحوتات، فعمله تأسيسي ومشعّ، وأسميتُه ذات يوم ب"الاستقلاليّ"؛ لأنّ المليحي مع مجموعة من الفنانين الرّوّاد في المغرب، انطلقوا وفق وجهة قامت على ازدواجية خلّاقة، الوقوف ضد التصوير بمفهومه التقليدي الاستشراقي، والتفاعل والانفتاح على التجارب التحديثية الغربية والأوروبية عموما". ويضيف الدّارس: "مقابل العودة إلى استلهام التراث المغربي، والتراث العربي الإسلامي، كان للمليحي تعامل شديد مع الثقافة البصريّة العالمية، وهو ما ظهر لدَيه بشكل أقوى ممّا ظهر في تجربة فريد بلكاهية ذاتِ القيمة الأكيدة في الفنون العربيّة الحديثة". ويتذكّر المصرّح لقاءه الأوّل مع الفقيد بالعاصمة البريطانية لندن، عندما فاز المليحي بجائزة الملصق الفني للدّفاع عن فلسطين، ويزيد معلّقا: "كان عمله مميَّزا كالعادة، ونافس حينها كبار فنّاني الملصق، خاصة البولونيين المعروفين بتفوّقهم في هذا الفنّ". وينبّه شربل داغر إلى معنى مهمّ في خسارة المليحي، هو بقاؤه حتى سنواته الأخيرة كثير النشاط، والحضور، والإنتاج، والحركة، ليسجّل أنّه رغم غيابه كشخص؛ فإن "أثره كبير ومستمرّ في الفنّ المغربيّ"، بعدما كان له "دور كبير في الفنون العربية الحديثة، إذ شارك وكان له دور فاعل ومؤسّس في العديد من الملتقيات التشكيلية العربية ببغداد والكويت، وغيرها من البلدان العربيّة". كفاءةٌ بصريّة مغربيّة يرى محمد الشيكر، أكاديميّ وناقد، أنّ برحيل الفنان محمد المليحي "يفقد المشهد التشكيلي المغربي والعربي أحد أبرز أيقوناته، ويشيّع، إلى المثوى الأخير، إحدى الكفاءات البصريّة الوطنية الأشد حضوراً وإشراقاً وفرادة". ويضيف كاتب "محمد المليحي سيرة ومُنجَز" في تصريح ل هسبريس: "ما تتميز به شخصية الراحل الإبداعية هي ثقافته التشكيلية الفارقة، وتنوع روافده التعبيرية والجمالية، وتعدد مناحي حضوره التنويري؛ إذ كان بيداغوجياً مؤثراً داخل (...) مدرسة الفنون الجميلة بالبيضاء، وفناناً طليعيّا طبع بميسمه الفني والثقافي جماعة البيضاء، أو ما يعرف في سجل التشكيل المغربي بحلقة 65، وساهم مساهمة عضوية فعالة في تأسيس الجمعية المغربية للفنون التشكيلية، كما رفد موسم أصيلة بحضوره المائز، فضلاً عن مساوقته الفنية الباذخة لمجلات "أنفاس" و"مغرب ٱرت" و"أنتجرال"". ويزيد الشيكر: "لقد استطاع الفقيد، بحق، أن يساهم، بقدر وافر من التميز والعطاء الباذخ، في رسم مدارات حداثة جمالية متطلعة إلى الكونية، بقدر التصاقها بجذورها الإستتيقية المتأصلة؛ وفي هذا المقام كانت كلمة العبور إلى الخصوصية المغربية هي عبارته الشهيرة: "لنحاول أن نبحث في تراثنا عمّا أنتجه الذوق المحلي، وعلينا أن ندفع به شطر الحداثة أو صوب ما بعد الحداثة". ويعود الأكاديميّ إلى مسقط رأس محمد المليحي، مدينة أصيلة، حيث رأى النور سنة 1936، بمنزل متواضع تزينه، كما تقول زوجته السابقة طوني ماريني، "مربعات فسيفسائية صغيرة من الخزف المزخرف"، ثم يسترسل متحدّثا عن "موهبته اليافعة" التي قادته إلى المدرسة التحضيرية بالفنون الجميلة بتطوان سنة 1953؛ حيث تلقى "تربية فنية أكاديمية، استطاع بعدها أن يتحصل سنة 1955 على منحة دراسية قادته إلى أكاديميات فنية عريقة بإشبيلية ومدريد، تعرف من خلالها على ملامح الثورة التجريدية الغربية، وبصورة خاصة منجز الفنان التجريدي مانولو ميلاريس، أحد أبرز أعضاء جماعة إيلباثو". ويضيف الشيكر: "حصل المليحي على منحة ثانية للدراسة بأكاديمية الفنون الجميلة بروما، ما أتاح له التمرس بتقنية الكولاج التي وظفها الفنانون المستقبليون الإيطاليون، وانفتح على