في الوقت الذي تشهد فيه عدد من دول العالم المتقدم اهتماما كبيرا وبالغا بتطور مفاهيم علم الإجرام ومعها مفهوم الجريمة، وتولي هذا الموضوع عناية واضحة بغية تطوير وسائل وآليات التعامل مع الجريمة في تلك البلدان تبعا لتطورها، نجد أنّ الدول العربية والشمال إفريقية على الخصوص ما تزال تشتغل بآليات ووسائل أقلّ ما يقال عنها إنّها بدائية لم تواكب بتاتا التطورات الحاصلة على مستوى طرق وأساليب ارتكاب الجريمة؛ إذ إن علم الإجرام نفسه يعرف طفرات وتحولات لعدد كبير من مفاهيمه في إطار مواكبة مستجدات الحياة اليومية وظهور أنواع جديدة من الجرائم لم تكن موجودة في منتصف القرن الثامن عشر، حين كان الفلاسفة والمفكرون يضعون اللبنات الأولى لمفهوم علم الإجرام والجريمة، كالجريمة المنظمة، وجرائم الإرهاب، والجرائم الإلكترونية، وغيرها من الجرائم الحديثة التي لم تكن شائعة أو موجودة إبّان البدايات الأولى لما سيعرف بعلم الإجرام. ومع تطور الجريمة واتخاذها صورا وأشكالا أشدّ خطورة من الأشكال السابقة، وجدت دول العالم ومجتمعاته نفسها أمام ضرورة تطوير آلياتها كما أسلفنا في الفقرة السابقة، بدءا بترسانتها القانونية، ومرورا بتطوير جهازها القضائي ومؤسساتها العقابية لتكييفها مع هذه التحولات الجديدة، حتى يتسنى لها الإحاطة بها ومعالجتها وفق مقاربة حديثة للعقاب. وأيضا حتى لا يقع أيّ ارتباك على مستوى الأجهزة المكلفة بمعالجة الجرائم والحدّ منها. فهناك دول مثلا عملت على إضافة نصوص قانونية جديدة لتشمل ما استجدّ من جرائم جديدة، أو طوّرت ووسعت بعض نصوصها القانونية والجنائية ليتسنى لها تكييف أفعال تعتبر إجرامية ظهرت مؤخرا مع تلك النصوص والقوانين الجنائية الجاري بها العمل. كما تم تطوير مؤسساتها العقابية والإصلاحية كي تستوعب وتتأقلم هي الأخرى مع هذه النوعية الجديدة من الجرائم والمجرمين. فتم تصنيف المؤسسات العقابية والسجنية في بعض البلدان مثلا إلى مؤسسات مفتوحة وقليلة الخطورة، وأخرى متوسطة الخطورة، ومؤسسات سجنية مغلقة بالكامل وشديدة الخطورة. وقامت تلك البلدان بوضع قوانين داخلية تلائم كل صنف من الأصناف الثلاثة وطبيعة المعتقلين المتواجدين فيه. سيقول بعض المتتبعين والباحثين والمهتمين بالشأن السجني وعلم الإجرام في المغرب والوطن والعربي إنّ عددا كبيرا من بلداننا العربية قد صار على النهج نفسه، وصنّف مؤسساته العقابية وفق هذا الثالوث، لكن ما يعاب على دول الوطن العربي هو أنّها دائما ما تستورد البنية الهيكلية للمشاريع والمناهج الغربية دون أن تصاحبها بمضامينها ومحتوياتها البنيوية الداخلية، وبالتالي تكون النتيجة هي فشل تلك البنى الهيكلية. وهو الأمر الذي وقع مع محاكاة بعض البلدان العربية، ومنها المغرب، لأنظمة عقابية لدول غربية كأمريكا وفرنسا. وحتى لا نطيل ونتشعب في جزئيات هذا الموضوع الثانوية، سنعود بكم للحديث عن موضوعنا الرئيسي "طرق ووسائل التعامل مع المجرمين شديدي الخطورة". بدا بشكل واضح أنّ جلّ المجتمعات اعتمدت سياسات تؤدّي إلى تقييم الجناة والسجناء إمّا إلى فئة خطيرة أو فئة لا تشكّل خطورة على نفسها وعلى محيطها. وبالتالي عملت على تصنيف مؤسساتها السجنية تبعا للأصناف الثلاثة التي أشرنا إليها سالفا. واعتمدت في ذلك تقييم السجناء من حيت درجة خطورتهم وتشكيلهم تهديدا للأمن والسلامة أو النظام في السجون. غير أنّ ما غاب على من استورد وجلب هذه المقاربة التعاملية مع السجناء في بلداننا العربية، هو أنّ الدول التي اعتمدت هذا الإطار التصنيفي للسجناء والمؤسسات العقابية، قد وضعت مجموعة كبيرة من المعايير الهامة والآليات التي تخوّل لها إنجاح عملية التقييم تلك، وبالتالي بلوغ الغاية المنوطة بعملية التصنيف، دون أن يغيب عن ذهن تلك الدول نقطة هامة أخرى ألا وهي ضمان التوازن بين الرعاية الواجبة لهؤلاء السجناء وضمان حقوقهم التي تكفلها لهم القوانين والتشريعات الدولية والمحلية، وبين واجبها المتمثل في إصلاح السجناء وحماية المجتمع والنظام العام. وقبل أن نتطرق لتلك المعايير التي ينبغي اعتمادها في تقييم السجناء من حيت الخطورة وتصنيفهم بناء على تلك التقييمات، يجب أن نشير إلى نقطة غاية في الأهمية، وهي تحديد مفهوم كل من الخطورة الأمنية، والخطورة المتعلقة بالسيطرة على السجين وضمان انضباطه وامتثاله للقوانين الداخلية للمؤسسة السجنية. فالمخاطر الأمنية لها علاقة بعوامل خارجية بعيدة عن المؤسسة السجنية كدرجة خطورة السجين ومدى إمكانية تفكيره في الفرار، وما يشكله ذلك من خطر على الحراس وعلى رجال الأمن والمواطنين، في حين إنّ مفهوم مخاطر السيطرة يتجلّى في ما مدى انضباط السجين داخل المؤسسة السجنية واحترامه لقوانينها ومن فيها. وهذا التحديد لمفهومي الخطورة المشار إليهما يعدّ بالغ الأهمية في عملية التصنيف إذا ما أردنا مراعاة واحترام الالتزامات والمواثيق الدولية. وهو ما يغيب في دولنا العربية للأسف؛ إذ غالبا ما تركز عملية التصنيف على الخطورة الأمنية التي لها علاقة بالخارج، أي طبيعة الجريمة ونوعها والخطر الذي يشكله المجرم على المجتمع والسلطات، وبالتالي يتم إغفال إمكانية خطورة حتى من لا يشكل خطرا أمنيا خارجيا على المؤسسة السجنية وعلى من فيها، وهذا ما يتسبب غالبا في أخطاء في التصنيف تنتهي بارتكاب جرائم خطيرة على الموظفين والسجناء من معتقلين تمّ تقييمهم بناء على الخطورة الأمنية الخارجية، فصنفوا ضمن محدودي الخطورة. بناء على ما سبق، يجب على الجهات المسؤولة عن تنفيذ الأحكام القضائية أن تعمل على تقييم كل سجين عند دخوله المؤسسة السجنية، وأن يشمل التقييم مخاطر الفرار، وما يشكله الفرار في حال وقوعه على المجتمع، دون أن يتم إغفال ما يشكله السجين من خطورة على النظام داخل المؤسسة السجنية، وسلامة المتواجدين فيها من موظفين وسجناء وزوار وغيرهم. وأن يشير هذا التقييم بوضوح إلى نوع الخطورة التي يشكلها السجين، وأسباب تحديد هذه الخطورة، والأساليب التربوية والإصلاحية التي يجب أن يخضع لها هذا السجين لتحييد وعلاج هذا الانحراف السلوكي. وليس التقييم من أجل التصنيف فقط والتخلص من مشاكل السجين كما هو معتمد للأسف في بلداننا العربية. وعلى العموم، يجب أن يرتكز التقييم على النقاط الرئيسية التالية: التهديد الذي قد يشكله السجين على المجتمع في حال فراره أي تاريخ سابق لمحاولة الفرار لدى هذا السجين الخاضع للتقييم طبيعة الجريمة المعتقل بسببها، خاصة قضايا الإرهاب التي يكون أصحابها متشبعون بفكر القتل والجهاد والاعتداء على الغير جرائمه السابقة وأنواعها للوقوف على مدى عدوانيته المخاطر التي قد يشكلها على الموظفين وعلى باقي السجناء ميوله الجنسية سوابق جنسية تجاه الجنس نفسه ونبغي الإشارة أيضا إلى نقطة بالغة الأهمية، وهي أن عملية التقييم يجب أن تكون مستمرة ودائمة ودينامية، للوقوف على مدى استمرار تلك الخطورة التي على أساسها تمت عملية التصنيف، وأيضا كي يتم الوقوف على الاحتياجات الآنية للسجين في ما يخص التكوين والتأهيل وإعادة الإصلاح. بعدما تطرقنا لأهمية التقييم في