صبيحة يوم 14 أكتوبر 1988، رفع الأديب نجيب محفوظ سماعة الهاتف، على الخط المقابل أحد حرافيشه الذي فاجأه ببشارة غير متوقعة: "مبروك نوبل". ظن الروائي الكبير أن الأمر مُزحة أو مقلب فرد بالنباهة المصرية المعتادة: "دي نكتة".. حين سئل لاحقا عن ردة فعله أجاب بأنه لم يضع قط جائزة نوبل في حسبانه، لاسيما بعد أن تخطت قبله أسماء وزانة كطه حسين وتوفيق الحكيم. جاءت نوبل الأولى للأدب العربي عبر بوابة الرواية، الجنس الأدبي الدخيل على آداب العرب، ولم تأت عبر بوابة الشعر الذي كثيرا ما قُدم على أنه "ديوان العرب"، الأمة التي لم تطاولها أمة على وجه الأرض في إجادة الشعر وفي قرض أغراضه. من هذا المنطلق، توقع كثيرون أن تُعانق الجائزة الأدب العربي من منفذ الشعر، خصوصا أن المرشح موجود وجاهز حتى قبل أن يطرح اسم نجيب محفوظ على طاولة لجنة الانتقاء بالأكاديمية السويدية. عادة لا تُعلن الأكاديمية السويدية قوائم المرشحين لنيل جائزة نوبل الآداب، غير أن تسريبات القوائم النهائية في سنين عديدة أنبأت بأن الشاعر السوري على أحمد سعيد، الشهير بأدونيس (90 سنة)، ترشح أو رشح للجائزة عدة مرات. ويروج في أروقة الأدب أن الشاعر العربي يُعد من أقدم المرشحين للجائزة الذين يُجدد ترشيحهم كل سنة، فلماذا جافت الجائزة الشاعر كل هذه السنين التي امتدت لثلاثة عقود؟. على امتداد الوطن العربي، يتوفر أدونيس على مريدين كثر يدافعون عن أحقيته لنيل جائزة نوبل، بل منهم من زكى بعض ترشيحاته بالأكاديمية السويدية. وينطلق هؤلاء المتحمسون من ريادة الرجل كواحد من أعلام شعر الحداثة في الأدب العربي، والذي ساهم في تطوير أشكاله التعبيرية، بدءا بشعر التفعيلة مرورا بقصيدة النثر وانتهاء بما أسماها القصيدة الشبكية التي تقول إن كل شيء ممكن وتستعصي على التأويلات الجاهزة؛ وساهم بكل ذلك مع تجديد في توظيف اللغة على نحو فيه قدر كبير من التجريب.. مجهود إبداعي واكبه مشروع نقدي وتنظيري اهتم بنظرية الشعر وإعادة قراءة التراث الشعري والفكري العربي، مقاربا بآليات الحداثة التي يقدم نفسه كأحد سدنتها. رغم أن الجائزة المرتقبة سوف تحسب للأدب العربي قبل أن تُحلي صدر أدونيس، إلا أن هنالك أصواتا عربية كثيرة تطعن في أحقيته في نيل الجائزة..يؤاخذ عليه المناوئون هرولته للجائزة الرفيعة بشكل أساء إلى شخصه وقيمته الأدبية، ويذهبون إلى أنه لم يُبد أدنى تعفف مثلما فعل المتوج العربي الأول المثبت بالواقعة التي افتتح بها كاتب هذه السطور مقالته، ويستدلون بسعيه إلى ترجمة مؤلفاته إلى اللغة السويدية؛ إلا أن الأدهى حسب منتقديه اتخاذ مواقف محددة رأوا فيها محاولة لاسترضاء لجنة نوبل، ومن ورائها جماعات الضغط التي يعتقد أنها لها تأثير في اتجاهات الجائزة، ومنها وقوفه على الحياد السلبي من القضايا العربية المصيرية الكبرى؛ وموقفه المحتقر للدين الإسلامي ونزعته الاستئصالية ومعادته للحضارة العربية والإسلامية التي يقابلها نزوع تغريبي بين. على أن لخيبات الأمل المتكررة للشاعر ولأنصاره ومُريديه أسباب عميقة تستدعي دلالة الوقوف عندها. ما لا يعرفه كثير من العرب ممن يمنون أنفسهم بالجائزة أن الالتفاتة الفريدة للغة العربية، في شخص الروائي نجيب محفوظ، إنما اندرجت في نطاق محاولة الجائزة الانفتاح على مجموعة من اللغات الثانوية بالمعيار الجيوسياسي؛ وفي هذا النطاق منحت الجائزة لمجموعة من اللغات مرة واحدة لم تتكرر؛ منها العبرية واليديشية والاوكيتانية والبنغالية والتركية والفنلندية والأيسلندية والمجرية والصربية. ويعلم مبدعو هذه اللغات - باستثناء العرب - أن منح الجائزة إنما خضع لنظام المحاصصة، والله وحده يعلم متى سيحين دور كل منها للحظوة بجائزة ثانية. لا يخضع منح الجائزة دائما للمعايير الجمالية والفنية الموضوعية الدقيقة، وكثيرا ما أثارت بعض التتويجات استهجان الأوساط الأدبية في العالم، كالأعوام التي منحت فيها الجائزة لكتاب غير معروفين حتى داخل حدود دولهم، أو لكتاب محدودي الموهبة الأدبية، أمثال الأمريكي جون شتاينبك العام 1962، أو حماقة الأكاديمية السويدية بمنح الجائزة للسياسي البريطاني السير ونستون تشرشل في العام 1953، أو الاختيار المثير للجدل لمغني الروك الأمريكي بوب ديلان العام 2016. ولم تسلم الجائزة أيضا من شبهات التسييس، فمستحقون كثر استبعدوا لعلاقاتهم بالأنظمة الفاشية أو الديكتاتوريات أو معاداتهم للسامية، وفي حالات أخرى رجحت الاعتبارات الدبلوماسية في اختيار بعض الفائزين .