تيارات فنية متنوعة المرجعيات البصرية تعبيرية وتكعيبية وهندسية وغنائية، شكّلَت وعيه الفني، وطوَّرَت أداءه التشكيلي"؛ وهو تأثير "ظهر بجلاء في باكورة معارضه الفنية بالخزانة الأمريكية بمدينة طنجة سنة 1958، كما تجلى أيضا في معرضه برواق ترانستڤيري دي طوبازيا، الذي كان يمثل مختبراً خلاَّقاً للتعبيرات الفنية الأكثر جراءة وفرادة". ويزيد الشيكر: "في سياق رحلة البحث عن نغمته الجمالية الخاصة حلَّ الراحل محمد المليحي بأمريكا، وعمل أستاذاً مساعداً بمعهد بمنيابوليس، وبمدينة نيويورك تعرف إلى تيارات التشكيل الأمريكية المعاصرة كالتعبيرية الجديدة، والشكلانية البصرية، والمينمالية، والكولور فايلد، وحركة الهارد إيدج. وفي رحلته الفنية الطويلة هذه التي امتدت من سنة 1955 إلى 1964، تبلور وعيه البصري واغتنت تجربته التشكيلية، وبقدر ما انفتح على الآخر، استشعر في الوقت نفسه نزوعاً قوياً إلى الجذور، وإلى محاضن الهوية، ومنابتها الأصلية". بعد هذه المحطّة، يقول الأكاديميّ، قرّر المليحي "العودة بصورة نهائية إلى المغرب للمساهمة في رفد وإغناء الدينامية الإبداعية بوطنه"؛ ويستشهد في هذا السياق بقول الفقيد: "إن هذه التجربة قادتني في النهاية إلى الوعي بمسؤولية وضرورة القيام بعمل في سياقي الاجتماعي الخاص"؛ ثم يزيد الشيكر: ف"التحق بسلك التدريس والتأطير بمدرسة الفنون الجميلة في خريف 1964، وكوَّن برفقة فريد بلكاهية ومحمد شبعة وبيرت فلانت وطوني ماريني ومحمد حميدي ومصطفى حفيظ وأطاع الله ما عُرِفَ بحلقة 65 أو جماعة البيضاء". ويوضّح محمد الشيكر أنّ هذه المجموعة "أسست قطيعة جمالية ومعرفية مع الإرث الفني الاستشراقي والكولونيالي، في أفق معانقة جذور الوعي البصري المغربي بجميع تعبيراته الإثنية المتلوّنة والمتعددة، بغية تأسيس "فن معاصر متجذر في ثقافته من جهة ويصبو إلى الانخراط في الكوسموبوليس الحداثي من جهة ثانية". كما انضم إلى هيئة تحرير مجلة "أنفاس" ل"يعزز ملمحها الإيقوني، إلى جانب شعراء وكتاب ذوي توجه تنويري، تحرري، تقدمي من عيار عبد اللطيف اللعبي، والنيسابوري، ومحمد خير الدين والخطيبي". ويختم الشيكر شهادته حول مسار الفقيد محمد المليحي، بقوله: "لقد ظل على امتداد أكثر من ستين سنة مسكوناً بالتجريد الهندسي كاختيار جمالي وتشكيلي، تجلى في مئات المعارض والتظاهرات الفنية التي أنجزها، كما ظل ميالاً إلى وعي طلائعي عضوي يصبو إلى الحداثة والتقدم، ويطمح إلى الدفاع عن سياسة ثقافية خلاَّقة تنشر الوعي الفني المتنور، وترقى بالذوق العام، وتهذب الحساسيات الجمالية، وتجعل التراث البصري حلقة خصبة ومغذية للصيرورة الحداثية". خسارة للتّأريخ الفنّيّ يذكّر فريد الزاهي، أكاديميّ وناقد، بأنّ محمّدا المليحي لمّا كان يُدرِّسُ الفنون التّقليديّة بمدرسة الدّار البيضاء، "كان يخرج بطلبته ليروا الزّخارِف، والسّقوف، وغيرها"؛ وهو ما شكلّ "بداية اشتغال الفنّان الحديث المعاصِر"، وكانت معه "مدرسة الدارالبيضاء حديثة ومعاصِرَة"، أسّس المرتبطون بها "الفنّ المرتبط بالتّقاليد، وهو ما طرح جيّدا في العدد 67 - 68 من مجلّة أنفاس، واشتغلوا مع المعماريّين". ويزيد الأكاديميّ شارحا: "لَم يكن الجزء المهم من مدرسة من الدارالبيضاء من هذه المدينة، سواء محمد شبعة ومحمد المليحي، وبيرت فلينت الهولندي، وطوني ماريني، وفريد بلكاهية"، بل كانت المدرسة "استعارة جميلة لتأسيس حداثة حداثية"، بعدما "بَنَتِ الحداثة بمفهومها التّشكيليّ البسيط مدرسة تطوان، التي أدخلت التشخيص، وعاشت مرحلة تأسيس الفنّ بصفة عامّة".