عملية التصنيف، سنتطرق إلى نقطة هامة أخرى، ألا وهي "إدارة المخاطر"، وذلك اعتمادا على ثلاثة محاور رئيسية: الوقاية الرصد التدخلات إنّ إدارات المؤسسات السجنية مطالبة باتخاذ عدد من التدابير الوقائية لتقليل المخاطر إلى أدنى حد ممكن، كتقليل أعداد السجناء في كل حيّ وكل غرفة والفصل بين الأحياء بجدران كبيرة وبشكل لا يسمح بتواصل السجناء أو علمهم بما يقع في الأحياء الأخرى، بغية التحكم السريع في مكان وقوع المشكل، وكذا منع الاتصال والتواصل بين السجناء الخطيرين والمعروفين بتبنيهم لفكر معيّن كسجناء قضايا التطرف والإرهاب مثلا، تقليل وتحييد قدر الإمكان كل الأجهزة والأدوات التي قد تستخدم كأدوات حادة وأسلحة من طرف هؤلاء السجناء في إلحاق الضرر بغيرهم من السجناء أو بالموظفين، التركيز على عدم بقاء موظف وحيد في مركز ما بدون وجود زميل له، وهي نقطة بالغة الأهمية يتم إغفالها للأسف في مؤسساتنا السجنية العربية وتنتهي بكوارث خطيرة يذهب ضحيتها أبرياء من الموظفين... الخ. كما ينبغي عدم إغفال نقطة هامة تغيب للأسف في تدبير المؤسسات السجنية بوطننا العربي وهي إخضاع الموظفين أنفسهم لعملية تقييم شبيهة بتلك التي يخضع لها السجناء، ولكن مع اختلاف المسميات والمعايير، كتحديد مدى قوة الموظف وإتقانه لأدوات وفنون الدفاع عن النفس والقدرة على التدخل في المواقف الصعبة والسيطرة على السجناء الخطيرين وذوي البنيات الجسمانية القوية، تقييم وتنقيط الموظف على مدى إتقانه لأساليب التوصل والتأثير في الآخرين، تقييم أقدمية الموظف بالخدمة المهنية ومكتسباته الميدانية...الخ. وبناء على هذا التقييم يتم تحديد مراكز عمل كل موظف على حدة، وأصناف المؤسسات السجنية التي ينبغي أن يعيّن للعمل فيها، بدل الزجّ بالموظفين في مراكز لا تتناسب لا مع بنياتهم الجسدية ولا قدراتهم الدفاعية، أو حتى معارفهم ومكتسباتهم المهنية؛ إذ غالبا ما نجد أنّ معظم الجرائم التي وقعت لموظفي السجون داخل مؤسسات اشتغالهم ترجع إلى العشوائية في تدبير العنصر البشري من طرف مدراء تلك المؤسسات السجنية. دون أن نغفل أهمية التكوين المستمر وتزويد الموظفين العاملين باحتكاك مباشر مع السجناء بوسائل التدخل والدفاع عن النفس وضبط السجناء المتنطعين والمتمردين. أما في ما يتعلق بنقطة الرصد، فتتجلي أهميتها في الوقوف على خطورة حدث ما قبل نشوئه ووقوعه، وبالتالي القيام بتدخل استباقي للحيلولة دون وقوعه أصلا. ولنجاح عملية الرصد هذه ينبغي تأهيل العنصر البشري وإخضاعه لدورات تكوينية من طرف متخصصين في تقنيات الرصد والتتبع. ونشير في هذه الزاوية إلى الخطوة التي قامت بها إدارة السجون المغربية في هذا الباب، غير مسبوقة في الوطن العربي، وهي خلق جهاز جديد أطلق عليه جهاز الشؤون العامة، الذي خولت له مهمة الرصد هذه. ويبقى التدخل المرحلة الأخيرة التي يجد خلالها موظفو المؤسسات العقابية أنفسهم مطالبين بالتدخل لتحييد خطر ما، ومنع اعتداء مرتقب أو جارِ على النفس أو الغير. وعملية التدخل تلك تبقى هي الأخرى خاضعة ومقيّدة بالتشريعات القانونية المحلية والكونية المتعلقة بحدود وضوابط استعمال القوة تجاه المعتقلين. وبالتالي، فإدارات القطاعات السجنية مطالبة بتكوين موظفيها تكوينا متكاملا ولفترة زمنية كافية لاستيعاب كل برامج التكوين على أحسن وجه، بدل الفترات التكوينية القصيرة التي لا يكتسب خلالها الموظفون الجدد حتى الحدّ الأدنى من المهارات التي تمكنهم من التأقلم مع وظيفتهم الجديدة. * خبير باحث في العلوم السجنية