الاتحاد السوفياتي المنهار أرجع تتويج كاتبيه بوريس باسترناك 1958 وألكسندر سولجنيتسين 1970 لأسباب سياسية أكثر منها للتقدير الأدبي، وجون بول سارتر نفسه عزا رفضه الجائزة العام 1964 لتحولها إلى مؤسسة صارت تفرض سلطتها على الإبداع. من جانبه أفضى القاص المصري يوسف إدريس بأن سياسيا سويديا أخبره بأن جهات سويدية مستعدة لدعم ترشيحه للجائزة إن قبل اقتسامها مناصفة مع كاتب إسرائيلي. كتب الكثير عن أسباب فشل أدونيس في معانقة جائزة نوبل للآداب، وهو إن كان أعد نفسه من جانب المواقف ليُرضي الجهة المانحة ويستجيب لمعاييرها في "البروفايل" المطلوب للجائزة، إلا أن أسبابا موضوعية كثيرة تقف عائقا أمام حلمه ورغبات مريديه، منها ما سبق وأبرزناه من خضوع اللغة العربية إلى نظام محاصصة يفرض عليها انتظار دورها في تتويج ثان شأنها شأن كثير من لغات الجائزة الواحدة. ومن العوائق أيضا أن الشعر ليس له حظ كبير مع الجائزة مقارنة بالأجناس السردية من رواية وقصة قصيرة ومسرح، ولعل ذلك ما رجح كفة نجيب محفوظ على أدونيس العام 1988؛ ثم إن الشعر نفسه يخضع لنظام محاصصة مع الأجناس الأدبية الأخرى. وربما كانت هذه السنة التي توجت فيها شاعرة في شخص الأمريكية لويز غلوك الفرصة الأخيرة لأدونيس لتحقيق حلمه القديم. منذ إحداث الجائزة إلى اليوم، لم تضم لجنة الانتقاء طوال تاريخها الطويل عضوا يتقن اللغة العربية، وحتى إن ترجمت الأعمال الشعرية لأدونيس لكل اللغات، فالمعروف عن الشعر أنه يفقد كثيرا من مقوماته الجمالية عندما يترجم إلى غير لغته، لأن الشعر معنى في مبنى، وسحره وإعجازه حين يقرأ في لغته. ولما كانت لجان الانتقاء في نوبل لا تتقن اللغة العربية على النحو المتقدم، فإنها تستعين بمساعدين خارجيين وأغلبهم نقاد لتعرف درجة تلقي الكاتب في محيطه، وهنا أيضا لا تميل الكفة لأدونيس، فكتب كثيرة تناولته بالنقد والتجريح أشهرها كتاب "أدونيس منتحلا" لكاظم جهاد الذي صدر في عدة طبعات أولها سنة 1991 عن دار إفريقيا الشرق بالدار البيضاء، وفيه يقتفي كاتبه ظاهرة التناص في شعر أدونيس التي تصل إلى مدى يصفها فيها الكاتب بأوصاف من قبيل الإغارة والسطو والسرقة والانتحال، مع تعزيز مواقفه بشواهد ومقارنات من أشعار القدماء والمحدثين، أبرزهم الشاعر الفرنسي سان جون بيرس الحاضر صوته في النص الأدونيسي بقوة. يتقاطع كل هذا مع آراء مجموعة من النقاد الآخرين الذين يرون في الشاعر فاقدا لصوت شعري مميز، ويعتبرون شعره مفككا مغرقا في الأنا والنرجسية، معليا من تضخم الأنا، مفتقدا للشعرية، منفصلا عن تربته وجذوره وثقافته العربية. لكل هذه الأسباب، يرى كثيرون أن الأكاديمية السويدية لم تجد في أعمال أدونيس صدى للمعايير التي تبحث عنها في المتوجين بالجائزة، من تعبير عن القيم الكونية في حفاظ تام على الروح المحلية، وفي استحضار لعبقرية اللغة التي يكتب بها الكاتب. ومما يقوله كثيرون في مجالسهم دون التصريح به إن الترشيحات المتكررة للشاعر على مدى ثلاثة عقود مضيعة للوقت، فمحاضر المداولات داخل الأكاديمية السويدية موجودة، وليس صعبا أن تخرج لجان الانتقاء كل مرة تعليلات الرفض السابقة. استبعد أدونيس العام 1988 لصالح نجيب محفوظ، ومازال مريدوه منذ ذلك التاريخ يرون فيه المرشح الشرعي لنوبل العربية الثانية، لكن حتى لو قُدر للغة العربية أن تجدد موعدها مع الجائزة، فلقد تغيرت المعايير؛ صارت الأكاديمية السويدية مسكونة اليوم بهاجس المناصفة بين الرجل والمرأة، للاختلال البين في قوائم الفائزين بين الجنسين، فلم تحصل على الجائزة إلا ست عشرة (16) امرأة مقابل ما يقارب المائة (100) رجل؛ لذا يعتقد كاتب هذه السطور أن حظوظ المرأة العربية وافرة في الظفر بالجائزة المقبلة، على أن البروفايل المطلوب تلزمه مجموعة من الشروط؛ منها أن تحظى المرشحة بقاعدة جماهيرية ومقروئية كبيرة في الوطن العربي، وأن تترجم أعمالها على نطاق واسع لأغلب اللغات العالمية، وأن تحمل خطابا نسويا بمسحة نضالية محوره الدفاع عن حقوق المرأة في مجتمع ذكوري مثل المجتمع العربي، شروط لا تتحقق حاليا إلا في الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي.