يعد محمد التيجيني السنين التي قضاها في صف مغاربة العالم ويعلن أنه استجمع ربع قرن من الحياة خارج البلاد التي غادرها في ربيعه الخامس والعشرين؛ لكنه يؤكد أن تفاصيل النشأة الأولى، في مدينة بركان وبين ناسها، لا تزال عالقة في باله رغم توالي الأعوام. يبقى التيجيني وجها إعلاميا بارزا في بلجيكا والمغرب، مستفيدا من تكوينات إضافية ممتدّة من العلوم القانونية إلى شؤون الأمن والدفاع، ومستحضرا خبرة مراكمة في ميدان التدبير الإداري على أعلى المستويات؛ لكنه يعلن نفسه منتوجا مغربيا صرفا بعلامة "صُنع في بلجيكا". تربية روحانية ولد محمد التيجيني خريف سنة 1970، في "عاصمة الليمون" المغربية بركان، بين أحضان عائلة تتسم بالبساطة المطلقة ولها جذور عميقة في التراث الروحي؛ بسبب انتمائها أصلا إلى الزاوية التيجانية، وبالحاضرة نفسها نشأ معتادا على طقوس الزهد ونكران الذات. يعتصر التيجيني ذاكرته ثم يرسم ابتسامة عريضة على محياه حين يؤكد أنه يتذكر كيفية مناداة الناس جدّته باسم "الفقيرة الخامسة"، ولقب "فقير" لا يلتصق إلا بالناسكين الزاهدين في متاع الدنيا، ثم يردف: "لقد كانت جدتي مْقَدّمَة الزاوية في المنطقة وقبلة للزائرات من النساء". ويرى محمد أن هذا الوسط المتصوف، الذي رأى فيه النور ولازمه سنوات متوالية، قد وسم حياته برمتها بفعل الترعرع في بيئة تتمحور على النشاط الروحي. كما أن ما تشربه من فكر صوفي قد أضحى محددا لمعاملاته اللاحقة؛ مائلا إلى مكاسب وجدانية قبل أي شيء آخر. تكوين قانوني بدأ التيجيني مساره الدراسي في "مدرسة سي البخاري الخاصة" خلال التعليم الأولى، وهي الأقدم من نوعها في جهة الشرق، ثم عرج على ابتدائية "ابن هانئ الأندلسي 1" ومنها إلى "إعدادية ابن رشد"، وحصل على شهادة الباكالوريا بعد استيفاء المرحلة الثانوية بمؤسسة "الليمون". خلال المرحلة الموالية، التحق بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية التابعة لجامعة محمد الأول في مدينة وجدة. وبعد مضي 4 سنوات، نال شهادة الإجازة في القانون العام؛ متخصصا في "الإدارة الداخلية"، ثم شرع في البحث عن سبيل للتوظيف واستكمال تكوين السلك الثالث، دفعة واحدة. يقول التيجيني: "حاولت اجتياز بعض مباريات التشغيل بالموازاة مع الرغبة في تعميق تكويني الجامعي، كل ذلك باقتصار على المغرب، ثمّ نصحني أحد أساتذتي بالبحث عن فرص أفضل متاحة في جامعات أوروبيّة؛ ثم وجدتني أحزم أغراضي من أجل الالتحاق بالأراضي البلجيكية كطالب". بلجيكا أقرب من الرباط عن قرار الهجرة إلى بلجيكا، يذكر محمد أن الأمر جاء بمحض الصدفة، ويفصّل: "غمرتني الشجاعة لخوض التجربة؛ لأن لدي معارف في بلجيكا ولا أحد لي في الرباط .. ما يعني أن بمقدوري طلب دعم الأغيار في هذا البلد الأوروبي دون أن أعرف من يمكن أن يساندني وقت الشدة في العاصمة". كما يزيد: "كانت لديّ فرصة لاجتياز مباراة مفتشي وزارة المالية بالعاصمة، بعد تخرجي مجازا في القانون، مع ضرورة الرجوع فورا إلى بركان بسبب عدم توفري على ما يكفي للمبيت في فندق ولا أعرف شخصا يمكنه استضافتي ولو ليلة واحدة في الرباط، بينما الوضع مغاير على أراضي بلجيكا". راسل التيجيني جامعة بروكسيل الحرة التي قبلت تسجيله، ثم أفلح في إقناع أسرته بضرورة بصمه على هذه الخطوة، دافعا بقدرته على المزاوجة بين العمل والدراسة حتى يتحصل على دبلوم الدراسات الجامعية العليا في تخصص القانون الإداري، في تحدٍّ لعدم الاستفادة من أي منحة دراسية. في بروكسيل "على الرغم من الوضع المالي المتواضع، فإن أسرتي جاهدت لتمكيني من تذكرة رحلة جوية أقلعت من مطار وجدة أنجاد وحطّت في مطار بروكسيل الدولي، فوصلت إلى بلجيكا سنة 1995 بلا مال؛ وبباب الميناء الجوي استقبلني أحد جيراننا ببركان؛ ومعه مكثت 10 أيام في مدينة أونڤيرس قبل أن أغادرها إلى بروكسيل؛ فلم يكن بمقدوري التأقلم مع الحاضرة التي تتحدث الفلامانية"، يصرح محمد التيجيني. في بروكسيل، التي لا يزال التيجيني يقطن فيها حتى اليوم، ركز المنحدر من بركان على دراسة القانون مع تخصيص أوقات الفراغ للعمل بدوام جزئي في مهن مختلفة، أبرزها متصل بالمطاعم والمقاهي والنظافة والأسواق، حريصا على توفير الحاجيات المالية للعيش والتكوين الأكاديمي. ويؤكد محمد أن "الأمر كان مغامرة حقيقية موسومة بتفاؤل لا حدود له؛ لكن ما دفع إلى تجاوز ذلك هو المجتمع البلجيكي الذي يمنح الفرص لذوي العزائم كي يصلوا إلى مراميهم"، ويزيد: "على الرغم من الإجهاد البدني والفكري، فإنني حققت مرادي الجامعي بالحصول على دبلوم الدراسات العليا في القانون الإداري من جامعة بروكسيل الحرة". الوزارة وأكاديمية العسكر استغرق المنتمي إلى صفوف الجالية المغربية في بلجيكا عاما بعد التخرج قبل الحصول على فرصة عمل بمؤهلاته الأكاديمية، إذ التحق بديوان وزير بلجيكي كي يغدو مسؤولا عن التعامل مع الملحقين التجاريين العرب في بروكسيل، مستفيدا في هذا الاشتغال من كونه مغربيا، ومركزا على التنسيق بين الملحقين أنفسهم وديوان الوزير والإدارات الجهوية؛ محاولا تذليل العقبات وتقريب وجهات النظر. عقب اكتساب تجربة وازنة في هذه المحطة المهنية، عمل التيجيني وسط إدارات عمومية عديدة قبل الانضمام، سنة 2006، إلى ديوان ديديي غيندغس، نائب رئيس الحكومة وزير المالية وقتها، موفيا بالتزاماته المهنية وحريصا على التنسيق بين الديوان وأداء الحزب الليبرالي؛ بتركيز على ملفّي الهجرة والإسلام. استمر هذا الأداء 4 سنوات كاملة، وبالموازاة معه التحق محمد بالأكاديمية الملكية العسكرية البلجيكية بعد قبول ترشيحه للتكوين في الدراسات العليا للأمن والدفاع، وهذا مسلك أكاديميّ ليس مفتوحا للعموم، بل يبقى حكرا على كبار الأمنيين والعسكريين مع قلة من المنخرطين في تدبير الحياة السياسية والإدارية. وعن ارتياد الأكاديمية الملكية العسكرية البلجيكية، يقول التيجيني: "أهلني تكويني الجامعي وعملي في ديوان وزاري للظفر بهذا التأطير النوعي، وأظن أني المغربي الوحيد الذي حظي بهذه الفرصة من الأكاديمية المذكورة؛ مجاورا في ذلك زملاء دراسة غالبيتهم شارفت الآن على الوصول إلى رتبة جنرال". الأداء الإعلامي يرجع ميل محمد التيجيني إلى الأداء الإعلامي إلى سنة 2005، فخلالها عمل منتجا ومقدما لبرنامج تلفزيوني تبثه قناة فلامانية بلجيكية، يحمل اسم "أرابيسك"، وهذه التجربة كانت إيجابية بالنسبة إليه وبقي أثرها يلازمه مدة من الزمن. "أعجبت بالاشتغال في هذا البرنامج التلفزيوني الحواري إنتاجا وتقديما، أي أمام الكاميرا وفي الكواليس، خاصة أن الأداء كان مغايرا لما ألفته في مساري بأكمله.. وسنة 2010 أخذت أتساءل عن إمكانية خلق قناة تلفزيونية تعنى بالجالية العربية في بلجيكا، بوجه عام، وتوفر محتوى لائق بالجالية المغربية على الخصوص"، يعترف المستقر في بروكسيل. أطلق التيجيني، قبل 10 أعوام من الآن، قناة "مغرب تيفي" على "الكابل" في بلجيكا، معلنا ميلاد مشروع استغرق 5 سنوات من التفكير، واليوم يرى أن هذا المنتوج الإعلامي قادر على تحقيق المزيد من النجاح، والتأثير أكثر في الساحة الأوروبية، على الرغم من اعتماده على إمكانيات متواضعة؛ لكنه يشدد على أن Maghreb TV يبقى مشروعا فريدا ونوعيا. قدم الإعلامي المغربي البلجيكي نفسه برنامجا أيضا على القناة التلفزيونية المغربية "الأولى"، تحت اسمَي "ضيف الأحد" و"ضيف الأولى". كما عمل على إنشاء تجربة إعلامية أخرى في المغرب، متمثلة في موقع "آشكاين" الإلكتروني، مجاهرا بأن ذلك جاء للمساهمة في التطور الديمقراطي والإعلامي الذي يعرفه الوطن الأم. "هذا الورش الرقمي أخذ مكانة في المشهد الإعلامي المغربي، وأحاول أن أساهم في إغناء محتواه رغم انشغالاتي في بلجيكا. لذلك، أخصه ببعض التسجيلات السمعية البصرية ومقالات، وأدائي في هذا الإطار يروم تحقيق إضافة متواضعة لتجربتي الشخصية مع المساهمة في إغناء الساحة الإعلامية المغربية"، يقول محمد التيجيني. البال قبل المال مستجمع ربع قرن من العيش في بلجيكا يرى أن الباحثين عن النجاح، أينما كانوا، عليهم أن ينطلقوا من رؤية واضحة وتفكير عميق، مثيرا الانتباه إلى أنه لا يمكن الاكتفاء بالتصريف اليومي لمستجدات الحياة كيفما كانت درجة نجاعة هذا التعاطي. يقول التيجيني إنه "ينبغي تحديد هدف للحياة كيفما كان، المهم أن يكون موجودا ونصب عينَي المعني به.. هذا لا يعني أن ماديات العيش ليست ضرورية، بل إن الراحة النفسية تبقى لازمة.. والتفكير ينبغي أن ينصبّ على أمور كبيرة، بلا رقابة ذاتية، وأن يقرن بالعمل الجاد والمتواصل". "الناجح من يضع رأسه على وسادة نهاية كل يوم وكله فرح بالقيمة المضافة التي حققها لذاته وجميع المحيطين به، كما أن النجاح لا يشترط التواجد في البلدان الأوروبية؛ بل يمكن نيل نجاحات أكبر حتى في الوطن الأم؛ المغرب"، يختم محمد التيجيني كلامه.