يطرح المؤلف والمخرج المسرحي المغربي الكبير الدكتور عبد الكريم برشيد في هذا الحوار الطويل عدة قضايا هامة ترتبط بعلاقة الفن بالأخلاق، والمعايير الجمالية للفن الملتزم، وطرق بناء تجارب إسلامية تحترم القواعد الفنية، وغيرها من القضايا ذات الصلة. ويؤكد رائد المسرح الاحتفالي في العالم العربي، في الحوار ذاته، أن الفنان الحقيقي لا يمكن إلا أن يكون ملتزما مع نفسه أو مع قضايا مجتمعه، مشيرا إلى أن الأخلاق شرط رئيسي لوجود هذا الفن الحقيقي باعتبارها جماليات رمزية ومعنوية. وعرج الكاتب المسرحي على قضية الحداثة في الفن، واعتبرها تنقسم إلى قسمين: حداثة شكلية برانية، وهي التي تأخذ من العصر مظاهره وتعيش على المعلبات الفكرية والفنية، في حين أن الحداثة الثانية تقرأ روح العصر، وتستنطق جوانب الواقع الصامتة والمسكوت عنها. خاصيات الفن الملتزم اشتهر الكاتب المسرحي الكبير عبد الكريم برشيد بجولاته النقدية المنددة ببعض النتوءات الفنية التي تحرف الفن عن رسالته، ما هي المعايير الجمالية والمرجعية التي تجعلنا نعتبر فنا ملتزما، وآخر تهريجيا عاريا من أي مقصد؟ * إن من يحب الحياة كما أحبها، ومن يعشق جمال الوجود كما أعشقه، لا يمكن أن يكون إلا مناضلا في صوف القيم الإنسانية الخالدة، والتي ما وجد الفن إلا ليبرزها بأدواته الفنية المختلفة. وهذا التعلق بالمصنوعات الجميلة في معناه الحقيقي هو انبهار واندهاش أمام عظمة الصانع، وهو صلاة قبل أي شيء، ولعل هذا ما يفسر أن تكون كل الفنون قد خرجت من المعابد القديمة. والأصل في الفن أنه جمال وجمالية، وأنه كمال واكتمال، ورؤية ورؤيا، ورسالة بمضمون إنساني نافع وممتع ومقنع، وليس مجرد ظرف له شكل خارجي بدون محتوى داخلي، وهذا الفن كما أتمثله دائما إما أن يكون فنا حقيقيا أو لا يكون. وإن كل تهريج وكل إسفاف، وكل شعوذة "فنية" وكل دجل "إبداعي" لا يمكن أن تكون أية علاقة حقيقية بالفن الحقيقي، ويمكن أن نسميه بأي اسم آخر سوى أن يكون فنا. إن الفن خاصية الإنسان وحده، وهو مظهر حضاري ومدني، ودرجة سامية في الإحساس والشعور، وهو الارتقاء بالذات الفردية إلى درجة الذات الجماعية، وهو الارتقاء بالمادي المحسوس إلى درجة المعنوي والرمزي والوجداني والروحي. وأرى شخصيا بأنه لا معنى لأي فن لا نقتسم فيه الفرح والحزن، ولا نقتسم فيه الحلم الجماعي، ولا يتيح لنا أن نرى الأشياء البعيدة والغائبة والعميقة جدا. يقول ابن رشد: "الحق لا يضاد الحق"، وقياسا على هذه المقولة الحكيمة يمكن أن نقول ما يلي "الفن لا يضاد الفن" لأن الفن جمال، وليس هناك جمال يمكن أن يخاصم الجمال، ولكنه يخاصم القبح بالتأكيد، وأي قبح ماديا كان أو معنويا أو أخلاقيا فإنه لا يمكن أن يكون فنا حقيقيا؛ فكل فنان حقيقي لا يمكن أن يكون إلا فنانا ملتزما، سواء مع نفسه، أو مع مجتمعه، أو مع القيم الرمزية العليا.. هكذا كان دائما، وهكذا سوف يبقى إلى ما شاء الله، ويخطئ من يربط هذا الالتزام بشخص الفيلسوف الوجودي سارتر، أو بغرامشي، أو بغيرهما .. المتعة والفائدة بهذا المعنى أستاذ برشيد، الفن يحقق فائدتين: المتعة والفائدة... برأيك ما هو موقع ما يسمى بالفن الأخلاقي أو الفن الملتزم داخل هذه الثنائية؟ * لا وجود لفن حقيقي بدون متعة فنية، وبدون إقناع فني، وبدون جاذبية فنية، وأيضا لا وجود لمتعة مجانية في الفن، ولا وجود لمتعة بلا موضوع وبلا قصد وبلا أفق وبلا سياق، وكذلك لا وجود لمتعة فني حقيقية لا تحترم كرامة الإنسان ولا تحترم ذوقه. إن المتعة الفنية لها مستويات ودرجات، وفي أدني السلم هناك المتعة المادية الحسية، والتي هي متعة حيوانية بكل تأكيد، وفي أعلى السلم نجد المتعة الوجدانية والعقلية والفكرية والروحية.. وإلى اليوم، مازالت هناك شعوب تستمتع بفرجة قتل الثيران، ومازالت هناك شعوب أخرى تستمتع بفرجات دموية لا جمال ولا كمال فيها. إن الإنسان جسد نعم، ولكنه نفس أيضا، وهو عقل كذلك، وهو بهذا يحتاج إلى فن شامل ومتكامل أيضا، فن يخاطب فيه إنسانيته بدل حيوانيته، ويخاطب فيه مدنيته بدل غابويته، ويخاطب فيه عقله بدل غرائزه، ويخاطب فيه ثوابته قبل متغيراته. وفي معرض المتع الفنية العديدة والمتنوعة، تكون المتعة العقلية هي الأعلى والأسمى بكل تأكيد، لأن الإنسان كائن عاقل قبل أي شيء آخر. الفن والتراث هل المطلوب من أي فن سواء كان فيلما أو مسرحية أن يستمد مضمونه من التراث ليكون إسلاميا، أم بالإمكان صناعة فن يتناول قضايا معاصرة برؤية أخلاقية؟ الإسلام لا يمكن أن نقرنه بالتراث، فهو أكبر منه وأخطر، ولا يعقل أن نربط هذا التراث بالماضي، لأنه ليس مفاهيم ماضوية بالية، ولكنه مفاهيم حية على الدوام، كما أنه ليس مفاهيم محنطة وجامدة، لكونه مفاهيم جديدة ومتجددة دائما، ولعل هذا هو ما يفسر أن يكون هذا الإسلام قد عاش وتعايش مع شعوب وأمم وحضارات كثيرة، وأن يكون قد أغنى كل الشعوب، واغتنت حضارته بها وبإسهاماتها المعرفية والجمالية المتنوعة . إن خطورة التراث لا تكمن في ذاته، ولكن في قراءته، أو في قراءاته المتعددة والمختلفة، فهو تراث حي في القراءات الحية، وقد يصبح تراثا ميتا في القراءات الميتة، وهو تراث معاصر في القراءات المعاصرة، وقد يصبح تراثا مغلقا وجامدا في القراءات الجامدة. وعليه، فإن الأساس هو أن نقرأ هذا التراث قراءة فاهمة وعالمة، وأن نتمثله دائما في ضوء العلوم الإنسانية الجديدة والمتجددة، وأن نمشي به نحو الآني والآتي، والكائن والممكن، ونحو ما يمكن أو ما ينبغي أن يكون له وجود. إن التراث هو ذاكرتنا الجماعية التي نشترك فيها جميعا، وليس هناك شعب يعيش بلا ذاكرة، ويحيا بلا تاريخ، ويمكن أن نقول بأن الإنسان كائن تراثي، وبأنه كائن تاريخي أيضا، فالشخص لا يختار ولادته ولا يختار أسلافه ولا يختار زمنه، ولا يختار بيئته، ولا تربيته ولا المعارف التي أعطيت له.. وبهذا فقد كان هذا التراث حدا كبيرا وخطيرا من حدود وجودنا وهويتنا الكثيرة، وتبقى الحدود الأخرى التي يمثلها الاجتهاد، وذلك لجعل هذا التراث حيا ومعاصرا ومفهوما، وأن يكون في خدمة الإنسان الحي وفي خدمة الحياة اليومية والتفاهم والتعايش والتسامح. وفعل التفكير من طبيعته ألا يبدأ من فراغ، لأنه أساسا تفكير في تفكير الآخرين، وكذلك هو الفن، إنه لا أحد يأتي بكل شيء من عنده، فهذه الحياة تعطينا الصور والمشاهد الحية، وتمدنا بالتجارب وتملي علينا حكمتها التي علينا أن نقبض عليها، وهذه الطبيعة تعطينا الأوزان والأنغام وتعطينا الألوان والظلال، وتعطينا الصوت والصدى. ويبقى أن ننصت بإمعان إلى كل شيء في هذا الوجود، وعلى من يقرأ التراث أن يضيف لهذا التراث تراثا جديدا من عنده، وعلى من يرى الوجود والموجودات أن يرى كل شيء في هذه الحياة بعين جديدة، وأن يضيف له معرفته الجديدة. قيود الأخلاق للفن.. بالحديث أستاذ برشيد عن الفن والأخلاق، يعتبر البعض هذه الأخلاق قيودا غير مباشرة للفن الذي يجب أن يكون متحررا من أي تابوهات، ما رأيك في هذا التفسير.. وكيف يتحقق فن أخلاقي مبدع؟ أعتقد أنه من الضروري أن نميز بين القيود والقواعد، وأرى أن لكل جنس أدبي أو فني قواعده وأصوله التي لا يمكن أن تقوم له قائمة إلا به، وله شريعته ودستوره، وله هندسته وحدوده، وبغير هذا الانضباط للقواعد والاجتهاد من داخلها، فإنه لابد أن يصبح العمل الأدبي أو الفني مجرد فوضى وتيه وهلوسة. أما الأخلاق، باعتبارها جماليات رمزية ومعنوية، فإنه لا يمكن أن يتحقق الفن الحقيقي بدونها، لأنها جوهر هذا الفن وروحه، أما اللا أخلاق فما هي إلا القبح في درجته المعنوية، والأصل في القبح أنه عدو الحياة، وبالتالي فهو عدو الفن الجميل. وأرى أن كثيرا من المقولات المتداولة حاليا في الأدب والفن، من مثل الطابوهات و"نهاية الكتابة" و"قتل الأب"، هي مقولات مقتبسة من الثقافات الأخرى، وهي منتزعة انتزاعا من سياقاتها الخاصة، فهي أساسا ترجمة، والأصل في أية ترجمة أن بها خيانة، ولهذا فإنني أتحفظ كثيرا على مثل هذه المقولات التي قد تكون مجرد موضة أدبية أو فنية لا أقل ولا أكثر. وعليه، فإن المطلوب هو إيجاد مفاهيم من داخل هذه الثقافة العربية وليس من خارجها، وإذا تأملنا اليوم ثقافتنا العربية الإسلامية، في عهودها الزاهرة، فإننا سنجد أنها قد كانت دائما متحررة سياسيا واجتماعيا ودينيا، وأنها كانت متسامحة مع الشعراء ومع الفقهاء والمفكرين، وهذا ما يفسر وجود أبي نواس بكل مجونياته، ووجود أبي العلاء المعري بكل جرأته الفكرية، ووجود ابن حزم في كتابته عن الحب والمحبين، وبالتالي يمكن أن نقول بأن المعيار في الفن هو الجمال والقبح دائما، ويمكن أن نقول كل شيء إذا كان بإيحاءات وبرموز وبإشارات وباستعارات بليغة.. أما أن تكون تلك الكتابات أو الإنجازات الفنية مجرد استفزاز للمشاعر العامة، أو أن تكون مجرد استعراض لقبح داخلي، فذلك ما لا يمكن أن يدخل في نطاق الفن الحق، والذي قد يكون له أسماؤه الحقيقية المسكوت عنها.. ولذلك فأنا شخصيا لا أشترط في الكتابة الأدبية والفنية إلا شرطين أساسيين هما: الجمال والصدق، لأنه في البداية والنهاية لا وجود لفن حقيقي يمكن أن يكون خاليا من الجمال، أو أن يكون غير صادق، والأصل في الفن أن يكون جميلا، وأن يضفي على الوجود والحياة شيئا من جمال نفسه وروحه. الفن والحداثة هناك من يقول إن الفن لا يمكن أن يحقق انتشاره وفعاليته إلا إذا واكب الحداثة..وهناك من يمجد ما يسمونه الحداثة الفنية أو الفن الحداثي..كيف تقرأ هذا التيار من الفن أستاذ برشيد؟ إن الأصل في الفن الحقيقي أنه دائما فعل حديث، هكذا يكون عند ظهور أية تجربة فيه، أو ظهر أي تيار، وهكذا يبقى إلى ما شاء الله، وهذا ما يفسر أن يظل هذا الفن حيا وخالدا عبر الزمن، فهو يحافظ على حداثته وجدته دائما، ويظل معاصرا لكل الأجيال الجديدة والمتجددة، والفنان الحقيقي بالضرورة هو دائما فاعل حداثي، لأنه صاحب رؤية ورؤيا، ولأنه مثل زرقاء اليمامة يرى الأشياء والوقائع عن بعد، وهو يستشعر الأشياء قبل وقوعها، وله حس وحدس، وله رؤيته الاستشرافية والاستباقية للصور والمشاهد، وله فراسته السليمة، وفراسة المؤمن لا تخيب. ومرة أخرى أقول إن المعنى الذي أعطي لكلمة الحداثة في الثقافة الغربية الأوربية في العصر الحديث لا يمكن أن ينسحب على الثقافة العربية الإسلامية، لأن حداثتها ليست وليدة قرنين من الزمن، ولكنها حداثة قديمة، وبإمكان هذه الحداثة القديمة التي عرفت موتا في عصور الانحطاط، أن تستعيد زمنها الضائع، وأن تسترد وعيها، وذلك عن طريق ما يسمى بالإحياء أو البعث أو النهضة. حقا، إن الفنان ابن بيئته، ولكن عليه أن يكون أكبر من بيئته، وأن يكون أكبر من قبيلته، وأن يكون أرحب من لحظته الزمنية الضيقة، وأن يكون أخطر من اهتماماته اليومية المحدودة، وبذلك يكون فنانا شاملا ومتكاملا بشكل حقيقي، ويكون فنانا كونيا، وتكون حداثته متواصلة عبر التاريخ، ويكون مدركا لقانون التطور في الحياة، ويكون عارفا بسنة الله في خلقه، وألا يعاكس عجلة الزمن، وألا يمشي في الاتجاه المعاكس لمنطق التاريخ والجغرافيا، ومثل هذه الرؤية الواقعية والشاعرية هي التي تصنع الفنانين الكبار بلا شك، والتي تجعل حداثتهم تستعصي على المحو التجاوز والتقادم. وأرى أن الحداثة اليوم حداثتان وليست حداثة واحدة: الأولى هي حداثة شكلانية برانية، وهي التي تأخذ من العصر مظاهره وظواهره فقط، والتي تكتفي بقشوره البرانية، وتعيش على المعلبات والمصبرات الفكرية والفنية والعقائدية المنتشرة في الأسواق الكبرى، والمستوردة من هذه الجهة أو من تلك. أما الحداثة الثانية فهي التي تقرأ روح العصر، وتفهم منطقه، وتتجاوز مظهره الظاهر إلى مخبره الخفي، والتي تستنطق في هذا الواقع جوانبه الصامتة والمسكوت عنها، وأرى أن ابن خلدون اليوم هو أكثر حداثة من كثير من الفقهاء الذين يعيشون بيننا، والذين مازالوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ولكن بأجسادهم فقط، وليس بأفكارهم وأرواحهم . إن الحداثة الحقيقية هي الاجتهاد، وهي المخاطرة في الاجتهاد، انطلاقا من مبدأ أن للمجتهد المخطئ أجره أيضا، وأن الحق في الخطأ مضمون في الاجتهاد العلمي والفكري والفني الصادق والسليم، أما فعل اقتباس حداثة الآخرين، في الأزمنة والأمكنة الأخرى، وفي السياقات الثقافية والحضارية الأخرى، فإنه لا يمكن أن يكون إلا تقليدا وتبعية وذيلية وصدوية، وهو فعل يعتمد على النقل بدل استخدام العقل، وهو يجتر المعروف والمألوف بدل أن ينتج وعيا جديدا ومتجددا بالعالم. الفن والإسلاميون لعلك أستاذ برشيد ترمي بكل هذه الشروحات إلى كون الفن رسالة ولاشك..لكن هناك من الجهات الإسلامية من ترى في الفن مجرد سد ثغرة فقط، حيث لا تأخذه في برامجها محمل الجد كبرنامج متكامل الوسائل والأهداف..ما تعليقك؟ الفن فعل شامل ومتكامل، وهو فعل حي في التاريخ الحي، وأرى أن ما يتهدد هذا الفن دائما هو الرؤية التجزيئية والانتقائية، والحسابات الضيقة والمحدودة، وكثير من الجهات لا ترى في هذا الفن اليوم إلا ما تريد، وتعمى عن رؤية ما لا تريد، وهي تأخذ منه الجزء فقط وتقول، هذا هو الفن كله، وهذه هي حقيقته، ومن يبتغي غير هذا فلن يقبل منه، وبهذا تخون كثير من التجارب الفنية نفسها، وتتنكر لحدودها ولمستوياتها ولأبعادها المتعددة والمتنوعة، والتي تعكس عمق هذا الفن وغناه، وتعكس تسامحه الذي يأبى التعصب والمذهبية، ويأبي التحزب الضيق والمنغلق. إنه لا يعقل أن نركز في هذا الفن على جزء فيه، أو على دور واحد من أدواره المتعددة والمتنوعة، وأن نجعله في خدمة المنفعة الخاصة وفي خدمة اللحظة المتحركة العابرة، وذلك بدل أن يكون في خدمة التاريخ وفي خدمة الأبدية وفي خدمة الإنسانية. ونعرف اليوم، أنه قد تم استخدام هذا الفن استخدامات كثيرة غير فنية وغير جمالية ولا أخلاقية، وأنه قد أصبح في كثير من التجارب مجرد وسيلة لأهداف لا جمال ولا معرفة ولا سمو ولا نبل فيها، ففي السياسة مثلا يتم استخدام الفن لخدمة الحزب الحاكم، أو لخدمة الحزب الذي يسعى لأن يحكم، وبهذا يصبح دور هذه التجربة أو تلك، هو أن يبرر فقط، وأن يلمع ويرصع ويزين و يزيف. أما في التجارة، فإن هذا الفن الرفيع والبديع يصبح في خدمة الإعلان التجاري، وبدل أن يمدح الفنان القيم الرمزية، فإنه يمدح الماركات التجارية ويتغزل في البضائع والسلع المختلفة. وفي الدين أيضا، هناك جهات تسعى لتوظيف هذا الفن لخدمة قراءاتها الخاصة للدين، وذلك بدل أن توظفه لخدمة القيم الإنسانية والكونية التي توجد في الدين الإسلامي، ولتي هي قيم غير شعوبية وغير قومية ولا إقليمية أو ظرفية. وأرى أن المطلوب اليوم، من أجل الخروج من هذه الرؤية المادية والجزئية والسطحية، هو أن نعيد لهذا الفن جوهره وروحه، وأن نعيد له دوره الذي ضيعه في الطريق، وأن نجعله في خدمة كل القيم الإنسانية الخالدة، والتي لها وجود في كل الشرائع الدينية السماوية، ولدى كل العلماء والحكماء عبر التاريخ. يطرح مشكل التمويل أو الجهات الداعمة صعوبة كبيرة أمام الفن الملتزم، ما السبيل للتحرر من هذا القيد الموضوعي؟ حقا، ليس بالرمزيات وحدها يمكن أن يعيش الفن ويعيش الفنانون، وحقا أن مشكل التمويل هو من أعوص المشاكل وأعقدها، وحقا أنه لا فن بدون حرية، وأن الفنان الحق لا يمكن أن يكون إلا حرا في مجتمع حر.. ولكن أيضا، لا حرية لجائع، ولا حرية لأمي، ولا حرية لمعوق، ولا حرية لمن لا يملك حرية الاختيار، وإذا أصبح هذا الفنان أجيرا، عند شخص من الأشخاص، أو لدى جهة من الجهات، فإنه لا يمكن أن ينتج إلا فنا حسب الطلب، وبهذا يصبح الفن صناعة، ويتحول الفنان إلى مهني، ويضيع المعنى الحقيقي للفن. أما إذا كان هذا الفنان مجرد موظف في هذه الإدارة أو تلك، فإنه لا يمكن أن ينتج فنا حقيقيا أيضا، وذلك لأن من طبيعة الفن الصادق أنه لا يتحقق بالتعليمات الإدارية، ولا بالمذكرات ولا بالتوصيات، ومن الأخطاء الكبرى التي وقعت فها بعض الأنظمة العربية أنها "أممت" الثقافة والفن، ونزعت من الفنان روح المبادرة والمخاطرة، وحولت عمله إلى واجب إداري أو إلى عقاب. أما إذا كان هذا الفنان محترفا، وكان رزقه لا يأتيه إلا من سوق الفن، فإنه لابد أن يكون خاضعا لمنطق هذه السوق، وألا ينتج ما يشاء الفن الرفيع، ولا ما يريد هو، ولكن ما يريد سيادة الزبون المحترم، ولعل هذا هو ما يفسر تلك المقولة المصرية المتداولة والتي هي ( الجمهور عاوز كده). وبهذا إذن، وتحت ضغط الإكراهات المادية، يضيع الفنان أغلى وأنبل ما لديه، يضيعها أو يقايضها أو يبادلها، تماما كما بادل "فاوست" روحه بالشباب والمال والجمال والخيال. يحظى نوع من الفن بالدعاية الإعلامية والسياسية كبيرة مقابل تهميش لرواد وتجارب تحترم مرجعية العربي المسلم، كيف تفسر الاتكاء الفني على التجارب الغربية، وكيف السبيل لبناء تجارب إسلامية تحترم القواعد الفنية والرسالة الأخلاقية؟ هناك اليوم حرب ثقافية معلنة أو خفية، وهناك احتكار للأسواق العالمية في التجارة، وهناك محاولة لاحتكار الفعل الثقافي في العالم، مرة باسم المركزية الغربية الأوربية، ومرة باسم العولمة المتوحشة، ومرات أخرى بذرائع وحجج أخرى مختلفة ومغايرة. وأرى أنه لا وجود لأي فن إلا في إطار سياقه التاريخي، ولا وجود لأي إبداع حقيقي إلا في إطار سياقه السوسيو ثقافي، وبهذا فقد كان أصدق الفن هو الفن المحلي، أي الفن النابع من الأرض، والمتفجر من صخرها ومن تربتها، ومن مائها وهوائها، وهذا ما لم تفهمه كثير من التجارب الفنية التي حاولت أن تحلق في سماء العالمية، وأن تقفز على ذاكرتها وتاريخها وعلى ذوقها الفني، فكانت النتيجة ما تعرفون وما لا تعرفون، أي أنها بقيت في الدرجة الوسطى المتأرجحة وغير الثابتة والمستقرة، أي في المنزلة بين المنزلتين، وكان بهذا أن ضيعت الأرض، وضيعت السماء فخسرت حقيقة خصوصيتها، ولم تربح إلا الخواء. هذه الحرب الثقافية، تقودها اليوم وزارات مثل وزارة الفرنكفونية في فرنسا، وهي بهذا تمارس الاستعمار الثقافي، في الوقت الذي اعتقد فيه العالم أن الاستعمار لم يعد له وجود، ويتجلى هذا الاستعمار في محاولتها توطين لغتها في الأوطان الأخرى، والتي من حقها أن تكون لها لغاتها وثقافاتها التي هي جزء من كيانها ومن هويتها ومن حضارتها، وتحاول أيضا، أن تفرض حمايتها اللغوية والثقافية على اللغات والثقافات الأخرى، تماما كما فرضت من قبل الحماية السياسية على كثير من دول العالم الثالث. ومن أغرب الغرائب، أن أعنف وأخطر الطوابير في هذه الحرب، هو الطابور الخامس، والذي هو من هذه الثقافات، وهو عليها في نفس الآن. إن الفنان اليوم إذن، وفي كل دول العالم الثالث، يعيش نوعا من الانبهار الصبياني الساذج، ويعيش نوعا من عدم الثقة في النفس، ويعيش نوعا من احتقار الذات، ويعيش نوعا من التماهي في الذات الأخرى، وذلك لحد الذوبان والتبخر والتحلل الكلي، وهو بهذا موجود بين تيارات تأتيه من كل الجهات. وهو مطالب، من أجل أن يحقق الاعتراف به، أن يخرج عن سياقه الثقافي، وأن يخرج من ذاته، وأن يؤمن بأن ثقافته ما هي إلا فلكلور، وبأنها مجرد مظاهر بدائية ليس إلا، وهذا ما يفسر أن يشتغل كثير من المثقفين على نفس الموضوعات التي يشتغل بها وعليها الآخر، أي الجنس والدين والسياسة، وفي الجنس لا وجود إلا للحريم، وفي السياسة لا وجود إلا للحاكم المستبد، وفي الدين لا وجود إلا للسيف والسياف والإرهاب، وكل هذا تحت عنوان كبير خادع اسمه التصدي للطابوهات الدينية والسياسية والجنسية.. ومثل هذا الخطاب، هو وحده المطلوب من السوق الأوروبية المشتركة، وهو وحده الذي ترضى عنه مهرجانات السينما العالمية، وهو الذي يفوز بالدعم والجوائز فيها، وهو وحده الذي تشجعه المراكز الثقافية الأجنبية، وفي مقابل هذه الحرب، ماذا نفعل نحن؟.. حقا لدينا مئات القنوات الفضائية، وهي بدورها لا