قد لا تتقاطع الطوبوغرافيا والأسواق المالية إلا في مسار حياة يوسف عاني، الذي خبر الحياة في المغرب وإيطاليا قبل وضع الرحال في مملكة بلجيكا لدوافع مهنية، وبينهما تطورات قلبت حياته رأسا على عقب. يعد عاني خبيرا إلكترونيا بارزا في الوقت الراهن، لكنه يرى أن اللافت في تجربته لا يتمثل في ما يقوم به؛ وإنما في مزاوجته بين العطاء في مجال يعشقه حد النخاع، من جهة، وتحوله غير المنتظر إلى احتراف أساسه الهواية، من جهة ثانية. بين تطوان و"الطليان" يوسف عاني تطواني المولد وفاسي النشأة، إذ رأى النور في "مدينة الحمامة" سنة 1989، بينما لازم "العاصمة العلمية" حتى بلغ ال14 من عمره، وبعدها رافق أسرته في تجربة هجرة خارج المغرب. يقول عاني إن ذكريات الطفولة ترتبط بفاس أكثر من غيرها، إذ غادر تطوان وعمره سنتان للعيش ثلاثة أعوام أخرى في القنيطرة، ولم يعرف غير رحاب فاس حين بدأ يستجمع الذكريات التي لا تُمحى. "الظروف العائلية أملت عليّ وأسرتي مغادرة الوطن قبل الوصول إلى المرحلة الثانوية من الدراسة، لذلك وجدت نفسي مدعوا إلى الترعرع ضمن فضاء عيش بديل بالديار الإيطالية"، يردف يوسف. تأقلم وهواية وجد الوافد من فاس بضع صعوبات في التأقلم في إيطاليا، وقد ارتبط هذا أساسا باختلاف أحوال الطقس عما اعتاده في المغرب، بينما ساهم ضبطه الفرنسية في مدارس فاس بشكل إيجابي في تعلمه الإيطالية بلا مشاكل. يتذكر يوسف عاني أن اعتياده على التعامل مع أقرانه من الإيطاليين لم يستلزم غير 6 أشهر، وبعدها سارت الأمور بلا مشاكل تذكر، ثم سار على درب التقدم دراسيا بميل إلى الغدو مهندسا للمسح الطوبوغرافي في المستقبل. يرسم المغربي نفسه ابتسامة عريضة حين يستحضر هوسه بالمعلوميات خلال هذه المرحلة، دون أن يعي أن هذه الهواية ستتحول إلى احتراف في المستقبل، إذ حرص على التواجد وقتا طويلا وراء شاشة الحاسوب بحثا عن مستجدات المجال. هجرة ثانية إلى بلجيكا حرص يوسف عاني على ولوج سوق الشغل في سن ال18، مقبلا على الوفاء بالتزاماته العملية في ميدان المعلوميات نهارا قبل الإقبال على فصول الدراسة خلال الفترة المسائية، مرجعا ذلك إلى رغبته في إعفاء والديه من متطلباته المالية. ويضيف: "سبقني شقيقاي إلى الاستقرار في بلجيكا، وعند زيارتهما على مدى سنتين أعجبت بنمط الحياة في هذه البلاد، كما صار لي معارف هناك..ثم حصلت على فرصة اشتغال ببروكسيل أبعدتني عن العيش في إيطاليا". يوسف لا يتردد في الإقرار بتكوينه العصامي في مجال المعلوميات، لكن ذلك لم يمنعه من الدراسة الجامعية لهذا التخصص في بلجيكا بعدما اقتنع بأن التوفر على شهادات عالية المستوى يتيح التقدم بثبات على المستويين الاجتماعي والمادي. محطات مهنية متتالية اشتغل عاني مستشارا خارجيا ل"وينكور نيكسدورف"، متعاطيا مع تركيب أنظمة المعالجة الخاصة بالصرافات الآلية للبنوك الإيطالية، وبعد ذلك جاور شركة للتواصل على الأنترنيت بدأ فيها مساره كمتخصص في البرمجة من خلال التعامل مع طلبات مؤسسات مختلفة. وبعد حضور ندوة عن لغات البرمجة، قبل يوسف عرضا للاشتغال مستشارا معلوماتيا خارجيا في الملفات الدفاعية، مرتبطا بحاجيات الشرطة الفدرالية البلجيكية، ومقدما أداء جيدا في إعادة برمجة مجموع الأنظمة الداخلية لهذه المؤسسة خلال 3 شهور فقط. عمل الإطار المغربي لاحقا مع "آكسا" للتأمينات في رقمنة بعض المعاملات الداخلية الخاصة بمستخدميها، ثم التحق بشركة ناشئة متعاملة مع الأسواق المالية، بتركيز على تحليل الأداء، وهنا أفلح في إحداث آليات مدققة ضمن المؤشرات التي تخدم اتخاذ القرار بالبورصة. "هذه المحطة جعلتني على تواصل مع زبائن من الأبناك ووسطاء لمعاملات الأسواق المالية الكبرى..وبعد مراكمة خبرة طيلة 5 سنوات قررت الانتقال نحو مهمة جديدة في شركة كبيرة على مستوى بورصة بروكسيل، وأركز حاليا ضمن مشروع كبير لمصلحتها"، يكشف يوسف عاني. فوائد من تداعيات كورونا لا يخفي الخبير المعلوماتي استفادته مهنيا من تداعيات تفشي فيروس كورونا، وأن "مصائب قوم عند قوم فوائد" أيضا، إذ يعمل لحسابه الخاص على توفير حاجيات مؤسسات عديدة لا مفر لها من المعاملات الإلكترونية حتى تتجنب الوقع السلبي للجائحة. "رغم هذا الانتعاش في الاشتغال إلا أني متحسر على الآثار السلبية لكوفيد-19 على عموم فئات المجتمع، خاصة الناس البسطاء الذين مستهم أضرار غير متوقعة.. فهذه هي الحياة؛ مليئة بالإخفاقات كما هي حبلى بالنجاحات"، يعلق يوسف عاني. النشاطات المعلوماتية الموازية للمتخصص المستقر في بلجيكا تجعله حريصا على مرافقة مجموعة من الشركات المتوسطة والصغرى لتوسيع اعتمادها على الرقمنة بعد جائحة كورونا، مستعملا مهاراته البرمجية في ميادين كضبط الأداء والتعليم عن بعد. التريث في جني الثمار يرحب يوسف عاني بجني مبكر لثمار المجهودات إن سنحت فرصة لتحقيق ذلك، لكنه يرفض أن يكون ذلك مطلبا أساسيا لأي مجتهد، ويقول في هذا السياق: "أرى أن أي فاعل مثابر سينال جزاء ما يقوم به ضمن أي مجال يتواجد فيه، لكن الاستعجال يقود إلى الإحباط". كما يشدد مراكم 17 سنة من العيش في أوروبا، بين إيطالياوبلجيكا، على أن المثابرة تكون مفيدة أكثر إن تم ربطها بالانضباط التام والدقة الشديدة، كما ينبغي الحرص على خلق هذه التوليفة في الأداء دراسيا واجتماعيا حتى يتم الاعتياد على استحضارها في كل أطوار الحياة. "قد لا ينال الشخص ما يبتغيه سريعا، لكن المثابرة تقرب كل فاعل مما يريد أن يصل إليه، ويسير هذا ببطء لكن بثبات تامّ..وفي منظوري أرى أن الوصول متأخرا يبقى أفضل كثير من عدم الوصول بالمرّة"، يختم يوسف عاني.