تخرج عن هذا الثلاثي المرعب، والذي هو الجنس والسياسة والدين، وهو التأكيد على مخاطبة الجزء الحيواني في الإنسان العربي، وعلى مخاطبة حواسه بدل مخاطبة عقله وروحه. نفس هذه الرؤية الاختزالية هي التي تحشر كل المظاهر الفنية على تعددها واختلافها في سلة واحدة، والتي تختصر كل الفنون في فنين اثنين هما الغناء والرقص، ولا ثالث لهما.. وبرأيي الشخصي، فإن أغلب هذا الذي يسمى غناء ليس غناء على الإطلاق، لأن الأصل في الغناء أنه كلمة شعرية جميلة، وأنه لحن بديع يفسر هذه الكلمة أولا، وأنه إيقاع يتوافق مع الإيقاع النفسي الداخلي ثانيا، وأنه صوت يؤدي بإحساس ثالثا، وأنه عزف موسيقي فيه تناغم وهرمونية رابعا، وهذا ما ليس له وجود مع الأسف، إلا في الحالات النادرة جدا، والنادر لا يقاس عليه. إن أكبر تشويه لحق هذه الأغنية، هو الذي يتمثل في تحويلها إلى صور سينمائية متحركة، وفي جعلها تخاطب العين التي ترى، بدل أن تخاطب الأذن التي تسمع وتطرب لما تسمع، وليس في هذه الأغاني المصورة أو الصور المغناة غير أجساد أنثوية تتلوى، وغير أزياء غريبة، وغير أجواء سريالية بعيدة عن الواقع والحقيقة معا. ومن أغرب الغرائب أيضا، أن تجد هذه الأغنية أو تلك، باللغة العربية المحلية، ولكن أسماء العاملين في الفيديو كليب مكتوبة في الجينريك بالحروف اللاتينية، وهذه واحدة من مظاهر التغريب ومن مظاهر احتقار الذات. نفهم من كلامك أن الفن أضحى شعارا وموجة استهلاكية..لهذا عوض ذلك، كيف يمكن جعل الفن سواء كان مسرحا أو سينما .. وسيلة لجر قاطرة الحضارة؟ يمكن أن يتحقق بإرادة سياسة أولا، وبإرادة شعبية ثانيا، لأن الفن الهابط ليس قدرا مقدرا، ولكنه جزء من سياسة تسعى إلى إلهاء الشعوب بما هو سهل ورخيص، وسطحي ومتخلف، وبما هو آني وظرفي، ومادي وحسي، وذلك في مقابل ما هو فكري وعقلي، ويساهم الشعب في تزكية هذه السياسة، وذلك من خلال أميته الفنية، ومن خلال انسياقه مع التيارات المنحرفة والمحرفة في الفن. أما كيف يمكن أن نجعل هذا الفن فاعلا ومنفعلا، وأن نجعله مؤثرا ومغيرا، وأن نجعله في طليعة المجتمع كما ينبغي أن يكون، فإنني أقترح الخطوات العملية التالية: أولا، ينبغي أن يتحقق للفن الاعتراف الشعبي والرسمي، وأن يتم تصحيح تلك الرؤية الخاطئة عنه وعن دوره، والتي تحصره في التسلية والإمتاع والمؤانسة، والتي تعتبره مجرد لهو وتهريج، وأن يرد له اعتباره، وأن يفهم الفهم الصحيح، وأن يوضع في الموضع الحقيقي، وأن يصبح هذا الفن جزء أساسيا وحيويا من حياتنا اليومية، وذلك على المستوى الشعبي، وأن يكون له وجود أيضا في السياسة العامة للدولة، وأن يكون له حضور في مخططاتها وفي برامجها وفي قوانينها وفي مؤسساتها المختلفة، وأن يكون للدولة اهتمام بالذوق العام، مثل اهتمامها بالرأي العام، وأن تحرص على صحة وجماليات وأخلاقيات هذا الفن، وأن تحميه من المهربين ومن المزيفين ومن الطفيليين ومن كل يمكن أن يشوه رسالته السامية والنبيلة. ثانيا، إدخال الفن في المنظومة التربوية والتعليمية، سواء في الروضة أو في المدرسة أو في الجامعة، لأن الأساس في أي نظام تربوي هو صناعة الإنسان قبل كل شيء، الإنسان العالم والفاهم والمثقف ثقافة عامة وشاملة، ثقافة يدخل فيها المكتوب والشفهي، ويدخل فيا المعرفي والجمالي والأخلاقي، ويدخل فيها الديني والدنيوي. ويمكن أن نعترف، بأن أساس كل شيء أنه تربية، وأن المعنى الحقيقي للتربية هو أنها زراعة للقيم الرمزية الجميلة في النفوس، وعليه، فإنه لا يمكن أن نحصد غدا إلا ما زرعنا هذا اليوم. ثالثا، أن نؤمن جميعا، في القمة والقاعدة معا، أن الفن عنوان حضاري كبير وخطير، وبأنه مؤشر مادي محسوس على المعاني الرمزية الخفية، وبأنه مؤشر أيضا على الوعي الجماعي وعلى الوجدان الشعبي وعلى الذوق العام ودرجات التحضر والتمدن في أي مجتمع من المجتمعات. رابعا، أن نعرف أن الفن العظيم لا تنتجه إلا الشعوب العظيمة والمتقدمة، وأنه نتيجة طبيعية ومنطقية للمراحل التاريخية المزدهرة علميا وفكريا، وأن كل الأسماء العالمية والمبدعة الكبيرة في التاريخ لم تخرج من فراغ، وهي بالتأكيد جزء من منظومة ثقافية وحضارية كبرى. وبحثا عن هذه المنظومة إذن، ينبغي أن نبحث اليوم وغدا، وذلك من أجل أن يجد الرسام ما يرسمه، ومن أجل أن يجد الشاعر ما يتغنى به، ومن أجل أن يجد المسرحي ما يمسرحه، ومن أجل أن يجد السينمائي الحكواتي ما يحكيه. لعل آخر سؤال هو عن نصيحتك لكل مبادرة فنية تروم تحقيق الرسالة الأخلاقية باحترام وانسجام مع القواعد الفنية، انطلاقا من تجربتك الفنية الكبيرة؟ أعتقد أن الفن الجميل لا يمكن أن يكون إلا أخلاقيا بالضرورة، وبالمقابل، فإن الرؤية الأخلاقية في صفائها ونقائها، وفي طهارتها وجمالها لا يمكن أن تعطي إلا فنا جميلا ونبيلا أيضا. وحتى تكون إجابتي عامة وشاملة، وأرحب من الأخلاقيات في مستواها العرفي الضيق، فإنني أقول: إن كل مبادرة فنية حقيقية، ولكي تحقق رسالتها المعرفية والجمالية والأخلاقية الحقيقية، فإن عليها أن تكون مستوفية لكل شروط العمل الفني والإبداعي الحقيقي، والتي تأتي الأهلية والمصداقية في مقدمتها، وكل تجربة وكيفما كانت وأينما كانت فإنها مطالبة بأن تكون لها رؤية للعالم، وأن تكون هذه الرؤية بسعة الواقع والتاريخ، وبسعة الحقيقة والحلم أيضا، وأن يكون لها موقف مبدئي من الناس والأشياء، وأن تقارب قضايا الواقع مقاربة واقعية وتاريخية وحقيقية، وأن تكون متفاعلة تفاعلا إيجابيا مع هذه الحياة في ثوابتها ومتغيراتها، وأن تكون أيضا إلى جانب كل هذا شهادة صادقة على الواقع والوقائع، وأن تضيف إلى الإحساس بالأشياء شيئا من الحدس الصوفي والسوريالي، وأن تضيف إلى الإدراك المادي شيئا من التذوق العرفاني، وأن تضيف شيئا من ملح الخيال إلى الأشياء الطبيعية في الطبيعة، وأن تكون مسلحة بالعلم والمعرفة أيضا، وذلك لأنه لا وجود لفن بدون أرضية فكرية وفلسفية واضحة، وبدون نواة معرفية صلبة. كما أن أية تجربة فنية تروم تحقيق الرسالة الأخلاقية كما ذكرت، مطالبة بأن تشتغل في إطار ورش كبير، أو في إطار مشروع فني بعيد المدى، وأن تزاوج بين التنظير والممارسة، وأن تعطي لمشرعها اسما ورسما، وأن تمده بمعجمه الجيد، وأن تمده بآلياته وبأدواته، وهو ما قمت به شخصيا، وذلك على امتداد أربعة عقود من الزمن، لقد أسست التيار الاحتفالي، وجعلته فلسفة وفن وفكر الإنسان المعاصر، والذي تتهدد الوحشية إنسانيته، وتتهدد الآلية حيويته، وتتهدد الغابوية مدنيته، ويتهدد القبح جماليته، وتتهدد الفوضى نظامه وقيمه الفكرية والجمالية والأخلاقية.